
في السنوات القليلة الماضية، شهدت منطقة آسيا الوسطى تحولات إستراتيجية غير مسبوقة، فلم تعد العلاقات الدولية محصورة ضمن جغرافيا محددة؛ بل امتدت لتشمل تحالفات جديدة وغير تقليدية، وفي هذا السياق تبرز خطوة كازاخستان نحو التطبيع مع إسرائيل بوصفها حدثًا استثنائيًّا، لكونها أول دولة مركزية في آسيا الوسطى تنخرط رسميًا في اتفاقات أبراهام، ما يعكس اختبارًا صعبًا لقدرة الدولة على إعادة صياغة مصالحها الوطنية ضمن شبكة التحالفات الإقليمية والدولية، حيث يثير توقيت إعلان التطبيع التساؤلات عن مستقبل النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وهل يمكن أن يكون نموذج كازاخستان محفزًا لدول آسيا الوسطى الأخرى لخطوات مماثلة؟ وما مدى قدرة هذه الشراكة على إعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية وتعزيز الأمن الإقليمي؟ إضافة إلى ذلك، يبرز الجدل بشأن التوازن بين المكاسب الاقتصادية والأمنية من جهة، والأخطار السياسية والاجتماعية من جهة أخرى، لكل من كازاخستان وإسرائيل والولايات المتحدة، وتحديدًا الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بوصفه الراعي الرسمي لاتفاقيات التطبيع.
مع أن العلاقات الرسمية بين إسرائيل وكازاخستان بدأت بعد استقلال كازاخستان عن الاتحاد السوفيتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991، فإن التفاعل بين الشعبين له جذور أقدم، فخلال الحقبة السوفيتية، استقر عدد محدود من اليهود في كازاخستان نتيجة التهجير القسري خلال الحرب العالمية الثانية، وسياسات التوطين السوفيتية، مما خلق مجتمعًا يهوديًا صغيرًا أثر في روابط ثقافية لاحقًا، وبعد الاستقلال عملت كازاخستان على إعادة بناء علاقاتها مع الدول الغربية والشرق أوسطية -ومنها إسرائيل- ضمن سياستها المتعددة المحاور.
بدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين في أوائل التسعينيات بعد استقلال كازاخستان، وشهدت تبادل السفراء وتوقيع اتفاقيات تعاون متعددة المجالات. شملت هذه الاتفاقيات مجالات التجارة والاستثمار من خلال اتفاقيات لتعزيز التبادل التجاري وخاصة في التكنولوجيا والزراعة، ومجال التعليم والعلوم من خلال برامج تبادل أكاديمي وبحثي بين الجامعات الإسرائيلية والكازاخستانية، كما ترسخت الثقافة والدبلوماسية الشعبية عن طريق أنشطة مشتركة للجاليات اليهودية والكازاخستانية للتقارب بين الشعبين.
وخلال العقد الأول من استقلال كازاخستان، ركز التعاون مع إسرائيل على الزراعة وإدارة المياه والطاقة الشمسية، حيث استفادت أستانا من خبرة تل أبيب في التقنيات الزراعية، كما بدأت شركات إسرائيلية بالدخول إلى كازاخستان في مشروعات المدن الذكية والمراقبة الأمنية، وهو ما أرسى ركيزة لعلاقات إستراتيجية أكثر عمقًا. ومع أن التعاون العسكري كان محدودًا نسبيًا في التسعينيات، فإن إسرائيل وكازاخستان بدأتا تنسيقًا في مجالات الأمن والاستخبارات منذ منتصف العقد الأول من الألفية، مع التركيز على مراقبة الحدود، خاصةً الحدود الجنوبية مع أفغانستان، وتدريب القوات الأمنية الكازاخستانية على مكافحة الإرهاب، فضلًا عن تبادل الخبرات في الأمن السيبراني، ومكافحة التهديدات غير التقليدية.
ولكن مع دخول أستانا مرحلة الانفتاح الاقتصادي والسياسي، توسعت العلاقات بين إسرائيل وكازاخستان لتشمل الطاقة والتكنولوجيا المتقدمة ومشروعات الطاقة الشمسية والطاقة النووية والشراكات اللوجستية والتجارية من خلال دخول شركات إسرائيلية في البنى التحتية، ما جعل إسرائيل تؤسس لشراكة إستراتيجية مع كازاخستان لمواجهة النفوذ الروسي والصيني والتركي في قلب آسيا الوسطى.
يُعد انضمام كازاخستان إلى اتفاقات أبراهام تحولًا رمزيًا وإستراتيجيًا، لأنه يوسع دائرة التطبيع الإسرائيلي خارج الشرق الأوسط إلى قلب آسيا الوسطى. هذا التوسع قد يعزز قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على بناء نظام إقليمي بديل في أوراسيا، ما قد يقيد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. ومن منظور أمني، تتيح هذه العلاقة الجديدة لإسرائيل شريكًا إستراتيجيًا في آسيا الوسطى يمكنه تقديم معلومات استخباراتية، ونقاط وصول لوجستية، ودعم لوجود دبلوماسي وأمني أوسع، لكن في مقابل هذا فإن التطبيع قد يراه بعض الفاعلين في المنطقة محاولة لشرعنة علاقات مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية، مما قد يولد توترات داخلية في بعض الدول الإسلامية، أو ضغط شعبي ضد الحكومات التي تنضم إلى هذه الاتفاقات.
وعلى المستوى الإقليمي، قد يعطي التقارب مع كازاخستان دفعة لخطاب التطبيع بوصفه أداة دبلوماسية، لكنه في الوقت نفسه قد يعزز الشعور بأن بعض الدول تُخضع قضيتها الفلسطينية للتوازنات الجيوسياسية، ما قد يثير تهديدًا محتملاً لموازين القوى في آسيا الوسطى إذا ما استخدم لترسيخ نفوذ أجنبي في دول تراها بعض القوى التقليدية ضمن منطقة نفوذها. فانضمام دولة مسلمة كبرى وغير عربية مثل كازاخستان إلى اتفاقيات أبراهام يشكل رسالة قوية من إسرائيل إلى العالمين الإسلامي والأوراسي بأنها قادرة على إقامة شراكات أوسع من مجرد العلاقات مع دول الخليج، وهذا التحول الرمزي يمكن أن تستخدمه إسرائيل والولايات المتحدة لتسويق نموذج السلام الاقتصادي والدبلوماسي بوصفه بديلًا للصراع التقليدي، ما قد يشكل ضغطًا على الدول الأخرى لتبني النهج نفسه.
بالإضافة إلى ما سبق فإن وجود شراكة أعمق بين كازاخستان وإسرائيل قد يُثير قلقًا من احتمالية استخدام التكنولوجيا الأمنية العالية، أو القدرات الاستخباراتية الإسرائيلية، للتدخل في القضايا الإقليمية، أو دعم أجندات قد لا تكون في مصلحة بعض الدول المجاورة، ما قد يؤدي إلى سباق تأثير دبلوماسي بين القوى الكبرى (روسيا، والصين، والولايات المتحدة) على حساب استقرار آسيا الوسطى، خاصةً إذا رأت هذه القوى أن التطبيع يغير ميزان النفوذ في المنطقة، ولعل الارتداد الأهم للتطبيع بين كازخستان وإسرائيل احتمالية استغلال الأخيرة وجودها المتزايد في آسيا الوسطى في بناء قدرات دفاعية لتلك الدول لتكوين محور دفاعي يخدم أمن تل أبيب.
يثير قيام كازاخستان بخطوات رسمية نحو التطبيع مع إسرائيل ضمن إطار اتفاقات أبراهام الجدل بشأن مستقبل العلاقات بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى الأربع، فمع أن أوزبكستان تتبنى سياسة خارجية براغماتية، لم تصدر حتى الآن خطوات رسمية نحو التطبيع الكامل، لكنها بدأت علاقات تجارية واستثمارية محدودة مع إسرائيل؛ ومن ثم فإن التطبيع الرسمي مع إسرائيل قد يتم تدريجيًّا ضمن إطار مبادرات اقتصادية وتجارية، خاصة في مجالات الزراعة والطاقة المتجددة، حيث يمكن لأوزبكستان أن تصبح محورًا محايدًا لتعزيز نفوذ إسرائيل والغرب في آسيا الوسطى دون مواجهة مباشرة مع روسيا.
تركمانستان التي تنتهج سياسة الحياد الدائم، وهي الأكثر تحفظًا في دول آسيا الوسطى، من المرجح أن تظل حذرة، مفضلةً تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل دون خطوات سياسية واضحة نحو التطبيع الكامل؛ ما يجبر إسرائيل على التركيز على التعاون في القطاعات الاقتصادية، مثل الطاقة والغاز الطبيعي، والاستثمار في المشروعات اللوجستية، بديلًا عن التطبيع السياسي.
ولعل العلاقات المتواضعة بين قرغيزستان وإسرائيل التي تعتمد على التعاون الفني والثقافي ومبادرات تجارية محدودة تجعل التطبيع الرسمي مع إسرائيل يواجه تحديات اجتماعية وسياسية نظرًا إلى الحساسية الدينية والضغط الشعبي على الحكومة، ما يجعل إسرائيل تستخدم نموذج التعاون الاقتصادي لتأسيس ثقة تدريجية مع قرغيزستان قبل أي خطوات رسمية للتقارب. وبالنظر إلى طاجيكستان التي تجمعها علاقات غير رسمية مع إسرائيل، بسبب السياسات الداخلية المحافظة، واعتماد الحكومة الطاجيكية على روسيا بوصفها حليفًا رئيسًا، فإن التطبيع الرسمي غير محتمل على المدى القصير، لكن التعاون الاقتصادي والفني يمكن أن ينمو تدريجيًا بين البلدين.
مما سبق يمكن القول إن التطبيع المحتمل بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى الذي بدأ بكازاخستان يشكل تحولًا جيوستراتيجيًا مهمًا في المنطقة، ويعكس نهجًا متعدد المحاور يجمع بين المصالح الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية، لكنه في المقابل اختبار دقيق للتوازن بين النفوذ الإقليمي والضغوط الداخلية والتحديات الجيوسياسية للجمهوريات الخمس؛ ومن ثم فإن نجاح هذا النموذج يمكن أن يمنح إسرائيل فرصة ذهبية لنسج شبكة أوسع من التطبيع، تمتد خارج الشرق الأوسط التقليدي لتشمل قلب أوراسيا، غير أن النفوذ الروسي والصيني في الجمهوريات الخمس يؤدي دورًا رئيسًا في تحديد سرعة التطبيع وعمقه، كما أن المصالح الاقتصادية والتكنولوجية بين دول آسيا الوسطى وإسرائيل قد تسرع مسار التقارب، حيث تسعى الجمهوريات الخمس -بتباين توجهاتها- للاستفادة من التكنولوجيا الإسرائيلية في الزراعة والطاقة والأمن السيبراني والتنمية المستدامة. فضلًا عن هذا، فإن الانخراط الأمريكي عبر الشراكات الاقتصادية، خاصة في مجال المعادن الحرجة والطاقة، يمكن أن يدعم مسار التطبيع، ويقلل الأخطار الإقليمية، لكن العامل الديني والاجتماعي سيظل العائق الأول الذي يحد من خطوات التطبيع السياسي المباشر، خاصة في أوزبكستان وقرغيزستان على المدى المنظور.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير