“نحن نعترف تمامًا بالأهمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذا المشروع في توفير المياه للملايين الذين يعيشون في إثيوبيا، وهي دولة تعاني انقطاع الكهرباء. في الوقت نفسه، نشير إلى المشاغل المعروفة التي عبرت عنها مصر والسودان، بشأن التبعات السلبية الممكنة لتشغيل سد النهضة في غياب اتفاق بشأن تقاسم الموارد المشتركة. لا بديل لتسوية هذا النزاع إلا من خلال السبل السياسية بمشاركة الدول الثلاث، ونحن على قناعة أن السعي نحو الحل يجب أن يجري في إطار روح اتفاق إعلان الخرطوم ومحتواه. صب الزيت على النار، والتهديد باستخدام القوة، أمر يجب منعه وتفاديه. سنكون صريحين؛ نعبر عن قلقنا إزاء تنامي الخطاب التهديدي الذي لا يؤدي إلى حل متفاوض عليه” – فاسيلي نيبينزيا
بهذه الكلمات، عبر مندوب الاتحاد الروسي في مجلس الأمن الدولي عن موقف بلاده تجاه أزمة سد النهضة، وهو ما اعتبره كثير من المصريين، انحيازًا فجًا وصريحًا ضد المصالح المصرية المصيرية، وتبنيًا لكامل الرواية الإثيوبية؛ بل انتقادًا للموقف المصري، عبر التلميح إلى حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي، في عدة تصريحات سابقة له، بأن مصر لن تفرط في حقها في المياه، وستتخذ جميع الوسائل الممكنة للحفاظ عليها، وهو ما طرح سؤالا شغل بال الملايين من المصريين، الذين عولوا كثيرًا على موقف موسكو، ولم يتخيلوا أن ينحاز بهذا الشكل الذي يصل إلى حد الصفاقة حسب وصف بعضهم، فماذا الذي جرى بالضبط؟
بادئ ذي بدء، سبق لوحدة الدراسات الروسية في المركز أن أصدرت تقريرًا بعنوان «أين تقف روسيا من أزمة سد النهضة؟»، يوم 25 مايو (أيار)، يمكن العودة إليه، استشرف الموقف الروسي من هذه القضية المصيرية لكلٍ من مصر والسودان، مبينًا الأسس التي يستند إليها الاتحاد الروسي في رؤيته للحل.
بالعودة إلى سؤال «ما الذي جرى؟» ولماذا تبدو روسيا منحازة إلى الموقف الإثيوبي من سد النهضة ، على الرغم من وجود مصالح اقتصادية وعسكرية وعلاقات شعبية متنامية بين القاهرة وموسكو، لا يمكن مقارنتها بنظيرتها الإثيوبية؟
أولاً: يخلط كثير من المصريين، سواء أكانوا مؤيدين أم ناقدين للعلاقات مع روسيا، بين الاتحاد السوفيتي والاتحاد الروسي، دون مراعاة أن الأخير بالرغم من أنه الوريث الشرعي للسوفيت، فإن هناك فارقًا كبيرًا بينهما في كل شيء؛ فالاتحاد الروسي لا يمكن- بأي حال من الأحول- تشبيهه بالاتحاد السوفيتي؛ وعليه فإن تأييده من عدمه في هذا الموضوع بالتحديد لم يكن ليقدم أو يؤخر فيه شيئًا من ناحية تغيير الموقف الإثيوبي، لكن في المقابل لموقفه هذا تأثير مباشر في مصالحه الذاتية.
ثانيًا: فلاديمير بوتين، الذي أسس نظام حكم يدين بالولاء له إلى حد كبير، مسكون بتلك اللحظة التاريخية التي حاول فيها المتظاهرون في ألمانيا الشرقية، اقتحام مكتب الاستخبارات السوفيتية، ولم يرد عليه رؤساؤه في موسكو ليعرف منهم كيف يتصرف، حيث كانوا منشغلين بالصراع على السلطة، ليشهد هو ورفاقه لحظة الإذلال التاريخي لروسيا، وطردها من ألمانيا بشكل مهين، بما كانت تمثله من فخر وطني وذكريات مؤلمة بالحرب العالمية الثانية. شكلت هذه التجربة التاريخية عقل بوتين ووجدانه ومن حوله في الكرملين، ورسّخت عقيدة الانتقام لديهم لكرامة روسيا ممن أهانوها. وفق هذا التصور، ما زال يُنظر روسيًّا إلى السياسة المصرية ببعض الشك والريبة، وعدم التعويل الكبير على إمكانات تطور العلاقة إلى حد الشراكة الاستراتيجية، نتيجة التقييم الروسي لدور مصر في انهيار الاتحاد السوفيتي، بشكل غير مباشر عندما تلقت هزيمة ثقيلة وغير مبررة بهذا الشكل الكارثي في حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، وهو ما أسقط هيبة موسكو عالميًّا، وازداد الأمر سوءًا بعد طرد الرئيس الراحل السادات الخبراء السوفيت بطريقة مهينة، ودخول حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، بالسلاح الروسي، ثم عقد اتفاقية سلام عبر الطرف الأمريكي حصرًا، ومحاربتها في القارة الإفريقية، وتحديدًا في إثيوبيا، ودعم الصومال في حرب أوغادين عام 1977، والتورط فيما يسمى «نادي السفاري»، وصولاً إلى دعم «الجهاد الأفغاني» ضد الوجود السوفيتي، وتسليم أسلحة روسية متطورة للطرف الأمريكي، للكشف عن نقاط ضعفها.
ثالثًا: كثيرًا ما يردد المسؤولون الروس أن مصر بلد مهم، يقع في الشرق الأوسط، حيث توجد فيه الأهرامات والمنتجعات السياحية الدافئة في الشتاء على ساحل البحر الأحمر، إلى جانب تلك الذكريات السلبية عن مصر منذ حقبة الرئيس الراحل السادات، ولا شيء آخر يعرفه المواطن الروسي العادي عن مصر سوى شرم الشيخ والغردقة وربما دهب، وفي الغالب السياحة الروسية لمصر هي من الفئات الأقل تعليمًا، والأكثر فقرًا.
رابعًا: بينما ينصب حديث النخب الروسية في المنطقة على بلدان أخرى يرونها أكثر تأثيرًا، فإنه لا وجود يذكر للقاهرة ودورها، ولا وجود لعلاقات مصرية من المجتمع المدني مع نظيره الروسي، ولم يسبق لأي جهة مصرية، أو حتى حكومية، دعوة الشخصيات السياسية المؤثرة في موسكو إلى عقد جلسات حوارية معها، في حين تستضيف أنقرة وطهران وإسلام أباد، عشرات اللقاءات والمنتديات مع شخصيات روسية شهيرة، على رأسها التيار الأوراسي، صاحب التأثير الأكبر في نخبة الكرملين، الذين بدورهم يعملون على الترويج للعلاقة مع تلك البلدان وأهميتها.
خامسًا: يحترم نظام بوتين خصومه الذين يمتلكون أنيابًا ومخالب يمكن أن تؤذي المصالح الروسية حال اختلف معهم، فهناك أكثر من صديق ربما يكون الأقرب إلى مواقف روسيا لكنه بلا فاعلية، فالنظام الروسي الحالي لا يؤمن بسوى القوة، لظروف تاريخية وموضوعية، وطبيعة شخصية بوتين وخلفيته التي قدم منها. نتيجة حالة الجمود السياسي التي عانتها مصر في العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق مبارك، والفوضى الداخلية التي استنزفت الجهد والوقت بعد تولي الرئيس السيسي الرئاسة، لم يعد لدى مصر نفوذ يذكر في المناطق الساخنة التي لروسيا مصالح فيها، أو أوراق يمكن أن تستخدمها ضد موسكو وتخشى منها. فسوريا، لا يوجد لمصر علاقة مع حلفاء الأسد، ولا سياسة واضحة تجاه الوضع النهائي في سوريا، ولا هي مرتبطة بالمعارضة الفاعلة على الأرض، أو بعض أطرافها، ولا يمكن أن تخدم/ أو تؤذي مصالح روسيا فيها بشيء، وكانت موسكو تأمل أن تنجح القاهرة في أن تعيد إلى سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية. وليبيا، اختلفت الآراء الروسية فيها بشأن الدور المصري، فقلة عبروا عن انتقادهم العنيف؛ فالمشير خليفة حفتر كان يسيطر في يناير (كانون الثاني) 2020، على نحو 70 في المائة من الأراضي الليبية، ووضع العاصمة طرابلس تحت الحصار، وتمكنت موسكو من التوصل إلى صفقة بموجبها يتم وقف إطلاق النار، مع الحفاظ على ما حققه من مكتسبات على الأرض لبدء عملية تفاوضية وهو في مركز قوة، وبالفعل سافر حفتر إلى موسكو، وقبيل توقيع الاتفاقية التي وافقت عليها حكومة السراج وقتذاك وحليفته تركيا، قرر فجأة المغادرة دون التوقيع، وهو ما سمح لتركيا بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، وخسارته كل ما حققه من تقدم. في هذه الأثناء أشارت بعض الجهات الروسية إلى دور سلبي من القاهرة في تحريضها لحفتر بعدم توقيع الاتفاق ودفعها إياه إلى التصعيد، والغالبية رأت أن القاهرة لا تملك قوة التأثير الكافية على حفتر؛ ومن ثم فالتنسيق مع حكومة طرابلس والجانب التركي، ربما يكون أكثر فاعلية في الحفاظ على المصالح الروسية.
سادسًا: بعد ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، قدمت موسكو دعمًا كبيرًا للقاهرة، وصولاً إلى إعلان الرئيس السيسي ترشحه للرئاسة من موسكو، عبر مباركة بوتين لقراره بالترشح وقت أن كان وزيرًا للدفاع، وكان أول رئيس لدولة كبرى يزور مصر بعد انتخابه، وبعدما عادت العلاقات مع الولايات المتحدة إلى الدفء، بعد تولي الرئيس السابق ترامب، تراجعت الحماسة المصرية نحو تطوير العلاقات، وفق مزاعم بعض المعلقين الروس.
سابعًا: تقدم موسكو للقاهرة بعض الأسلحة، وواردت من القمح، وملايين السائحين، ومعادن، ووقودًا معدنيًا، وتستورد منها منتجات زراعية، ومنسوجات وملحقاتها، وتمثل موسكو سندًا دبلوماسيًّا للقاهرة لمواجهة أي تنمر أمريكي بدعوى حقوق الإنسان والديمقراطية. ووفق هذه المعادلة لا يوجد لدى القاهرة شيء إضافي تأمل موسكو فيه، أو تخشى منها عليه، وفق تعبير المفكر السياسي الروسي ليونيد سافين، في معرض حديثه عن تقييم النخب الروسية للعلاقات مع القاهرة.
ثامنًا: إثيوبيا بلد ناهض، ولروسيا إرث كبير فيه منذ تأسيس النظام الجمهوري، ويمكن القول إن إثيوبيا الحالية بنظامها السياسي الفيدرالي استنساخ من النموذج الروسي البلشفي، ولم تحصل رغم كل مساهماتها تلك على ما تعتقد أنه حصتها العادلة، حيث عانت إثيوبيا عدة حروب وصراعات أهلية، وعندما بدأت تستقر تفكك الاتحاد السوفيتي. الآن تريد العودة إلى القارة من بوابتها، واستغلال حالة الجفاء الأمريكي بالعلاقة مع أديس أبابا بسبب حرب إقليم التغراي، والدعم والتعاطف الإفريقي الذي يبدو أكبر تجاهها منه إلى القاهرة، والذي تجلى في كلمات مندوب الاتحاد الإفريقي وكينيا والنيجر. إلى جانب أن الصين، وهي المستثمر الأكبر في إثيوبيا وإفريقيا عامةً، لا ترى روسيا منافسًا اقتصاديًّا لها، بل عنصر تكامل، وربما داعمة لاستثماراتها من خلال وجودها السياسي والعسكري، بالإضافة إلى تركيا الناشطة بقوة في القارة، والتي لموسكو قدرة حتى الآن على صياغة التناقضات معها بما لا يضر بمصالح الطرفين، وعليه فكلمتها بدت داعمة لإثيوبيا لتكسبها إلى صفها مع باقي إفريقيا السمراء.
تاسعًا: روسيا ما زالت تتلمس طريقها في القارة الإفريقية، وفي كل الأحوال لا تمتلك بعد نفوذًا يمكنها من فرض رؤيتها الخاصة لحل أي صراع، ولا سيما في موضوع معقد وممتد التفاوض فيه منذ عقد، مثل سد النهضة، ومصر فضلت منذ البداية الوساطة الأمريكية، وإثيوبيا لا تقبل بسوى الوساطة الإفريقية، وسواء أيدت موسكو موقف القاهرة أو أديس أبابا، فلن يغير ذلك من الواقع شيئًا، ولكن بما يبدو موقفًا حياديًّا يحمل في طياته تأييد الرؤية الإثيوبية، ويمكن أن تحقق به عدة مكاسب لمصالحها القومية كما سلف.
عاشرًا: تناوئ تركيا موقف روسيا في سوريا، وكذلك في ليبيا، وتحاول تقديم نفسها للغرب على أنها الكابح لتحركات موسكو في إفريقيا، وتطور علاقاتها مع أوكرانيا- غريمة روسيا- وصولاً إلى تزويدها بالسلاح، ولا تعترف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتراه احتلالاً غير مشروع. في سوريا، حولت إسرائيل أراضيها إلى ما يشبه ساحة للمناورات الحية، ويقدر عدد الضربات الجوية التي قامت بها ضد سوريا حليفة موسكو، ولضرب المليشيات التابعة لإيران بالمئات، ورغم ذلك لا تملك روسيا سوى إبداء الاعتراض الناعم، ولم تسمح لسوريا بتشغيل منظومة الدفاع الجوي (إس-300)، وذلك لأن لدى إسرائيل وكذلك تركيا، بالإضافة إلى إيران ما يمكن أن يقدموه لروسيا أو تخشاه منهم؛ لذلك تحترم مصالحهم وتراعيها رغم كل الخلافات معهم.
في ظل نظام عالمي جديد يتشكل، تحدد القوى الكبرى، ومن بينها روسيا، علاقاتها مع الآخرين وفق معيار قوة تأثير الطرف الآخر- إيجابًا أو سلبًا- في مصالحها، لا وفق معيار الصداقة والعلاقات التاريخية، أو التوافق في المواقف المعلنة دون فاعلية على الأرض؛ وبهذا الشكل يمكن فهم طبيعة تحالفات روسيا في المنطقة.