ولد مكسيم غوركي، واسمه الحقيقي أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف، في نيجني نوفغورود بروسيا عام 1868. واجه غوركي طفولة قاسية ملأى بالفقر والمعاناة، حيث تنقل بين كثير من الوظائف المتواضعة، منها حامل بضائع، وبائع متجول، وبحار. لم يحظَ غوركي بتعليم رسمي، لكنه تعلم القراءة والكتابة بنفسه من خلال قراءة الكتب التي وقعت بين يديه، مما صقل موهبته الأدبية، ونمى شغفه بالكتابة.
بدأ غوركي مسيرته الأدبية في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، ونشر أول قصة قصيرة له عام 1892. سرعان ما لفتت كتاباته الواقعية أنظار القراء، حيث ركزت على تصوير حياة الفقراء والمظلومين في روسيا القيصرية بصدق مؤثر، وبعد إنساني عميق.
برز نجمه بوصفه أحد أهم رواد الأدب الروسي من خلال روايته الخالدة “الأم” (1906)، التي تعد من أهم الأعمال الأدبية التي تناولت الثورة الاشتراكية. لم يقتصر إبداع غوركي على مجال الرواية، بل برز أيضًا في كتابة المسرحيات، والقصص القصيرة، والمقالات، فضلًا عن تأسيسه مدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب، التي ركزت على توظيف الأدب لخدمة المجتمع، ونشر الوعي الاجتماعي.
في رواية “الطفولة” يسافر بنا غوركي إلى أعماق طفولته القاسية، حيث يصور- بواقعية ممزوجة بالحزن- ظروفه المعيشية الصعبة، وعلاقته بجدته التي كانت مصدر حنانه الوحيد. تعد هذه الرواية سيرة ذاتية تلامس القلوب، وتثير التعاطف مع معاناة إنسان يصارع قسوة الحياة.
تعد مسرحية “الحضيض” من أهم أعمال غوركي المسرحية. تدور أحداثها في قبو مظلم، حيث يعيش مجموعة من المهمشين والمنبوذين من المجتمع. يصور غوركي معاناة هؤلاء الأشخاص وهم يصارعون من أجل البقاء في عالم قاسٍ يفتقر إلى الرحمة.
من أشهر أعمال غوركي، وهي رواية ضخمة تتكون من أربعة أجزاء، وتصنف ضمن أدب الواقعية الاشتراكية. تتتبّع الرواية حياة “كليم سامجين”؛ المثقف الروسي الذي يعيش فترة تاريخية حافلة بالتغيرات، بدءًا من ثمانينيات القرن التاسع عشر وصولًا إلى ثورة أكتوبر عام 1917.
تقدم الرواية رحلة نفسية وفلسفية معقدة من خلال أفكار بطلها ومشاعره. يصارع كليم التناقضات الداخلية، ويواجه تحديات الحياة في ظل التحولات السياسية والاجتماعية الجذرية التي تشهدها روسيا. يسلط غوركي الضوء على مختلف الأفكار والاتجاهات الفكرية والفلسفية التي كانت سائدة في روسيا في ذلك الوقت.
كان غوركي من أشد المؤيدين الاشتراكية في روسيا، فانضم إلى الحزب البلشفي عام 1905. نُفي من روسيا عام 1906 بسبب نشاطه السياسي، وعاش في المنفى بإيطاليا عدة سنوات، وكان من أشد المؤيدين للثورة البلشفية التي اندلعت في روسيا عام 1917. رأى غوركي في هذه الثورة فرصةً لتحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الظلم والقهر اللذين كان الشعب الروسي يعانيهما تحت الحكم القيصري.
قدم غوركي دعمًا كبيرًا للثورة البلشفية على مختلف الأصعدة؛ فقد استخدم موهبته الأدبية للترويج لأفكار الثورة ودعمها، وكتب كثيرًا من المقالات والقصص التي تمجد بطولات الثوار، وتشجع على التغيير. كما اضطلع بدور مهم في نشر الوعي الثوري بين الجماهير، وأسهم في تأسيس كثير من المؤسسات الثقافية التي تروج لأفكار الثورة.
على الرغم من دعمه القوي للثورة، لم تكن علاقة غوركي مع القادة البلشفيين سهلة أو مباشرة؛ فقد انتقد غوركي بعض سياسات الحزب الشيوعي، وعّبر عن مخاوفه من خطر الاستبداد والقمع. كما دافع عن حرية التعبير، وحرية الفكر؛ مما جعله- في بعض الأحيان- في صراع مع الرقابة التي فرضها الحزب الشيوعي. كما تأثر كثيرًا بعمليات القمع والاضطهاد التي شهدها خلال فترة حكم ستالين.
لم يقتصر دور غوركي على الكتابة والإبداع؛ بل كان له دور مهم في الحياة الثقافية والسياسية في روسيا؛ فقد شجع على نشر الوعي الاجتماعي، وناصر قضايا الفقراء والمظلومين. كما كان له تأثير كبير في الأجيال القادمة من الكتاب الروس والعالميين.
قضى الكاتب الروسي الشهير جزءًا كبيرًا من حياته خارج روسيا. سافر إلى كثير من البلدان المختلفة، وعاش في المنفى فترات طويلة من الزمن.
بدأ غوركي بالسفر في سن مبكرة. في عام 1891، غادر روسيا للمرة الأولى، وسافر إلى القوقاز، وتركيا، وإيطاليا. خلال هذه الرحلات، جمع انطباعات غنية عن ثقافات وحضارات مختلفة، انعكست لاحقًا في أعماله الأدبية.
في عام 1905، غادر غوركي روسيا مرة أخرى بسبب نشاطه الثوري المناهض للحكومة القيصرية. عاش في المنفى في إيطاليا عدة سنوات، حيث أصبح صديقًا لكثير من الكتاب والفنانين المشهورين.
عاد غوركي إلى روسيا عام 1918 بعد الثورة البلشفية، لكن سرعان ما انتقد بشدة النظام السوفيتي، ورأى فيه تهديدًا للحريات الفردية. في عام 1921 غادر روسيا مرة أخرى، وعاش في المنفى في ألمانيا، وإيطاليا.
كان لحياة غوركي خارج روسيا دور مهم في تطوره كاتبًا؛ فقد منحته فرصة معرفة ثقافات وحضارات مختلفة، ووسعت آفاقه الفكرية. كما سمح له المنفى بالتعبير بحرية عن آرائه السياسية دون خوف من الاضطهاد.
كتب غوركي كثيرًا من الأعمال خلال فترة وجوده خارج روسيا، من أشهرها رواية “الحياة في العالم” (1913- 1916) التي تتحدث عن طفولته وشبابه في روسيا ما قبل الثورة، ورواية “فاسيلي كونين” (1925) التي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، وتتحدث عن صعود إمبراطورية روسيا وسقوطها.
في عام 1896، تزوج غوركي للمرة الأولى بيكاترينا باشكوفا، وهي طالبة جامعية ثورية. كان زواجهما مضطربًا منذ البداية، وغالبًا ما كانا يعانيان الفقر والخلافات الشخصية. أنجب الزوجان ابنًا واحدًا هو ماكسيم، انفصل الزوجان عام 1903.
في عام 1905 تزوج غوركي للمرة الثانية بالممثلة المسرحية الشهيرة ماريا أندرييفا. كانت علاقتهما أكثر استقرارًا من زواجه الأول، وعاشا معًا 16 عامًا. سافر الزوجان معًا، وشاركا في كثير من الأعمال الإبداعية. ساعدت أندرييفا غوركي في إدارة شؤونه المالية، وكانت مصدر إلهام لبعض أعماله، ومع ذلك، بدأت علاقتهما بالتدهور تدريجيًّا مع مرور الوقت، وانفصلا عام 1921.
كان غوركي أبًا حنونًا لابنه ماكسيم، كما كان له تأثير كبير في كثير من الأشخاص الذين عاشوا معه، ومنهم ابنة زوجته كاتيا التي اعتبرها مثل ابنته.
إلى جانب زواجه، كان لغوركي كثير من العلاقات مع النساء الأخريات، أشهرها كانت علاقته مع الكاتبة ألكسندرا كولونتاي، التي استمرت عدة سنوات. كما كانت له علاقات قصيرة مع الكاتبة ماريا زايتسيف، والشاعرة أيدا كوفمان.
كان للحياة العائلية والعلاقات الشخصية لغوركي دور مهم في كتاباته؛ إذ استكشف موضوعات الحب، والخسارة، والعائلة، في أعماله، وهي مستوحاة من تجاربه الشخصية.
في عام 1928، احتفل غوركي بعيد ميلاده الستين، وبدعوة من ستالين، جاء إلى الاتحاد السوفيتي ليرى إنجازات الدولة الجديدة، واستقبله آلاف الأشخاص، وأقيمت له حفلات استقبال رسمية. سافر غوركي إلى جميع أنحاء البلاد، وذهب إلى سولوفكي للتحدث إلى السجناء.
عاش في إيطاليا حتى عام 1932، لكن الحكومة السوفيتية أرادت أن يعود الكاتب أخيرًا إلى وطنه. في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، مُنح غوركي وسام لينين، وأُعيدت تسمية أحد شوارع وسط موسكو باسمه، وأيضًا مسرح موسكو للفنون، والمعهد الأدبي الذي أُسِّسَ باسمه. انتقل مكسيم غوركي إلى الاتحاد السوفيتي عام 1933. وبعد ثلاث سنوات، أي عام 1936، توفي في موسكو، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًّا ضخمًا أثّر في مسار الأدب العالمي. ورغم عدم فوزه بجائزة نوبل للآداب التي رشح لها خمس مرات، فإنه حصل على كثير من الجوائز والأوسمة؛ تقديرًا لإسهاماته في الأدب والثقافة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.