استيقظ العالم فجر الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) على أخبار تمرد فاغنر زعيم مجموعة عسكرية، وقبل حلول منتصف اليوم أعلن سيطرته على المنطقة العسكرية في روستوف، جنوبي روسيا، دون إطلاق رصاصة واحدة.
ساد الارتباك المشهد العام، وسط سيل من البيانات العسكرية التي تطالب قوات “فاغنر” بعدم الاستماع إلى بيانات يفغيني بروغوجين، الذي أعلن نيته التخلص من القيادة العسكرية الفاسدة داخل الجيش الروسي، واستعداده للوصول إلى موسكو لتحقيق هذا الهدف.
خرج الرئيس الروسي ليخاطب الشعب بأن ما يحدث من هذه المجموعة “المتمردة” طعنة في الظهر، وخيانة لروسيا، دون تسمية “فاغنر”، أو زعيمها.
وبعد تمرد فاغنر أصدر عمدة موسكو سرغي سوبيانين عدة قرارات، منها اعتبار يوم الاثنين إجازة رسمية، ومنع التجوال (قدر الإمكان) في الأماكن العامة، وإغلاق الطرق المؤدية إلى المدينة، وكذلك تشديد الإجراءات الأمنية وفق قيود مكافحة الإرهاب، مع إقراره بأن الأوضاع في البلاد صعبة.
أصدر حكام الأقاليم المختلفة بيانات تأييد ودعم للرئيس الروسي، كما أعلن رمضان قديروف دعمه للرئيس، وإرسال قواته إلى روستوف.
حدث كل هذا، في ظل اختفاء وزير الدفاع سرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف، وسط سيل من الإهانات العلنية لهما من زعيم “فاغنر”.
عقب مفاوضات قادها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، من خلال التواصل المباشر مع بوتين وبريغوجين، أعلن الأخير سحب قواته التي كانت على بعد 200 كيلو متر من موسكو، وشكر بوتين نظيره البيلاروسي على جهوده لإتمام هذا الاتفاق.
وفق ما تسرب من الاتفاق، سيذهب بريغوجين إلى بيلاروس، ولا يعرف مصيره بعد ذلك، مع إسقاط أي تهم ضده، وكذلك ضد قواته.
أسئلة كثيرة فرضها هذا اليوم الطويل: ما دوافع تمرد فاغنر؟ لماذا اختفى وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش من المشهد؟ كيف سيطرت “فاغنر” على روستوف بهذه السهولة دون أي مقاومة؟ كيف وصلت قوات “فاغنر” إلى مشارف موسكو دون اعتراضها؟ أين أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية من كل ما جرى والترتيبات المسبقة له؟ لماذا لم يسمِّ بوتين- بوضوح- “فاغنر” وبريغوجين في خطابه؟
عبر التاريخ، تكرر مثل هذا الحدث، أي تمرد فاغتر، من خلال مجموعة كانت قريبة من رأس السلطة، وفي بعض الأحيان مدعومة منها، وكان “هدفها” المعلن هو التخلص من العناصر “الفاسدة”، وكذلك “الأشرار” المحيطون بالقيصر “الطيب” لتحريره منهم. لعل المثال التاريخي الأبرز هو جهاز “أوبريتشنيا” الذي أسسه القيصر إيفان الرابع “الرهيب”، من قطاع الطرق والمغامرين والمجرمين، وكان هدفه من وراء ذلك خلق توازن مع بارونات الأقاليم، والنبلاء “البويار”، وقادة الجيش. عام 1566، قامت قوات أوبريتشنيا، بعمليات قمع وقتل واسعة النطاق، وانطلقت حتى موسكو، وهناك قدمت فروض الولاء والطاعة للقيصر، معتبرة أنها تمردت باسمه ضد هذه النخب “الفاسدة” المحيطة به، وتم العفو عنهم بعدما سحقوا كل خصومه ومنافسيه.
وتمرد فاغنر تعتبر ليست الوحيدة، حيث تكررت عبر التاريخ حركات التمرد والثورات في أثناء الحروب. على سبيل المثال لا الحصر، تمرد “ستريليتسكي” أو “الرماة” على بطرس الأكبر عام 1698 في أثناء حملات بحر آزوف ضد الأتراك العثمانيين، وتمرد بوغاتشيف عام 1773 على كاترين العظيمة في أثناء الحرب الروسية التركية (1768–1774).
بعد حركات التمرد والتي أبرزها تمرد فاغنر، لا يمكن فهم الصراع الحالي، وغيره من الصراعات التاريخية في روسيا، دون السقوط في فخ “نظريات المؤامرة”، إلا من خلال فهم تركيبة السلطة الروسية، التي أدعي أنها تشكلت عبر مصدرين رئيسين؛ المصدر الأول: الثقافة السياسية المغولية- التترية، التي تعلم منها الحكام الروس كيفية بناء الإمبراطورية، وحسم مسألة السلطة عبر ما يمكن تسميته “الانتخاب الطبيعي” من خلال القوة. المصدر الثاني: التأثيرات البيزنطية بعد قدوم بعض أفرد عائلة باليولوغوس، آخر أسرة بيزنطية حاكمة للقسطنطينية، التي منها أخذ الروس النظرية الأوتوقراطية للحكم، وتحالف القيصر مع الكنيسة الأرثوذكسية. هناك مصدر ثالث لكنه ثانوي، وهو التأثيرات الأوروبية التي تركزت في الشكل دون أي مضمون حقيقي.
عملًا بهذا التقليد “العريق”، وأيًّا ما كان اسم الحاكم الروسي (قيصر أرثوذكسي– إمبراطور أوتوقراطي– سكرتير عام للحزب الشيوعي– رئيس للاتحاد الروسي)، فإن القاسم المشترك بين كل هؤلاء على اختلاف أيديولوجياتهم وعصورهم، أنه لا وجود لشيء يسمى القانون، أو الدستور، والمؤسسات في روسيا. كل هذه الأشكال الأوروبية لنظام الحكم مجرد زخرفة خارجية لهذا البناء الآسيوي- البيزنطي.
تاريخيًّا، عندما تخوض روسيا حربًا خارجية “استباقية” دون حلفاء، ويتعرض جيشها للتعثر أو المصاعب، يُلقَى اللوم- في الغالب- على السياسيين، وبالتحديد رأس السلطة، ويُنظر إلى الجيش على أنه المخلص ومَن بيده الحل. لعل المثال الأبرز على ذلك، ما حدث في الحرب العالمية الأولى، حيث انصبت دعاية المعارضة باتجاه دعوة الجيش إلى التحرك، وهو ما حدث في النهاية من خلال قيادته تمردًا ضد السلطة، وهو ما أدى في النهاية إلى إسقاط القيصر الأخير الإمبراطوري نيقولاي الثاني.
أدرك بوتين هذا الدرس جيدًا، وعندما بدا أن ما سمّاها “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا قد خرجت عن المسار الذي رُسم لها، وبدأ كثير من الروس يتطلعون إلى الجيش وقدرته على إخراج روسيا من هذا المأزق؛ ظهر ربيب بوتين، يفغيني بريغوجين، وبدأ بتوجيه سهام نقده إلى قيادة الجيش، التي كانت تزداد طرديًّا مع ازدياد تعثره، وخسارته الأراضي في أوكرانيا.
خلق بريغوجين التوازن المطلوب لكي يتجنب الكرملين هذه “اللعنة” التاريخية، وأسقط عبر تصريحاته هيبة القيادة العسكرية من أعين الشعب، وحملها مسؤولية تعثر خطط الرئيس لجعل روسيا عظيمة مرة أخرى، وإعادة توحيد ما تسميها “أراضيها التاريخية”.
من خلال هذه المعادلة، حافظ الكرملين على التوازن المطلوب، وربط الجرس في رقبة القط، كما يقال، وساد في الأوساط الشعبية الروسية مقولة “رئيسنا يكافح على جبهتين: خارجية مع الأعداء المدعومين من الغرب الجماعي، وداخلية مع الفاسدين الذين كذبوا عليه”. من هذا المنطق يمكن فهم سر قوة بريغوجين، والمساحة الكبيرة التي حصل عليها منفردًا دون غيره من السياسيين الروس في انتقاد القيادة العسكرية، دون توجيه أي اتهام إليه بـ”الخيانة”، كما يحدث مع أي سياسي قد تصدر عنه تصريحات أقل بكثير.
أهم وأول مهمة للحاكم في تاريخ روسيا حتى اليوم، هي التوافق داخل “الهيئة الناخبة” المشكّلة من العشائر المتصارعة على السلطة والثروة، وقبولهم به حكمًا “عدلًا” قادرًا على قيادة البلاد، وتقسيم العوائد فيما بينهم تقسيمًا مقبولًا، ولو بالحد الأدنى.
تمتع الرئيس الأول للاتحاد الروسي بوريس يلتسن بالذكاء الكافي لإدراك أن عار الهزيمة في حرب الشيشان الأولى سيظل يلاحقه، مع عدم قدرته على إدارة الصراع بين العشائر المتنافسة على السلطة والثروة، وإمكانية التضحية به في النهاية، وشعور هذه “العشائر” بالسأم منه، مع اعتلال صحته، وعدم قدرته على التوقف عن الشراب، فعرض عليهم صفقة “خروج آمن”، ودعم من يختارونه ليكون خليفته. وقع اختيار هذه “العشائر” على فلاديمير بوتين، الذي كان يتولى منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي، وصُعِّدَ ليصبح رئيسًا لمجلس الوزراء في أغسطس (آب) 1999، تمهيدًا لتولي الرئاسة بالنيابة، ثم انتخابه رئيسًا للاتحاد الروسي.
الانتخابات في روسيا مجرد عملية إجرائية تحدث بعدما تتفق هذه “العشائر” على شخص توافقي؛ لذلك لا يحبس أحد أنفاسه في انتظار النتائج المحسومة سلفًا. استقر “العقد الاجتماعي” لبوتين، على عدة مبادئ، أهمها:
مقابل ذلك، تدعم جميع هذه العشائر الرئيس وقراراته دون نقاش، وتلتزم بسياساته الخارجية، ولا تتدخل في الشأن السياسي العام. باختصار، تمنح الرئيس تفويضًا مطلقًا للحكم والسلطة. على هذا الأساس تحقق هذا التفاهم. أما القلة التي تمردت فقد أُمِّمَت ثرواتها، وهربت خارج البلاد، وظل هذا “العقد الاجتماعي” غير المكتوب يعمل منذ عام 2000 حتى 24 فبراير (شباط) 2022.
ظهر الخلل الأول بعد استعادة/ ضم شبه جزيرة القرم، عام 2014، حيث لم تكن النخبة الروسية متحمسة لهذا القرار، وتخشى من آثاره وتداعياته، في حين انطلق الكرملين في خياره، معتقدًا أن الغرب “أضعف” من أن يفعل شيئًا، وأن الأزمة ستمر كما مرت عام 2008 عندما سيطر الجيش الروسي على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وتمكن من طرد الجيش الجورجي.
مع أن العقوبات الغربية لم تؤثر فورًا في النخب الروسية، فإن آثارها بدأت تظهر مع الوقت، لكنها كانت مقبولة إلى حد كبير، وتم تعويض كثير منهم؛ من خلال الاستحواذ على أموال من قرروا رفض هذا القرار.
في الغالب، تكون النخب الروسية أول من يقفز من مركز الزعيم عندما يتعرض لأزمة كبرى، ثم تدعي أنها كانت ضد سياساته، ولم توافق عليها. إدراكًا منه لهذه الحقيقة، أصر الكرملين على أن ينظم اجتماعًا لمجلس الأمن القومي على الهواء مباشرة، في تصرف غريب لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث؛ لطرح سؤال عن موقف النخب السياسية والعسكرية والأمنية من قبول استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وهو الاجتماع الشهير الذي تلعثم فيه رئيس المخابرات الخارجية الروسية ناريشكين. خلال هذا الاجتماع، قُطِعَ الطريق على أي فرد قد يدعي مستقبلًا عدم قبوله بسياسات الكرملين.
أدت ما تسمى روسيًّا بـ”العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا إلى سيل لم يسبق له مثيل في الحجم والسرعة من العقوبات الغربية، وتعثر الجيش الروسي في تحقيق الأهداف المعلنة لهذه العملية العسكرية، وكان هذا الخلل الثاني صاحب التأثير الأكبر في تراجع هيبة الكرملين أمام هذه النخب التي تضررت كثيرًا نتيجة لهذا القرار.
حافظ بريغوجين- كما سلف، من خلال تصريحاته التي لم يعترض عليها الكرملين- على التوازن بينه وبين الجيش من خلال إلقاء المسؤولية الكاملة عليه في هذا التعثر. دفع هذا الوضع القيادة العليا في الجيش إلى التضييق على “فاغنر” من خلال منع إمدادها بالسلاح والذخيرة، وتقديم التغطية المناسبة لها، ومحاولة ضربها والتخلص منها في أكثر من موضع، وحظر تجنيد المدانين في السجون ضمن صفوف “فاغنر”.
شعبيًّا، بدأ تأثير العقوبات يظهر من خلال زيادة الأسعار على المواطنين، وفزعهم بعد عملية التعبئة “الجزئية”، والخشية من تعبئة جديدة، إلى جانب تذمر النخب المالية من الخسائر الكبرى التي تعرضت لها، وإن كانت قد عُوضت تعويضًا كبيرًا، لكنها باتت محاصرة في الغرب، وصارت أموالها في الداخل الروسي غير آمنة بالشكل الكافي.
التوازن، وتقاسم السلطة والثروة، اللذان سادا منذ عام 2004 بعد استقرار نظام بوتين، تعرضا لخلل كبير، وبعد الأعمال العسكرية في أوكرانيا، تبين أن توزيع الحصص لم يعد عادلًا (هناك من ضحى وثبت بالتجربة أنه جدير بتحمل المسؤولية رغم محدودية حصته في الكعكة الروسية، وهناك من انتفخت بطونهم وعند المواجهة فشلوا في تحقيق أي نجاح يذكر).
إعادة تقسيم الثروة والسلطة كانت بحاجة إلى شخصية مغامرة وقادرة على المواجهة؛ وهنا ظهر بريغوجين الذي يمثل نفسه ومجموعته، وخلفه بعض الداعمين من داخل المنظومة الذين تصاعد دورهم بعد “العملية العسكرية الخاصة”، وتصدر بريغوجين الحديث باسمهم، وتحمل المخاطرة لكونه مسلحًا بقوة عسكرية منتشرة في عدة دول حول العالم، ولديه صلاحيات واسعة من الكرملين تؤهله لقول ما لا يمكن لغيره قوله.
استخدم الكرملين بريغوجين لخلق توازن مع الجيش بعدما تعثرت الحملة العسكرية في أوكرانيا، وقد نجح في أداء مهمته نجاحًا تامًّا، ولم يعد للقيادة العسكرية أي قدرة على رفع رؤوسها، أو ادعاء أنها تمثل الحل و/أو الأمل للشعب الروسي للخلاص من هذا المأزق.
بريغوجين خيار مثالي للكرملين؛ لأنه رجل من خارج السلطة التقليدية، مدان سابقًا في عدة جرائم، وقضى تسع سنوات في السجن، عماد قواته من المجرمين وأرباب السجون، أصوله يهودية. كل هذه العوامل تجعله تحت السيطرة، بل إذا تطلع إلى أداء دور أكبر والوصول إلى السلطة، فلن يسمح له الداخل أو الخارج بذلك؛ وعليه فإنه كان خيارًا آمنًا.
التمرد الحالي اي تمرد فاغنر كان تمردًا على بعض رجال بوتين، وصراعًا على بوتين لا ضد بوتين؛ بمعنى أنه صراع من داخل النخب على مَن لديه الحق في أن يكون الأقرب إلى الزعيم، وينال الحصة الأكبر.
التخلص من بريغوجين ليس قرارًا سهلًا، وهو ما يفسر- إلى حد كبير- عدم ذكر بوتين له بالاسم، أو ذكر مجموعته القتالية؛ لأنه يسيطر على هذه المجموعة التي لا تعرف قائدًا غيره، والتخلص منه يعني فقدان السيطرة على مجموعة من المجرمين المسلحين والمدربين جيدًا، مع خبرة قتالية، وفقدان رأس المال الجيوسياسي في إفريقيا، وتحديدًا ليبيا والسودان وبلدان الساحل، التي تنتشر فيها قوات “فاغنر” لدعم مصالح الكرملين.
أدرك بريغوجين جيدًا هذه المعادلة، وهو ما جعله يمتلك القدرة والجرأة على التحدي، مع عدم خشية العواقب؛ لأن التعرض له يعني خسارة للكرملين، ربما يتغير الواقع لاحقًا، ويتم التخلص منه، لكن على الأقل، في الوقت الحالي يصعب ذلك.
ذكرت عدة مصادر روسية أن الطيران الروسي قد ضرب جسرًا في قرية برودوفويا في مقاطعة أنينسكي، بمنطقة فورونيج، في الطريق إلى بوريسوغليبسك -45، التي تحتوي على منطقة مغلقة للأسلحة النووية، والتي توجهت إليها قوات “فاغنر” لتأمين وضعها التفاوضي، وقد كان لهذا الأمر- إذا حدث- تأثير سلبي كبير جدًّا في صورة الكرملين أمام المجتمع الدولي، وهو ما عجّل بإجراء المفاوضات.
نتيجة لكل ما سبق، قبل الكرملين وساطة الرئيس البيلاروسي، وصدر عفو عام عن بريغوجين، وأُلغيت جميع الإجراءات الاستثنائية، وتغير المشهد 180 درجة.
ربما يجادل البعض أن صورة الكرملين قد تضررت كثيرًا في الداخل الروسي، وما بدا من تراجعه تحت ضغوط بريغوجين، التي بدأت بإصدار الرئيس بوتين عفوًا عامًّا عن كل المدانين في السجون ممن يقررون الالتحاق بالعمل العسكري، وهو أحد مطالب بريغوجين، الذي حُرِمَ منذ شهر فبراير (شباط) 2023 من تجنيد المدانين، لكن الكرملين لا يهتم كثيرًا بصورته في الداخل، وقادر على إعادة تسويق أي قرار يتخذه، ولديه من أدوات القوة ما يحسم من خلالها الوضع الداخلي.
غالبًا، ستُسوّق القرارات الجديدة على أنها أظهرت حكمة الرئيس بوتين، وحرصه على ألا يتقاتل الروس وتسيل دماؤهم، وسيتمكن من خلال هذه الأحداث من تنظيم عملية “تنظيف” داخلي للنخب التي لم يكن من السهل الاقتراب منها، ومعها تبدأ عملية إعادة توزيع جديدة للسلطة والثروة تتلاءم مع حقائق القوة الجديدة على الأرض. كما سيشكل هذا الحدث محور حملته الانتخابية القادمة؛ بأن البلاد تواجه عدوًّا خارجيًّا، وفي الداخل تواجه فسادًا وانعدامًا للكفاءة، وهو ما يتطلب بقاء الرئيس بوتين لقيادة عملية تصحيح الأوضاع الداخلية، واتمام المهمة الخارجية.
كتب بريغوجين اسمه في التاريخ الروسي، وأصبح أحد أبطاله، وهو مكسب كبير، تمكن من تحقيقه في ظل خلفيته بوصفه مجرمًا سابقًا وطاهي طعام، ليصبح شخصية شعبية، لها ذكر في التاريخ.
وبعد تمرد فاغنر ربما يذهب بريغوجين إلى إفريقيا، ويزيد من حجم قواته ونفوذه هناك. يعد هذا الأمر- إذا حدث- مكسبًا كبيرًا لزعيم “فاغنر”، الذي لم يكن متحمسًا لتبديد جهوده وطاقاته في أوكرانيا، والتعامل مع البيروقراطية الروسية المتعالية عليه، في حين يملك القول الفصل في مناطق نفوذ مجموعته العسكرية في إفريقيا، إلى جانب الثروات الطائلة التي يتولى توزيعها بنفسه.
الضرر الأكبر على صورة الكرملين يقع في الخارج، حيث تضررت سمعة الجيش الروسي، وبات يُسخَر منه ويُتندَر عليه غربيًّا، وفق بعض التصريحات الأمريكية التي وصفته بأنه تحول من “الجيش الثاني عالميًّا إلى الجيش الثاني في روسيا”، كما يتوقع أن يشجع ما حدث كثيرًا من الدول الأوروبية على تقديم دعم أكبر لأوكرانيا، في ظل اهتراء الجبهة الداخلية الروسية.
غالبًا سيطلب الكرملين من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان تقديم استقالتيهما، وتعيينهما في مناصب أخرى؛ ومن ثم يحكم بوتين قبضته على الجيش.
سيتجه الكرملين- بشكل أكبر- نحو الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط وإفريقيا، وما يسمى العالم الجنوبي؛ لتعويض خسارته على المحور الغربي.
أظهرت الأحداث الأخيرة للداخل الروسي أن روسيا بلا بوتين تعني الفوضى، والدماء، والحرب الأهلية، وهو ما يهون أي مصاعب اقتصادية على الشعب، وتجعله يتمسك به. على المستوى الغربي، أوضحت الأحداث لكل القوى الراغبة في التخلص من بوتين أن بديله لن يكون شخصًا “ليبراليًّا”؛ لافتقاد المعارضة- في الداخل والخارج- أي شخصية كاريزمية مؤثرة، ولا من داخل النظام الذي يعاني شيخوخة وقلة كفاءة، وفي الغالب، سيكون بديله شخصية متهورة لا يمكن التحكم فيها. حسب التسريبات الغربية، وكذلك الروسية، فقد فُتِحَ اتصال مباشر من خلال واشنطن وبرلين وباريس مع الكرملين؛ لعرض المساعدة والاستفسار عن سلامة المنشآت النووية في فورونيج؛ خشية سيطرة “فاغنر” عليها.
قد يدفع هذا الوضع الغرب إلى الضغط على أوكرانيا لتغيير قرارها بعدم التفاوض مع بوتين إلا بعد الانسحاب من جميع الأراضي الأوكرانية، أو وصول رئيس غيره إلى السلطة، وقد تبدأ هذه العملية بعد نهاية الهجوم المضاد الأوكراني.
سيظل بوتين مسيطرًا على الأوضاع في الداخل، والسلطة العليا في الدولة والمجتمع، لكن السؤال هو: ماذا بعد خمس سنوات بالتحديد؟ وكيف سيكون الوضع في روسيا؟ هذا سؤال مفتوحة الإجابة عنه على الاحتمالات كافة، وفي الغالب سيعتمد على “الداروينية الاجتماعية” داخل النظام السياسي الروسي.
ما يبدو أكيدًا هو أن هذه التمرد بين العشائر المتنافسة مثل تمرد فاغنر سيؤدي إلى تغييرات عميقة داخل تركيبة النظام السياسي الروسي، وهو ما يستلزم مزيدًا من الدراسة والاهتمام العربي بما يحدث في الداخل الروسي؛ نظرًا إلى تأثير هذا البلد الكبير في أوضاع المنطقة أمنيًّا وجيوسياسيًّا واقتصاديًّا. ومن خلال التسوية الأخيرة، يمكن لبوتين الآن أن يعيد السيطرة على المشهد بعد حالة الفوضى التي سادت فيه طيلة العام ونصف العام الماضيين، وإعادة تشكيل نظامه استعدادًا لانتخابات الرئاسة عام 2024.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير