مقالات المركز

من التعاون الإقليمي إلى الإطار العالمي

الخليج وآسيا الوسطى


  • 23 يوليو 2023

شارك الموضوع

بمبادرة سعودية، انطلقت يوم الأربعاء الماضي في مدينة جدة، القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى الخمس (C5)، اختصار (Central Asian States): (كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان). رغم نيل هذه الدول الخمس استقلالها في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، فإن المعلومات العربية عنها ما زالت محدودة، رغم ما تتمتع به من موارد بشرية واقتصادية، وموقع جيوسياسي شديد الأهمية، وروابط تاريخية وثقافية عميقة الصلة بالعالم العربي. تمثل هذه الخطوة بداية جديدة لعلاقات ودور مجلس التعاون الخليجي في ظل نظام عالمي جديد قيد التشكل.

كيف تشكلت بلدان آسيا الوسطى؟

ورد ذكر منطقة آسيا الوسطى في المراجع العربية بعدة أسماء، منها: (بلدان ما وراء النهر)، والمقصود هنا “نهر جيحون” و/أو (بلاد الهياطلة) و/أو (بلاد الترك) و/أو (تركستان الغربية)؛ لغلبة قبائل الترك على تركيبتها العرقية. بدأ اللقاء الأول بين العرب القادمين من شبه الجزيرة العربية وسكان هذه المنطقة عام 697، حين بدأ الفاتح العربي المهلب بن أبي صفرة بالتوسع فيها، ثم أتم قتيبة بن مسلم الباهلي فتحها بالكامل وصولًا إلى شمال غرب الصين حاليًا.

نظرًا لما تتمتع به المنطقة من أهمية اقتصادية وجيوسياسية، أصبحت مركزًا لما سُميت “اللعبة الكبرى” بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية في القرن التاسع عشر، التي نتج عنها ما يُعرف باسم «التدافع الروسي نحو آسيا الوسطى»، وأتمت سيطرتها على المنطقة بكاملها عام 1881، وسمتها “تركستان الروسية“.

شكلت المنطقة أهمية اقتصادية خاصة للإمبراطورية، إلى جانب أهميتها الجيوسياسية، حيث وفرت أسواقًا جديدة للمنتجات الروسية، وموردًا مهمًّا للمواد الخام، وعلى رأسها القطن، الذي شهد نقصًا حادًا في ذلك الوقت نتيجة للحرب الأهلية الأمريكية، وهو ما مكن صناعة المنسوجات في مدينة إيفانوفو، مركز صناعة النسيج الروسي، من النمو والازدهار.

بعد تفكك الإمبراطورية الروسية، سادت حالة من الفوضى والتمرد في المنطقة ضد السلطة البلشفية تحت قيادة حركة “باسماتشي”. وبينما حافظت الإمبراطورية الروسية على الطابع المحلي القبلي للمنطقة، أعاد البلاشفة تقسيمها عدة مرات، وصولًا إلى الشكل الحالي الذي استقر عام 1936، دون مراعاة للتكوين القومي والقبلي بين هذه الجمهوريات الوليدة؛ لخلق حالة من التنازع والشقاق الذي يُمكن مركز السلطة في موسكو من التحكم فيها، وضمان عدم قيام أي حركات انفصالية، وهي إحدى المشكلات التي ما زالت البلدان الخمسة تعانيها، وتعوق- إلى حد كبير- التعاون بينها.

الأهمية الجيوسياسية لآسيا الوسطى

موقع آسيا الوسطى غير الساحلي في قلب أوراسيا يمنحها أهمية خاصة، خصوصًا في ظل القوى الإقليمية المجاورة لها: روسيا (في الشمال والغرب)، والصين (من الشرق)، وعلى مقربة من القوى الإقليمية الأخرى، إيران وأفغانستان (إلى الجنوب)، والهند (إلى الجنوب الشرقي)، إلى جانب إحاطتها بمناطق جنوب آسيا (إلى الجنوب الشرقي)، وجنوب شرق آسيا (إلى أقصى الجنوب الشرقي)، والشرق الأوسط (إلى الجنوب والجنوب الغربي)، وأوروبا (إلى الغرب الأقصى)؛ لذا كانت المنطقة في الماضي معبرًا مهمًّا لطرق التجارة الدولية، مثل “طريق الحرير”، ومركز “اللعبة الكبرى” بين الإمبراطوريات، والآن هي جزء رئيس من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. كما جعل هذا الموقع من المنطقة ممر نقل للتجارة بين آسيا وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وهمزة وصل بين الشرق والغرب. وفقًا لهالفورد ماكندر (Halford Mackinder): “آسيا الوسطى هي قلب العالم، ولكي تتمكن قوة عظمى من السيطرة على العالم؛ يجب أن تكون آسيا الوسطى تحت سيطرتها”، وهو ما جعلها ذات أهمية خاصة للمصالح الجيوسياسية لأي قوة عظمى، بما في ذلك الصين، وروسيا، والولايات المتحدة.

الأهمية الاقتصادية لآسيا الوسطى

حسب إحصاءات (2019)، بلغ إجمالي الاحتياطيات المؤكدة في المنطقة من النفط 31.4 مليار برميل، ومن الغاز 825.8 تريليون قدم مكعبة. ما يزيد قليلاً على 95% من احتياطيات النفط في المنطقة، و83% من احتياطيات الغاز موجودة في كازاخستان وتركمانستان، على التوالي. يعد خط أنابيب (TAPI) البالغ قطره 56 بوصة (تركمانستان- أفغانستان- باكستان- الهند)، وخط أنابيب الغاز (Line D) بقطر 42/48 بوصة (تركمانستان- الصين) من أهم مشروعات خطوط الغاز قيد التنفيذ. إضافة إلى ذلك، فإن أكثر من 20% من احتياطيات اليورانيوم المؤكدة في العالم موجودة في كازاخستان وأوزبكستان.

وفق تصنيف المعهد الدولي للتنمية المستدامة (IISD)، تتفرد آسيا الوسطى بامتلاكها 22 مادة مهمة، أبرزها: (الجرمانيوم، والغاليوم، والإنديوم، والتيلوريوم، والجرافيت، والليثيوم). تمتلك كازاخستان 16 مادة من أصل 22 مادة حيوية ذات إمكانات جيولوجية عالية، تليها أوزباكستان، في حين تتمتع طاجيكستان وقيرغيزستان، بإمكانات عالية لمواد أساسية مختارة. كما تمتلك آسيا الوسطى 38.6% من احتياطي خام المنغنيز العالمي، و30.07% من الكروم، و20% من الرصاص، و12.6% من الزنك، و8.7% من التيتانيوم، و5.8% من الألومنيوم، و5.3% من النحاس، و5.3% من الكوبالت، و5.2% من الموليبدينوم. تُستخدَم كل هذه المواد المهمة عبر مجموعة واسعة من تقنيات الطاقة النظيفة، حيث تعد دول آسيا الوسطى أيضًا من بين أكبر 20 منتجًا عالميًّا لكثير من المواد الحيوية. تؤهل كل هذه الثروات، منطقة آسيا الوسطى أن تؤدي دورًا أكثر بروزًا في الإمداد العالمي بالمواد الحيوية لإزالة الكربون. يضاف إلى ما سبق، كميات كبيرة من الفحم، وقدرات زراعية، مع إمكانات واسعة لإنتاج الطاقة النظيفة بحاجة إلى استثمارات خارجية.

الأهمية السياسية لآسيا الوسطى

كما شهدت آسيا الوسطى تدافعًا إمبراطوريًّا منذ العصور القديمة؛ لأهمية موقعها، فإنها تشهد في الفترة الحالية تدافعًا جديدًا على وقع المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، والمتغيرات التي نتجت عن الحرب الروسية الأوكرانية.

بعد استعادة/ ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، توجهت أنظار الولايات المتحدة إلى المنطقة بشكل أكبر، وقررت تنظيم منتدى سنوي تحت اسم (C5+1)؛ لمواجهة النفوذ الروسي التقليدي والصيني المتصاعد، في حين جدد الاتحاد الأوروبي هذا العام (2023) إستراتيجيته بشأن آسيا الوسطى، في ظل عدة مشروعات جديدة للتعاون المشترك. على جانب آخر، نشطت اليابان وكوريا الجنوبية علاقتهما مع المنطقة؛ من خلال حزمة جديدة من المشروعات المشتركة.

على المستوى الإقليمي، سعت تركيا عام 2009، إلى استخدام الرابطة التركية لتعميق علاقتها بالمنطقة؛ من خلال تأسيس “منظمة الدول التركية“، باستثناء طاجيكستان، الأقرب إلى اللغة والثقافة الفارسية، التي تسعى إيران للانطلاق منها لمد نفوذها.

حاولت روسيا الحفاظ على نفوذها من خلال تأسيس كيان جديد تحت اسم “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، لكنها لم تتمكن من ضم سوى قرغيزستان وكازاخستان. وسط هذا التدافع الكبير على آسيا الوسطى، وتراجع الدور الروسي على وقع الحرب الحالية، دخلت الصين على الخط من خلال تنظيم القمة الدورية الأولى مع بلدان المنطقة باسم (C5+C)، يوم 18 مايو (أيار)، في مدينة (شيان)، إحدى العواصم الصينية الأربع القديمة، التي أُعلِنَ فيها توسيع التعاون الأمني بين هذه الدول والصين، وتقديم مساعدات عسكرية وتقنية ومناورات مشتركة. قدمت الصين هبة للدول الخمس تقدر بـ(3.5) مليار دولار أمريكي، كما تم الاتفاق على إنشاء ممر بري وبحري يربط الصين بأوروبا لتجاوز المرور من الأراضي الروسية.

الأهمية الثقافية لآسيا الوسطى

اعتنقت شعوب آسيا الوسطى الإسلام على يد الفاتحين من شبه الجزيرة العربية، وتعلموا العربية التي كانت لغة العلم والعلماء، ومنها خرج كبار المحدثين والفقهاء، وظلت العربية لغة النخبة، وتستخدم في الحروف الأبجدية للغات المحلية، حتى أنهت سياسة “الترويس” السوفيتية وجودها.

سياسيًّا، كانت مدينة مرو الشاهجان، أو “مرو الكبرى”، التي تقع في جمهورية تركمانستان الآن، عاصمة ولاية خراسان الكبرى، ومركز الثورة العباسية على الحكم الأموي، وفيها أقام الخليفة العباسي المأمون ست سنوات قبل أن يعود إلى بغداد. كما خرج من هذه المنطقة سلاطين السلاجقة والمماليك البحرية. بعد قيام الاتحاد السوفيتي، هاجر كثير من سكان آسيا الوسطى إلى السعودية، وأطلق عليهم لقب “بخاري”، واندمجوا في الحياة العامة، وأصبحوا مواطنين سعوديين، ووصل بعضهم إلى أرفع المناصب الحكومية، وكان لهم تأثير ملحوظ حتى اليوم في المطبخ والثقافة السعوديين.

عدد سكان بلدان آسيا الوسطى يقارب الثمانين مليون نسمة، أغلبيتهم الساحقة من المسلمين السنة، أحناف في الفروع، ماتريدية في الأصول. لديهم نظرة احترام وتقدير كبير للسعودية؛ لما تحتويه من مقدسات الإسلام، وما لاقاه أبناء جلدتهم من معاملة حسنة واحتضان من ملوكها. كذلك، يرون في النموذج التنموي الخليجي، وتحديدًا الإماراتي، مثالًا يحتذى به للتنمية والازدهار اللذين يحلمون بهما في بلدانهم.

أهمية القمة الخليجية مع بلدان آسيا الوسطى

سبق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن أعلن أن حلمه “رؤية الشرق الأوسط، أوروبا الجديدة” تماشيًا مع هذا الحلم، ورؤية (2030) الطموحة، وما يشهده العالم من متغيرات عميقة، وفي ظل الدور المتعاظم لدول مجلس التعاون الخليجي، جاءت الخطوة الأخيرة بالانفتاح على بلدان آسيا الوسطى؛ لما تمثله من أهمية على المستويات كافة، كما تم الإشارة إليها سابقًا، وهو ما أكده “البيان المشترك للقمة“.

يؤدي الجانب الأمني دورًا مهمًّا في العلاقة مع آسيا الوسطى، في ظل حدودها المشتركة مع أفغانستان، ونشاط تنظيم داعش الإرهابي فيها، وما عانته المنطقة سابقًا من الجماعات الإسلاموية المتطرفة، وتأثيره في المنطقة والدول المجاورة، وهو ما يستدعي التعاون وتقديم الدعم لهذه البلدان الخمسة، ولأجل هذا تحديدًا، وافق مجلس الوزراء السعودي في مارس (آذار) الماضي، على الانضمام إلى منظمة شانغهاي للتعاون (SCO)، وقررت الإمارات وقطر، أن يكونا “شريكي حوار” لتنسيق الجهود المشتركة في مكافحة الإرهاب.

تأسست جمهوريات آسيا الوسطى بشكلها الحالي وفق حدود مصطنعة من السلطة السوفيتية، ونتيجة التكوين والتأثير الثقافي والاقتصادي، ظلت مرتبطة بالاتحاد الروسي، وحاولت أن توازن في علاقتها مع الصين والولايات المتحدة، وبقية البلدان الغربية. هذا التوازن تعرض لاختلال كبير نتيجة الحرب الروسية، والعقوبات الغربية التي أثرت في اقتصادات المنطقة، وتراجع تحويلات العمالة من طاجيكستان وأوزباكستان وقرغيزستان في روسيا، وهو ما قد يؤدي إلى أزمات اقتصادية تدفع المنطقة نحو الفوضى، وتعطيل مشروعات التنمية الخليجية، ورؤية (2030)، وهو ما يضيف أهمية خاصة في هذا الوقت تحديدًا لهذه القمة.

تمثل علاقة التعاون الإستراتيجي الناشئة “طوق” نجاة لدول آسيا الوسطى، التي لم يعد بإمكانها الاعتماد على موسكو، أو استبدال الصين بها، أو التوجه- توجهًا كاملًا- نحو الغرب، واليابان، وكوريا. كما أن القدرات التركية والإيرانية محدودة، ولا تقوى على تقديم الدعم اللازم لها، وكل خيار من هذه الخيارات سيكون له سلبياته التي قد لا تتحملها، في حين تتمتع دول الخليج العربية بوفرة مالية، وعلاقة تحالف إستراتيجي تاريخية مع واشنطن وأوروبا، وعلاقات تجارية متنامية مع الصين، وصداقة وتفاهم مع روسيا، واليابان، وكوريا، وروابط ثقافية وشعبية عميقة مع سكان آسيا الوسطى، وهو ما يؤهلها لحفظ التوازن في المنطقة، وتطويرها وازدهارها، وأداء دور توفيقي؛ لما لديها من علاقات جيدة مع جميع الأطراف المتنافسة.

الثروات الطبيعية من نفط وغاز، إلى جانب الثروات التعدينية، والمواد الخام الأخرى، والإمكانات في قطاعات الزراعة، والسياحة، والطاقة النظيفة، فرصة مثالية للاستثمارات الخليجية، ومن خلالها يمكن عقد صفقات رابحة بين جميع الأطراف، كما أنها تمنح مجلس التعاون الخليجي ثقلًا جيوسياسيًّا، إلى جانب الاقتصادي، في قدرته من خلال هذا التعاون على ضبط أسعار الطاقة، وأداء دور رائد في مجال الطاقة النظيفة، وفق مبادرة الأمير محمد بن سلمان “الشرق الأوسط الأخضر”.

أخيرًا، يسهم هذا التعاون الجديد في شيوع قيم التسامح، والفهم الوسطي للإسلام، ومكافحة الإرهاب ووأده في مهده، ومزيد من النفوذ الخليجي في مجالي الطاقة التقليدية والجديدة، وتحول مجلس التعاون الخليجي إلى قوة فوق إقليمية مؤثرة في المسرح العالمي، وربط الطرق والممرات التجارية لآسيا الوسطى بالمشروعات التنموية الخليجية في ظل موقع كلتا المنطقتين الفريد من نوعه، وامتلاك عدة أوراق جيوستراتيجية في العلاقات مع القوى العظمى.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع