ربما لا يعرف العالم رجلا عالج الجسد وخاطب العقل مثلما فعل ابن سينا، وربما لا يجمع رجل في نظر محيطيه بين التمجيد والتكفير مثلما كانت الحال معه، فالأوربيون يرون فيه أبا الطب، وقد كان المعلم الأول لهم في هذا العلم وفصوله، أما معاصروه ومجايلوه من رجال العلم بالدين فقد كفروه بسبب بعض آرائه الفلسفية التي كان من بينها القول بقدم العالم، ونفي الميعاد الجسماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي وإنما بعلم كلي.
أما المنصفون الحقيقيون فيدركون أن ابن سينا كان عالمًا فذًا في مجالي الطب والفلسفة، وأن كتابه «القانون في الطب» كان العمدة في تعليم هذا المجال حتى أواسط القرن السابع عشر ليس في العالم الإسلامي وحسب، بل في جامعات أوروبا.
عاش أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي الشهير بابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة، وقد نشأ في خراسان الكبرى، وبالتحديد دولة “أوزبكستان” حاليا، حيث ولد في “خرميش”، إحدى قرى “بخارى” في شهر صفر 370 هـ/ أغسطس (آب) 980م.
كغيره من الأطفال آنذاك حفظ ابن سينا القرآن وكثيرًا من القصائد، ونشأ محبًا للعلم في رحاب والده الذي كان واليًا على سامان بإيران، وكذلك كان أحد مشايخ الطائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من المسلمين الشيعة ترتكز أفكارها على نمط من الأفلاطونية الجديدة، وكان بيته ساحة للمناظرة وتبادل الأفكار، وهو ما ساهم في تشكيل وعيه المبكر، وثقافته الموسوعية، وطلاقته التعبيرية، وكل هذا كان سببًا في ألا يتأثر تأثرًا أعمى بمعتقدات والده وأفكاره.
بعد سنواته العشر الأولى، ونبوغه المبكر في تحصيل العلوم، تمكن ابن سينا خلال سنوات قليلة من استيعاب الفقه الإسلامي، والعلوم الطبيعية، والمنطق، وعلوم إقليدس، وكتاب المجسطي لبطليموس، وهو كتاب في الفلك والرياضيات.
لم تطل إقامة ابن سينا في بلدته كثيرًا فرحل إلى بخارى واستقر فيها فترة قبل أن يرتحل إلى خراسان، ثم إلى خوارزم، وبعدها إلى جرجان/ إحدى مدن إيران، وكان ترحاله الدائم والمستمر طلبًا للعلم والمعرفة.
كان للعالم البخاري أبي عبد الله الناتلي فضل كبير في تعريف ابن سينا علوم الفلسفة والمنطق، وبعدما أتقن كل ما قدمه له استاذه الناتلي، اتجه إلى علم الطب وبدأ دراسته على يد جملة أطباء ذلك الزمان، مثل الحسين بن نوح القمري، وأبي سهل المسيب طبيبي السلطان نوح بن منصور، فأرسله إليهما وأمضى 3 أعوام بصحبتهما، ليضع كُلَّ علمه ومعرفته لمعالجة الفقراء دون أن يتحصل على أجر منهم. لم يكن ابن سينا وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر مجرد عارف بالأمراض وعلاجاتها الشائعة؛ بل إن المصادر تقول إنه توصل إلى علاجات جديدة لأمراض كانت مستعصية قبله، وقد تمكن من معالجة سلطان بخارى من مرض عجز عنه الأطباء، وقربه السلطان وحاول مكافأته فرفض ولم يطلب إلا السماح له بمطالعة المكتبة الغنية في قصر السمنديين فسمح له، وكان لها عظيم الأثر في حياة ابن سينا بعد ذلك.
ظل ابن سينا مشغولا بالطب ممارسة وتأليفًا وابتكارًا لإيجاد علاجات لتلك الأمراض المستعصية، لكن وفاة والده وهو في سن العشرين من عمره دفعته إلى الانشغال بالسياسة كأبيه، فأصبح وزيرًا للأمير شمس الدولة البويهي، وبعد وفاة الأمير، رحل إلى أصفهان ليكمل أبحاثه التي جاء كثير منها في أثناء سجنه، أو ترحاله، فتقلبات السياسة والفتن المحيطة آنذاك جعلته سجينًا مرة، ومطاردًا مرة أخرى، ومرات أخفى سكنه عن الناس.
في كتابه «القانون في الطب» بأجزائه الخمسة دليل واضح على قيمة الرجل وقدرته الفذة على التأصيل الحقيقي الأول لعلم الطب، وفي مؤلفه «الشفاء» دليل آخر على أنه كان أول علماء عصره وعلماء العالم الذين اهتموا بحالة المريض النفسية، وبالإضافة إلى هذين الأمرين برع في الجراحة، وغيّر المنظور التقليدي لجراحات العين واستئصال الأَورام، وقد ترجم كتابه «القانون في الطب» إلى لغات العالم، واستمرار تدريسه عقودًا طويلة كان دليلا على احتفاء العالم بقيمة الرجل الطبية، وتأثيره في أوروبا في الطب وأحواله خلال القرون الماضية.
“إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يعادله في ذكائه ونتاجه الفكري الذي يعد مرجعًا في الفلسفة في القرون الوسطى”. هكذا قال عنه المؤرخ البلجيكي جورج ساتون، وهكذا بدا في أعين الأوروبيين بسبب علمه وإنجازاته العديدة التي ألهمت العالم، وكانت حدًا فاصلا بين عصرين للطب، هما: “ما قبل ابن سينا وما بعده”.
لكن الطب وحده ليس المجال الذي تفرد فيه ابن سينا وقدم فيه إنجازاته العلمية؛ فقد نبغ في علوم النباتات، وذكر خواصها، وفي الفيزياء كان هو الممهد الأول لعلم الديناميكا الحديثة، فضلا عن كتاباته في الموسيقى، والتنظير لها، وكتابته الشعر، وقبل هذا وذاك آراؤه الفلسفية التي ظلت مثارًا للجدل والنقاشات المستمرة ولا تزال. وقد قال الفيلسوف الإنجليزى روجر بيكون فى القرن الثالث عشر إن ابن سينا هو أمير الفلاسفة، ليس لأنه كتب الشفاء؛ ولكن لأنه كتب القانون فى الطب، وهو كتاب يعبر عن عقل منهجى وتفكير علمي منظم.
في همدان، وتحديدا عام (1037)، كتب الموت نهاية رحلة ابن سينا المثمرة عن عمر ناهز الثامنة والخمسين، بعد أن تعرض- كما تقول المصادر- لمحاولات عديدة لقتله بالسم، فاعتل جسده وتوفي بعد أن ترك تراثًا عظيمًا لا يزال يحدّث عن نفسه، وعن قدر صاحبه.