أبحاث ودراسات

بعد فوز ترمب.. هل سينتصر لآسيا الوسطى؟


  • 10 نوفمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: orfonline.org

المقدمة

بينما ترتكز جُل التحليلات على تأثير فوز دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأمريكية في القوى الإقليمية والدولية، وبدء تشكيل خريطة الحلفاء والأعداء للرئيس الـ47 للولايات المتحدة، ينصب هذا التحليل على الإقليم المنسي في “قلب العالم”، وماذا يعني فوز ترمب لزعماء دول آسيا الوسطى، فقد كشفت رسائل التهنئة الثلاث الطويلة من زعماء أوزبكستان وكازخستان وقرغيزستان عن طموح هذه الدول إلى تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة، وقدمت هذه الرسائل لمحة عما ترغب دول آسيا الوسطى في رؤيته من الإدارة الأمريكية  خلال السنوات الأربع المقبلة، على عكس رسائل التهنئة المقتضبة التي وجهت إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد فوزه.

إن أحد المؤشرات الرئيسة على وضع آسيا الوسطى الهامشي في السياسة الخارجية الأمريكية هو أنه تاريخيًّا لم يسبق لرئيس أمريكي زيارة المنطقة، أو عقد قمة هناك مع زعماء آسيا الوسطى، فكثيرًا ما ظلت الجمهوريات الخمس مقارنة بالأولويات العالمية الأخرى في ذيل القائمة؛ ومن ثم يستوجب ما سبق طرح عدد من الأسئلة التي من شأنها تفكيك المستقبل المعقد أمام علاقة الستانات الخمس بالولايات المتحدة، من أبرزها: كيف تنعكس المستجدات الإقليمية والدولية على السياسة الخارجية الأمريكية في الجمهوريات الخمس؟  وهل ستؤثر نتيجة الانتخابات الأمريكية في تغيير التوازن العالمي في آسيا الوسطى؟ وما مستقبل صيغة c1+5″ في ظل إدارة الرئيس الجديد؟

محورية الانتخابات الأمريكية لآسيا الوسطى

لطالما كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية ذات تأثير كبير في السياسة الخارجية لمختلف البلدان، بما في ذلك العلاقات مع دول آسيا الوسطى. ورغم التهميش التاريخي لجمهوريات آسيا الوسطى، فإن الولايات المتحدة تتفاعل بنشاط مع المنطقة من خلال القنوات الدبلوماسية وأشكال التعاون المختلفة، وهذا يؤكد الأهمية الإستراتيجية لآسيا الوسطى بالنسبة للولايات المتحدة، حتى بدون الزيارات الرئاسية المباشرة.

وفي ضوء تفضيل الجمهوريات الخمس للسياسات الخارجية المتعددة الاتجاهات، والجهود الأكثر حداثة داخل المنطقة لتعزيز التعاون، راقبت آسيا الوسطى الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن كثب، ارتباطًا بالطبيعة الإستراتيجية للتعاون الإقليمي مع الولايات المتحدة، فخلال فترة رئاسة دونالد ترمب الأولى، اعتُمدت إستراتيجية الولايات المتحدة لآسيا الوسطى (2019- 2025) من أجل تعزيز السيادة والازدهار الاقتصادي، التي تهدف إلى توطيد استقلال دول المنطقة، وتشجيع تنميتها الاقتصادية، وضمان الاستقرار في الجمهوريات الخمس، والتي حظيت آنذاك بترحيب واسع النطاق في المنطقة؛ لأنها سعت إلى تعزيز العلاقات التجارية، مع التركيز القوي على سيادة واستقرار الستانات الخمس، وهو ما انعكس جليًا، خاصةً في أوزبكستان وكازاخستان، عبر خلقها فرصًا جديدة للإصلاح والتعاون داخل المنطقة، وترسيخ الوجود الأمريكي في المنطقة.

ولعل الاعتبار الأبرز في مراقبة دول آسيا الوسطى للانتخابات الرئاسية الأمريكية يتعلق بأهمية منصة الحوار C5+1   التي دُشنت عام 2015، في أثناء رئاسة باراك أوباما للولايات المتحدة، والتي تنص على عقد اجتماعات منتظمة لوزراء خارجية الدول الخمس في آسيا الوسطى والولايات المتحدة؛ ومن ثم شكلت هذه المبادرة خطوة مهمة في تطوير التعاون الدبلوماسي الهادف إلى معالجة القضايا الرئيسة في مجالات الأمن والاقتصاد والبيئة في بلدان آسيا الوسطى.

وخلال رئاسة الرئيس الأمريكي جو بايدن، انعقد اجتماع تاريخي لقادة مجموعة 5+1 على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في عام 2023، بهدف تعزيز دور المنصة في السياسة الدولية، حيث جسدت القمة بداية مرحلة جديدة من التعاون بين دول آسيا الوسطى والولايات المتحدة، وفي أعقاب الاجتماع اعتُمد إعلان يتناول التحديات العالمية والإقليمية الحالية للمجموعة، ويحدد المجالات الرئيسة للتعاون في المستقبل.

وانطلاقًا من التزامات الولايات المتحدة بموجب تلك الصيغة، قدمت 9 مليارات دولار -حتى الآن- مساعدات مالية لدعم الأمن والنمو الاقتصادي، وتمويل البرامج التعليمية والثقافية في دول آسيا الوسطى، وفي الوقت نفسه، استثمرت الشركات الخاصة الأمريكية أكثر من 31 مليار دولار في مشروعات تجارية في المنطقة؛ مما أدى إلى خلق الآلاف من فرص العمل، والمساهمة في التنمية الاقتصادية في الجمهوريات الخمس.

مصالح الرئيس الجديد في آسيا الوسطى

تنظر الولايات المتحدة إلى الجمهوريات الخمس على أنها ساحة إستراتيجية في قلب القارة الآسيوية؛ لذا تتمثل أبرز المكاسب التي سيسعى ترمب إلى ضمانها في السنوات الأربع المقبلة فيما يلي:

  1. الاعتبارات الأمنية والعسكرية: تطمح الولايات المتحدة إلى إرساء نقطة ارتكاز عسكرية في بلدان آسيا الوسطى من خلال عودة تدشين قواعد عسكرية أمريكية، فقد كان لدى الولايات المتحدة قاعدتان عسكريتان أُنشئتا في أعقاب أحداث سبتمبر 2001؛ الأولى قاعدة كارشي خان آباد في أوزباكستان، كانت الولايات المتحدة تستخدمها في مهام النقل والإمداد والتموين، وانتهى الوجود الأمريكي فيها بين عامي 2004 و2005، والثانية قاعدة مطار ماناس في قرغيزستان، التي أنهت القوات الأمريكية العمل فيها عام 2015، وما لبث أن جدد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 عزم واشنطن على بناء قواعد جديدة في الجمهوريات الخمس لملء الفراغ الأمني الأمريكي في المنطقة.
  2. أداة ضغط أمريكية: تجددت الأهمية الإستراتيجية لآسيا الوسطى بالنسبة للولايات المتحدة في ضوء خطط القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الصين وروسيا، وطموحهما التوسعي في المنطقة ذات الموقع الجغرافي الفريد، فضلًا عن تركيا وإيران اللتين تريان جمهوريات آسيا الوسطى امتدادًا طبيعيًّا لإرثهما الثقافي.
  3. الأهمية الإستراتيجية لقلب العالم: تعد المنطقة مفترق طرق إستراتيجية وتجارية بين أوروبا وآسيا؛ إذ تعمل آسيا الوسطى كمركز مهم للطاقة بسبب احتياطياتها الضخمة من النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى، فضلًا عن موقعها الجغرافي الإستراتيجي؛ ما جعلها مركزًا رئيسًا للتجارة العالمية والتبادلات الثقافية.
  4. استكمال النهج الأمريكي تجاه دول آسيا الوسطى: من المرجح أن يسعى ترمب إلى الحفاظ على جهود الإدارات الأمريكية السابقة لنسج علاقات وطيدة مع دول المنطقة تمثلت أبرز مخرجاتها في الإستراتيجية الأمريكية ذات المبادئ الستة (دعم سيادة دول المنطقة واستقلالها- الحد من التهديدات الإرهابية- تعزيز استقرار أفغانستان وتطوير العلاقات الاقتصادية بينها وبين آسيا الوسطى- تشجيع التكامل الإقليمي- دعم الإصلاحات في مجالات سيادة القانون وحقوق الإنسان- تحفيز الاستثمارات الأمريكية في المنطقة).
  5. مواجهة مباشرة لمبادرة الحزام والطريق: تعد الصين التحدي الأكبر للولايات المتحدة، كما أظهرت وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2021، ونظرًا إلى ارتباط منطقة آسيا الوسطى بديناميكيات الصعود الصيني لكونها بوابة انطلاق لمبادرة الحزام والطريق، وعلى غرار سياسة إدارة بايدن لاحتواء صعود الصين في المنطقة، سيعمل ترامب غالبًا على استكمال هذا النهج.

مستقبل العلاقات الأمريكية مع الجمهوريات الخمس

تظل نقطة المرجعية الأولى  في العلاقات الأمريكية مع دول آسيا الوسطى هي صيغة 5+1C، التي عُقدت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما بدأ الرئيس جورج بوش الابن بالاجتماع مع رؤساء دول هذه البلدان (باستثناء تركمانستان، التي انضمت لاحقًا) لتقييم الآفاق التي لا تزال مشروطة بالإرث السوفيتي، وخاصة في أفغانستان، والصراعات التي نشأت بعد هجمات عام 2001، غير أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما هو الذي رسم الصيغة التي اعتمد عليها بايدن في اجتماعه  مع زعماء آسيا الوسطى عام 2023.

يعول على ترمب بعد فوزه بالولاية الجديدة أن يعمل على تحديث تلك الصيغة؛ من خلال التركيز على نحو أكبر على تعزيز التعاون الاقتصادي، وضمان الأمن الإقليمي، وفي هذه الحالة، سيتم إيلاء اهتمام خاص لخلق الظروف المواتية للمستثمرين الأمريكيين، فضلًا عن استمرار السياسات الرامية إلى الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، من خلال التعامل مع التحديات الجديدة، وقد يصبح نهج ترمب أكثر عملية من بايدن من خلال التركيز على القضايا الأمنية والفوائد الاقتصادية لكلا الجانبين.

ومع أن الاتجاهات الرئيسة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال السنوات الأربع المقبلة لم تتضح بعد، خاصة في ظل تجاهل الحديث عن تلك البلدان في أثناء حملة ترمب الانتخابية، فإن الترجيح ينصب في تعزيز الإصلاحات الاقتصادية بما يخدم المصالح الأمريكية، وقد يُخصص قدر كبير من الاهتمام لتعزيز العلاقات التجارية مع تلك الدول؛ من خلال دعم رقمنة الاقتصاد، وتطوير البنية الأساسية للنقل والخدمات اللوجستية، وهو ما سيسمح لدول آسيا الوسطى بالانخراط على نحو أكثر نشاطًا في الاقتصاد العالمي؛ ومن ثم، قد ترى دول آسيا الوسطى في فوز دونالد ترمب بالانتخابات الأمريكية الأخيرة فرصة لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة؛ ارتباطًا بأن ترمب لن يركز على تعزيز سجلات حقوق الإنسان وعملية التحول الديمقراطي، تاركًا الحكم الداخلي لتوجهات تلك الدول، فمن غير المرجح أن يواصل ترمب جهود بايدن المؤيدة للديمقراطية، التي كانت محل توتر جلي بين إدارة بايدن وزعماء الجمهوريات الخمس طوال فترة ولايته.

ولعل العلاقة بين ترمب وبوتين قد تكون محددًا مهمًّا لمستقبل العلاقات الأمريكية مع دول آسيا الوسطى، ففي حال سعى ترمب إلى تعزيز العلاقات الودية مع روسيا، فمن شأن هذا تقليل الأهمية المرتبطة بآسيا الوسطى في السياسة الأمريكية النابعة من استغلال المنطقة كورقة ضغط على موسكو، ما قد يمثل فرصة للجمهوريات الخمس في تعزيز علاقتها الخارجية بعيدًا عن حسابات الاستقطاب بين معسكري الشرق والغرب.

الخاتمة

على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، اتبعت دول آسيا الوسطى سياسة خارجية متعددة الاتجاهات تركز على إقامة علاقات براغماتية مع القوى الإقليمية والدولية، ليسمح هذا النهج للجمهوريات الخمس بموازنة العلاقات مع القوى الخارجية المختلفة. ويعزز هذا المسار مرونتها الاقتصادية وأمنها، ومواقفها على الساحة العالمية، كما تمكن تلك السياسة دول آسيا الوسطى من الاستجابة على نحو أسرع للتحديات العالمية، والتكيف بفاعلية مع الظروف الجيوسياسية المتغيرة.

ومع انتخاب ترمب رئيسًا للولايات المتحدة في انتخابات 2024، من المتوقع أن تتأثر السياسة الخارجية للبلاد في آسيا الوسطى بالعوامل الخارجية، فمع أن هذه المنطقة لم تكن على رأس أولويات الرؤساء الـ46 للولايات المتحدة، فإن الديناميكيات الجيوسياسية الحالية، على صعيد المنافسة الإستراتيجية مع القوى الإقليمية والدولية والحرب الدائرة في الإقليم، قد تعيد تشكيل نهج الولايات المتحدة، وتنبئ بتحول إستراتيجي في إدارة ترمب على مدى السنوات الأربع المقبلة تجاه الستانات الخمس.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع