التاريخ والثقافةمقالات المركز

ابن فضلان.. بين رسالته الشهيرة ورحلته إلى القطب الشمالي


  • 7 أكتوبر 2021

شارك الموضوع

تذكر الوثائق التاريخية أن مدينة بلغار[1] الذي تواجد فيها العالم الإسلامي ابن فضلان كانت مركزًا مهمًّا للتجارة بين الشمال والجنوب، تمرّ عبره بشكل خاص تجارة “العبيد” [2] الذين كان من بينهم بعض المماليك الذين حكموا دولًا عظيمة في العالم الإسلامي في القرون الوسطى، وكانت كذلك حائط الصد الأول أمام توسع إمبراطورية الخزر في السهل الأوروبي الشرقي، وكانت أول عاصمة إسلامية على نهر الفولغا[3].

لكن كيف وصلت تعاليم الإسلام إلى تلك المدينة؟ [4] وكيف عرفنا تفاصيل حضارتها القديمة وقد تلاشت ولم يبقَ منها إلا أطلال تحدث عن نفسها، وعن ذكرياتها بقدر يسير؟ كل المؤرخين شرقًا وغربًا يدركون أن الفضل كل الفضل في معرفة التاريخ الاجتماعي والسياسي لبلاد بلغار الفولجا، وربما ما حولها، يعود إلى رسالة الجغرافي العربي أحمد بن فضلان[5].

أما أحمد بن فضلان نفسه، فلم يكن يدرك أن رحلته إلى بلاد الصقالبة (التسمية العربية للشعوب السلاڨية)[6] في بلاد البلغار على نهر الفولغا ستمتد إلى أكثر من مهمته السياسية والتوعوية الدينية لهذه البلاد، فرسالته التي ظلت مجهولة حتى عام 1817 [7]، كانت وما زالت الدراسة الاجتماعية الوحيدة التي نقلت صورة أدق تفاصيل الحياة في بلاد البلغار والروس والخزر، قبل 1100 عام، كما رآها ابن فضلان آنذاك[8].

من هو العالم الإسلامي أحمد بن فضلان؟

عاش ابن فضلان ومات بين عامي 877 و960، وكان أحد علماء الدولة العباسية خلال تلك الفترة[9]، وأما مهمته فقد كان ضمن وفد أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله (895- 932) إلى بلاد بلغار الفولجا حين طلب ملكها ألمش يلطوار خان[10]، عام 921، من الخليفة أن يُرسل إليه من يفقّهه- ومن معه- في الدين، ويعرِّفهم شرائع الإسلام، ويبني لهم مسجدًا، ويسأله بناء حصن يتحصنون فيه من أعدائهم الخزر الذين كانوا يفرضون عليه الضرائب[11].

الوفد الذي انطلق من بغداد يوم الخميس 21 يونيو (حزيران) 921، تشكل من أربعة أفراد[12]، هم سوسن الرسي[13]، وتكين التركي[14]، وبارس الصقلابي[15]، وأحمد بن فضلان الذي أوكل إليه مهمة التفقيه في الدين، لكن رسالته التي دون فيها كل ما رأى وشاهد في بلغار وما حولها، كانت هي الإرث الحقيقي الذي بقي ليكشف ويعرِّف الروس قبل غيرهم كيف كانت حياتهم في تلك الأيام المجهولة.

يذكر المستشرق الروسي كراتشكوڨسكي[16] ما قدمه ابن فضلان من خلال هذه الرسالة الملهمة قائلًا: “يقدم ابن فضلان صورة حية للظروف السياسية في العالم الإسلامي والعلاقات بين بلاد الإسلام والبلاد المتاخمة لها في آسيا الوسطى أو الأصقاع النائية التي كانت تمثِّل أطراف العالم المتمدن آنذاك، مثل حوض الفولغا. وتحفل الرسالة بمادة إثنوجرافية قيمة جدًّا، ومتنوعة بصورة فريدة، وهي تمسّ عددًا من القبائل التركية البدوية في آسيا الوسطى، وعددًا من الشعوب التي كانت تلعب آنذاك دورًا أساسيًّا في تاريخ أوروبا الشرقية كالبلغار، والروس، والخزر، والإسكندنافيين”[17].

تفاصيل رسالة ابن فضلان

في رسالة ابن فضلان نقاط تبدو هامشية في أول الأمر، لكنها تؤكد قوة الدولة العباسية وتقدمها آنذاك[18]، وأولى تلك النقاط أن ابن فضلان حين وجد مملكة الصقالبة واسعة، وأموالها كثيرة، سأل ملكها: لماذا طلبت الأموال من الخليفة؟ فقال: إنها أموال نتبرك بها، وهو ما يرسم صورة الخليفة في أعين الخارج آنذاك[19]. أما النقطة الأخرى فهي أن الرسول الذي أرسله ملك البلغار عاد محملًا بأدوية طلبها منه الملك، وهو دليل على تقدم الدولة العباسية آنذاك، ووفرة الأدوية فيها، على عكس بلاد البلغار وما جاورها في ذلك الوقت[20].

لم يترك ابن فضلان شيئًا عن الصقالبة إلا وصفه وصفًا دقيقًا، من السمات الشخصية إلى الملابس والأطعمة والنظافة وطريقة الحياة بتفاصيلها كلها، فيتطرق إلى قِصر الليل وطول النهار في تلك البلاد[21]، حتى إن مواقيت الصلاة تداخلت عليه واختلطت.

ثم يتحدث عن هيئة الناس فيها وملامحهم؛ فيصفهم بالشقر الحمر، وبقوة الأبدان، حيث يقول: “ورأيت الروسيَّة وقد وافوا في تجارتهم ونزلوا على نهر إتل، فلم أرَ أتمّ أبدانًا منهم كأنّهم النّخل، شقر حمر… ولكن يلبس الرجل منهم كساءً يشتمل به على أحد شقّيه ويخرج إحدى يديه منه، ومع كلّ واحد منهم فأس وسيف وسكّين لا يفارقه”[22].

أما الملابس فقد كانت القلانس (أغطية الرءوس) ملازمة لهم لا يخلعونها إلا إذا مر الملك، ولا يجلسون أمامه إلا إذا سمح لهم بالجلوس[23].

ثم يتطرق إلى الطعام، فيتعجب من أكلهم لحم الخيول، مؤكدًا أنهم لا يعرفون من الزيوت إلا زيت السمك، ولا يجدون موضعًا يضعون فيه اللحم إلا حفر آبار في الأرض يضعون فيها الطعام، وبعد وقت قصير يتغير ويتعفن[24].

ليس الطعام وحده ما تعجب له ابن فضلان، فنظافتهم الشخصية كان لها نصيب كبير من الرصد والتأمل في رسالته الوافية، وقد رأى العجائب في هذا الأمر، حيث لمح تجار الصقالبة يغسلون وجوههم في “طست” يمر عليهم بنفس الماء، فيخرج أحدهم ما في أنفه وفمه ثم يستعمل الآخر نفس الماء للنظافة. [25]

الحياة الزوجية في بلاد البلغار

أما حياتهم الزوجية فعجيبة هي أيضَا؛ ففي بلاد البلغار- كما وصف ابن فضلان- البيوت مصنوعة من الخشب، تتسع لعشرة أفراد، وربما لعشرين، وهي مشاهد لا تسمح بالخصوصية للحياة الزوجية؛ فهي كما وصفها مكشوفة، لا حياءَ فيها ولا عار، وقد لا يتعجب القارئ من ذلك كله لو علم ما وصفه ابن فضلان أيضًا من أن الناس هناك- رجالًا ونساءً- كانوا يغتسلون في النهر وهم عراة، لكن عقوبة الزنا كانت قاسية للحد الذي تقطع فيه رقبة الزاني بالفأس، رجلًا كان أو امرأة[26]، أما السارق فيعلق على الشجرة حيًّا حتى يموت وهو على حاله. [27]

ومن صور الحياة إلى صور الموت؛ حيث رصد ابن فضلان كذلك دفن الروس لموتاهم، وأسهب في وصف مراسم حرق الموتى، وما يترك من مؤنة ومتاع مع الميت، وإذا مات أحد رؤسائهم أحرقوه مع من يرغب من عبيده رجالًا ونساءً [28].

هذه تفاصيل بسيطة من جملة ما تركه ابن فضلان في رسالته، ورغم صفحاتها القليلة فقد تم الاحتفاء بها وبصاحبها من الغرب قبل الشرق، ووصل الأمر بباحثين إلى تأكيد أن رحلة ابن فضلان وصلت إلى مشارف القطب الشمالي، وفي عام 1976 كتب الروائي والسينمائي الأمريكي ميخائيل كريكتون رواية خيالية بعنوان: “أكلة الأموات”، زاعمًا أنها النص الكامل لرسالة ابن فضلان، ومن وحي الرواية أُنتج فيلم سينمائي بعنوان: “المحارب الثالث عشر”[29]، في حين بقيت الرسالة الأصلية لابن فضلان المرجع الأول لعادات وتفاصيل اندثرت واختفت في تلك البلدان.

__________________________________________________________________________________________________-

ما ورد في  المقالة يعبر عن آراء الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع