عكفت كاتبة هذا المقال على ترجمة عدة أعمال للأديب الروسي الكبير ألكسندر بيليايف (1884- 1942)، وتبين لها عدد من الأفكار والرؤى التي تقف خلف شهرة هذا الأديب الكبير.
أول ما يلفت انتباهنا تلك الأفكار الفريدة والغريبة لأبطال رواياته، مثل رجل لا ينام، أو رجل يطير، أو عالِم يتحكم بالبرق. يتمتع الكاتب أيضًا بقدرة على جذب القارئ، ليس لأن هذه الأفكار غريبة، أو خيالية، وفانتازية خالصة؛ بل لأنها تضم أفكارًا علمية.
كثير من روايات بيليايف، المصنفة في فئة الخيال العلمي، تبدأ بأفكار كبيرة، عالم جديد، أو بشر بصفات غريبة، أو رحلة عبر النجوم، لكن ماذا بعد؟ يفشل بعض الكتاب بعد ذلك في تقديم أفكار تتماشى مع فكرتهم، لكن بيليايف تجاوز هذه الصعوبة؛ لأنه آمن بأن أصغر التغييرات قادرة عن تغيير العالم، وهو ما حدث في “الخبز الأبدي” على سبيل المثال، فتوفير سلعة واحدة فقط للجمهور قادر على تغيير الاقتصاد، وإقامة حروب وإبادة دول كاملة.
هذا التسلسل الجذاب، بداية من عنوان جذاب، وفكرة كبيرة، يعطي القارئ في النهاية عالمًا جديدًا مختلفًا عن الذي يعرفه بفضل العلم، وهي خلطة جذب مضمونة استعملها بيليايف في أغلب رواياته.
كما استخدم بيليايف في أعماله أسلوب الفصول، وأجزاء قصيرة، تحاشيًا لما قد يصيب القراء من ملل، أو ضجر.
وعلى مستوى اللغة، فإن لدى بيليايف طريقة بسيطة سلسلة جدًّا، خلافًا لما هو معروف في بعض أنواع الخيال العلمي الصارمة (Hard science fiction)، التي تشمل الروايات التي تحتوي على كثير من الوصف لأدق العمليات والأفكار العلمية، وتخرج على نحو يشبه الرواية التعليمية التي تعلم القارئ، لكن بيليايف رغم اهتمامه بالأساس العلمي فإنه لم يغفل الأفكار الفلسفية والاجتماعية والنفسية التي يجب أن توجد بجانب الإشارة إلى السبب العلمي وراء كل هذا، وهو ما يفسر استخدامه لغة غير متخصصة كثيفة الشرح؛ ومن ثم لا يمكن إطلاق كلمة صعب على ترجمة ببليايف، فهدفه الأول كان إيصال كتاباته إلى كل الفئات، وهو ما يفسر اختياره لكتابه الأعمال القصيرة، وأيضًا نشرها في المجلات لتحظي بأكبر أنتشار.
يمكننا طرح هذا السؤال على كثير من الأعمال، وهو سؤال يشمل الكلاسيكيات عمومًا، أو تصنيف الخيال العلمي خصوصًا. أما فيما يتعلق بالكلاسيكيات فهناك كثير من الآراء والمقالات والكتب التي تحدثنا عن استحالة تخلينا عن الأدب الأول الذي بنى القواعد. لمتابعة تطور الأدب نحتاج إلى العودة للبدايات، أن نرى تطور اللغة، ومن اللغة: ما الأوصاف المستخدمة؟ وما نوعية الأفكار التي تعطينا فكرة عما جال بخاطر هؤلاء الكتاب ذات يوم؟ ومن ثم نقارنها بما نفكر فيه في أيامنا.
وفيما يتعلق بالخيال العلمي، فالبعض يرى أن أفكاره تتقادم مع الزمن، فمثلًا، تصنيف رحلة البشر إلى الفضاء أو القمر لم يعد خيالًا علميًّا الآن، عكس الكتابات الأولى التي تنبأت بشكل الآلات قبل وجود الصواريخ، أو خصائص الكون، والكواكب، والغلاف الجوي، والكائنات في الفضاء. الآن لم تعد كل هذه المعلومات مجهولة، وربما يعتقد البعض أننا إذا كتبنا عملًا عن رائد فضاء، فربما يكون تصنيفه واقعيًّا، أو اجتماعيًّا، أو حتى إثارة، لكنه خرج من دائرة التنبؤ التي تحيط بتصنيف الخيال العلمي.
وأعمال بيليايف لا تختلف كثيرًا عن هذا المثال، فقد بدأ بيليايف كتاباته في عشرينيات القرن العشرين، أي مضى على كتابتها 100 عام! وبالفعل، رواية مثل “الرجل الذي فقد وجهه” تحققت بفعل عمليات التجميل، لكن كما ذكرنا في مثال الكلاسيكيات، فملاحظة أفكار القرن السابق تساعدنا على فهم كيف وصلنا إلى هنا.
في رأيي، تتحدى أعمال بيليايف الزمن، والدليل هو إعادة طبعها في روسيا إلى الآن، بجانب الترجمات الجديدة التي تصدر كل فترة في لغات مختلفة، وهو ما يعني إيمان دور النشر والمترجمين القائمين على الاختيار بأهمية أفكاره ومتعتها للقارئ أيضًا. كما أن روايات بيليايف نجت من سيل من روايات الخيال العلمي التي تدور في فلك واحد، في العشرينيات كان الكتاب السوفيت الموالون للدولة يكتبون مستقبل الدولة بوصفه قادمًا لا محالة، لا بوصفه خيالًا علميًّا، أحد تلك الأمثلة في رواية “العالم القادم” للروائي ياكوف أوكينوف، الذي كتب في مقدمة روايته يقول:
“من الممكن أن يعتبر كثير من القراء بعد قراءة هذه الرواية أنَّ كل ما ذُكِر بداخلها حلمٌ غيرُ قابل للتَّحقُّق من خيال الكاتب الخامل- هنا يتمُّ تصوير النظام الشيوعي المستقبلي، وهو مجتمع حر تمامًا، ولا يمثل فقط اختفاء العنف من طبقة على أخرى، ومن الدولة على الفرد- هل هذا خيال؟ لا. فكِّر فيما بدأ في روسيا في 25 أكتوبر 1917م، وانظر إلى ما يحدث في جميع أنحاء العالم- كل ما تمَّ تصويره في هذه الرواية إمَّا أنه تم اكتشافه وتطبيقه عمليًّا، أو في طريقه إلى الاكتشاف”.
لذا، لدى المؤلف سببٌ للخوف من استغراقنا وقتًا طويلًا للوصول إلى مملكة العالم القادم، وهو مقتنع بأنَّه في غضون 200 عام سيتخطى الواقع وراءه كل شيء قد يبدو خياليًّا للقارئ في هذه الرواية.
رواية “ياكوف” واحدة من نماذج كثيرة بالأفكار نفسها عن تقدم دولة واحدة، وتحول المستقبل إلى أرض الأحلام الوردية، وكان من البديهي اختفاء كثير منها لتكرر الفكرة، خاصة إذا كانت لمجرد المديح، والحقيقة أن موقف بيليايف كان مناصرًا للدولة، وهو ما ذكره بنفسه في عدد من الأعمال على لسان الدكتور فاغنر:
“أريد أن أعيش وأعمل في روسيا. أعمالي كلها لها”. وفي إحدى مقابلاته قال “إن هدفي ككاتب هو نشر الأفكار العلمية المهمة، التي يمكن استخدامها لبناء الاشتراكية”.
لكن رغم كل هذه الإشارات، لم يكتب قصة مكررة، بل جاءت أفكاره كلها مختلفة من حيث الأبطال، ومكان وقوع الأحداث، وهو ما جعل كلًا منها مميزًا.
كثير من أفكار بيليايف لم يتحقق بعد كما وصفه، لكن حتى فيما يتعلق بالأفكار التي تحققت، من المثير عقد مقارنة بين ما طرحه بيليايف من خيال بما جرى في الحقيقة، وإلى أي مدى وصلت دقة تنبؤاته بالواقع.
لم تكن كتابات يبليايف مجرد قصص خيالية، بل كانت أفكارها مستوحاة من رؤاه، إما عن المستقبل، أو عن تأثره بما يجري في الوقت الحالي. عمله الأول الذي نشر عام 1926 كان رواية باسم “رأس البروفيسور دويل”، تتناول البروفيسور الفرنسي كيرن الذي يقتل أستاذه دويل ثم يسعى إلى إحياء رأسه مرة أخرى؛ للاستفادة من علمه في إحياء الرؤوس، وإعطائها أجسادًا جديدة.
حصلت الرواية على شهرة عريضة، وكتب النقاد أنها تحوي اقتباسات من سيرة الكاتب الذاتية بسبب مرض السل الذي أصاب عظامه وأقعده ست سنوات كاملة في السرير، في تلك السنوات تركته زوجته، وماتت والدته من الجوع، ولم يقدر هو على التحرك واستعادة حياته إلا في عام 1922، وبعدها بأعوام نشر تلك الرواية.
بعد أعوام تحدث الكاتب بنفسه عن هذا العمل في حوار مع مجلة “أدب الطفل” عام 1939 “لقد أقعدني المرض ذات مرة في السرير، ووضعت قدمي في الجبس ثلاث سنوات ونصف السنة. وكانت هذه الفترة من المرض مصحوبة بشلل في النصف السفلي من الجسم. وعلى الرغم من أنني كنت أتحكم في يدي، فإن حياتي خلال هذه السنوات تحولت إلى حياة (رأس بلا جسد) لأنني لم أشعر به على الإطلاق، مثل تخدير كامل”.
كما يمكن اعتبار رواية “رأس البروفيسور دويل” هي فكرة بيليايف المستقبلية عن عمليات زراعة الرأس، وهذه لن تكون المرة الأولى التي يناقش فيها تأثير العلم؛ ففي رواية “الرجل الذي فقد وجهه” (عام 1929) تنبأ بالعمليات التجميلية، وبتأثير الغدد في تغيير الهيئة، وأهم من وجود تلك العمليات نفسها هو التأثير النفسي والاجتماعي على الشخص. في الرواية، يخضع شخص مشهور لعملية جراحية لتغيير هيئته، لكن المجتمع ينبذه رغم تحوله من القبح إلى الوسامة.
واحدة من أفكاره التي تنبأ بها في أثناء رحلته للعلاج في جزيرة القرم للحصول على الهواء النقي، هي فكرة تلوث الغلاف الجوي، وقد كتب هذه الفكرة في رواية “بائع الهواء” التي تتنبأ بتجارة الهواء في المستقبل. لقد رأي بيليايف في البداية جذور المشكلة، وأن البشر على استعداد للسفر من مكان إلى آخر مقابل الهواء فقط، إذ ما يمنع أن يتحول الهواء إلى سلعة غالية يتحكم فيها التجار؟! فكرة التجار الجشعين الذين يستغلون حاجات الناس وقت المرض والحروب هي فكرة متكررة في أدب بيليايف، وقد يرجع ذلك إلى تحليله الشخصي لنفسية البشر الجشعة، أو تأثره بالأفكار الشيوعية المعادية للرأسمالية، وفكرة السوق المفتوحة.
مثل كل الكتاب، وجدت كتابات بيليايف آراء نقدية مختلفة؛ البعض رأي أن كتاباته لا تشبه النشر الروسي، سواء في موضوعات التناول، أو في في هيكل الكتابة الخارجي، وقال النقاد إن بيليايف متأثر بتوجه الخيال الذي كان سائدًا في العالم الغربي آنذاك، وإن رواياته ما هي إلا قصص تجارية مسلية.
من الانتقادات التي وجهت إلى بيليايف أيضًا انتقادات ذات علاقة بالجانب الاجتماعي، أو بالأحرى الاجتماعي الأنثروبولوجي، وهذا موجه إلى الروايات التي تفسر الطرق الممكنة لتطور الجسد البشري، وتأثير البيئة والعوامل الاجتماعية فيه، وآفاق التقدم الحضاري المؤدية إلى تلك النتائج.
رغم هذا النقد اللاذع، يبدو أن الروايات نفسها نجحت في الوصول إلى شريحة كبيرة من القراء، وعلى أثر هذه الشهرة، وفي لقاء بين الكاتب الإنجليزي الشهير هـ.ج. ويلز وبيليايف عام 1934 في لينينغراد، أعرب ويلز عن رأي معاكس قائلًا: “لقد كان من دواعي سروري يا سيد بيليايف أن أقرأ روايتيك الرائعتين (رأس البروفيسور دويل) و(الرجل البرمائي). إنهما تقارنان على نحو إيجابي بأنجح الأعمال الغربية، بل إنني أشعر بالغيرة من نجاح رواياتك”.
وربما كان رواج أعمال بيليايف وشهرته بسبب أفكاره الغريبة، فالكتابات الخيالية لم تكن منتشرة في روسيا في بداية القرن العشرين إلا من أعمال قليلة متفرقة، لم يكن كاتبوها يسعون إلى تصنيفها بهذا الشكل، بل كانت عملًا واحدًا من ضمن أعمالهم.
كان ألكسندر بيليايف أول من كسر القاعدة ليُخرج كل أعماله خيالية تناقش قدرات الدماغ، وتحولات البشر، والسفر إلى الفضاء، والعيش تحت الماء، ووجود مخلوقات أخرى، والاختراعات التي تقلب العالم رأسًا على عقب.
لم يكتفِ بيليايف بوضع أعماله في نطاق تشويقي ذي أحداث متلاحقة فحسب؛ بل ناقش تلك الأفكار من جانب إنساني واجتماعي، وعقب كل فكرة كان يتخيل مع القارئ هل ستؤثر تلك الفكرة بالإيجاب أم بالسلب؟ وما التحولات التي سوف تحدث للاقتصاد، والسياسة، والحكومات؟ وفي الوقت نفسه تجده يضع مثالًا إنسانيًّا لشخص يتأثر بتلك الفكرة، ومن خلاله نرى تحولات البشر وقراراتهم.
ألكسندر بيليايف هو سيد الأفكار المتضاربة، فليس هناك أبيض وأسود، أو خير وشر، فالخير يمكن أن ينقلب إلى كارثة، ومن قلب الحرب يمكنك أن تحقق ثروة، وما يظنه الآخرون اختراعًا مذهلًا قد يدمر البشرية.. من يعلم! ما دمنا نتخيل، فكل الاحتمالات تظل مفتوحة.
ألكسندر بيليايف إذن هو رجل التخيلات المثالي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.