أدب

مكسيم غوركي: رواية “الأم”


  • 24 يوليو 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: онлайн-читать.рф

تعد رواية “الأم” من أبرز الأعمال الأدبية للكاتب الروسي مكسيم غوركي، وهي تعد حجر زاوية في الأدب الروسي والعالمي. صدرت الرواية لأول مرة عام 1906، وترجمت إلى كثير من اللغات، وحظيت بإشادة واسعة بسبب تناولها العميق للقضايا الاجتماعية والسياسية في روسيا خلال فترة ما قبل الثورة البلشفية.

تدور أحداث الرواية في روسيا تحت الحكم القيصري أوائل القرن العشرين. يعيش عمال مع عائلاتهم في مستوطنة، وترتبط حياة هؤلاء الأشخاص ارتباطًا وثيقًا بالمصنع. في الصباح، مع صافرة المصنع، يخرج العمال إلى العمل، وفي المساء يلتقون ويتحدثون فقط عن المصنع، ويفرطون في شراب الخمر، ويتشاجرون.

في البداية نتعرف العائلة التي سترافقنا طوال الرواية، وهي مكونة من الأم بيلاجيا، والابن بافل، والأب فيلاسوف. وقد صور غوركي الأب فيلاسوف في الرواية رجلًا سكيرًا عصبيًّا وعنيفًا يضرب الأم والابن بلا داع.

لكن بعد أعوام، يموت الأب، وتكتشف الأم بيلاجيا تغيرًا في حياة ابنها بافل. في أيام العطلات يذهب إلى المدينة، ويجلب الكتب، ويقرأ كثيرًا، بل تتغير طباعه أيضًا ويصبح أكثر لطفًا مع والدته، ويساعدها في أعمال البيت، وهي لم تعتد أن يقوم الرجال بتلك المهام.

بعد مرور بعض الوقت، يبدأ رفاق بافل بالتجمع في منزلهم في أمسيات السبت، منهم أندريه الأوكراني، والفتاتان ناتاليا (ناتاشا)  وألكسندرا (ساشا) اللتان تركتا عائلتيهما الغنية من أجل الكفاح بأنفسهما.

يجمع الحب بين بافل وساشا، لكنهما لا يستطيعان الزواج؛ فكلاهما يعتقد أن الزواج يعطل العمل الثوري ويعرقله، وأن الزواج سيجبرهما على مواصلة كسب لقمة العيش، وشراء شقة، وتربية الأطفال.

يكمل أعضاء الدائرة اجتماعاتهم في منزل فلاسوف، ويقرؤون كتبًا عن التاريخ، ويتحدثون عن محنة عمال الأرض، وعن تضامن جميع العمال، وغالبًا ما يغنون الأغاني. وفي هذه اللقاءات تسمع الأم كلمة “اشتراكيين” لأول مرة.

تحب الأم بيلاجيا أندريه الذي يناديها بمودة “نينكو”، قائلًا إنها تشبه والدته بالتبني المتوفاة، لكنه لا يتذكر والدته الحقيقية. بعد مرور بعض الوقت، يدعو بافل ووالدته أندريه للانتقال إلى منزلهما، ويوافق أندريه الأوكراني بكل سرور.

تظهر منشورات في المصنع تتحدث عن إضرابات العمال في سانت بطرسبورغ، وعن ظلم ظروف المصنع، وتدعو المنشورات العمال إلى الاتحاد والنضال من أجل مصالحهم. تدرك الأم أن ظهور هذه المنشورات مرتبط بعمل ابنها، هي فخورة به وفي الوقت نفسه تخشى على مصيره. بعد مرور بعض الوقت، تأتي الشرطة إلى منزل فلاسوف للتفتيش، ويقبضون على أندريه.

يظهر إعلان في المصنع بأن الإدارة ستخصم كوبيكا واحدًا من كل روبل يكسبه العمال لردم المستنقعات المحيطة بالمصنع. العمال غير راضين عن قرار الإدارة هذا، ويأتي كثير من العمال الأكبر سنًا إلى بافل للحصول على المشورة. يطلب بافل من والدته أن تذهب إلى المدينة لتأخذ مقاله إلى الصحيفة حتى تخرج قصة “كوبيك المستنقع” في أقرب عدد، ويذهب إلى المصنع، حيث يقود اجتماعًا بحضور المدير، يحدد مطالب العمال بإلغاء الضريبة الجديدة، لكن المدير يأمر العمال باستئناف العمل، ويعود الجميع إلى أماكنهم. بافل المنزعج يعتقد أنه لم يكن قادرًا على قيادتهم؛ لأنه شاب، وضعيف. في الليل تأتي الشرطة مرة أخرى وتعتقله.

بعد بضعة أيام، تعرف الأم بيلاجيا أنه بالإضافة إلى بافل، قُبِضَ على 48 عاملًا آخر في المصنع، وسيكون من الجيد الاستمرار في توزيع المنشورات في المصنع. تتطوع الأم لحمل المنشورات، وتطلب من صديقة تبيع وجبات الغداء للعاملين في المصنع أن تقبلها للعمل مساعدة لها. يُفتَّش كل من يدخل المصنع، لكن الأم تنجح في تهريب المنشورات وتسليمها للعمال.

أخيرًا يغادر أندريه وبافل السجن، ويستعدان لاحتفال عيد العمال. يحمل بافل لافتة أمام طابور المتظاهرين، مع أنه يعلم أنه سيُزج به في السجن مرة أخرى بسبب ذلك. في صباح الأول من مايو، لا يذهب بافل وأندريه إلى العمل، بل يذهبان إلى الساحة، حيث تجمع الناس بالفعل. يعلن بافل الذي يقف تحت الراية الحمراء، أنهم اليوم- أعضاء حزب العمل الديمقراطي الاجتماعي- يرفعون علانية راية العقل والحقيقة والحرية، ويهتفون “يحيا العمال في جميع البلدان”. بهذا الشعار تحركت المظاهرة التي قادها بافل في شوارع المستوطنة، ومع ذلك خرجت مجموعة من الجنود للقاء المظاهرة، فكسروا الراية الحمراء، وقبضوا على بافل وأندريه. تلتقط الأم جزءًا من العصا مع قطعة من الراية الحمراء الممزقة التي مزقها رجال الشرطة من يدي ابنها، وتعود إلى المنزل.

بعد بضعة أيام، تنتقل الأم إلى المدينة مع نيكولاي إيفانوفيتش، الذي وعد بافل وأندريه بأخذ الأم إلى المدينة إذا قُبِضَ عليهما. في المدينة، تبدأ الأم بعملها البسيط راعية لبيت نيكولاي إيفانوفيتش. تقبل على العمل النشط متنكرة في زي راهبة، أو أو تاجرة دانتيل، تسافر إلى مدن المقاطعة وقراها لتوصيل الكتب والصحف والإعلانات المحظورة. إنها تحب هذا العمل، وتحب التحدث إلى الناس، والاستماع إلى قصصهم عن الحياة. ترى أن الناس يعيشون نصف جائعين بين ثروات الأرض الضخمة. بعد عودتها من رحلاتها إلى المدينة، تذهب الأم إلى ابنها في السجن. في أحد هذه التواريخ، تمكنت من إعطائه رسالة تدعو رفاقه إلى ترتيب هروب له ولأصدقائه، لكن بافل يرفض الهروب.

وأخيرًا يأتي يوم المحاكمة، ولا يُسمح إلا لأقارب المتهمين بدخول قاعة المحكمة. كانت الأم تتوقع شيئًا فظيعًا، لكن كل شيء يسير بهدوء. يتحدث القضاة بملل، بشكل غير واضح، على مضض، الشهود متسرعون، كما أن خطابات المدعي العام والمحامين لا تمس قلب الأم. ولكن بعد ذلك، يبدأ بافل بالكلام، إنه لا يدافع عن نفسه، بل ينفي أنهم متمردون، ويقول إنهم اشتراكيون، شعاراتهم هي: تسقط الملكية الخاصة، كل وسائل الإنتاج تذهب إلى الشعب، كل السلطة تذهب إلى الشعب، العمل إلزامي على الجميع. إنهم ثوريون، وسيبقون كذلك حتى تنتصر كل أفكارهم. كل ما يقوله الابن معروف لدى الأم، ولكن هنا فقط، في المحاكمة، تشعر بقوة إيمانه. ثم تلا القاضي الحكم بعد ذلك؛ “نفي جميع المتهمين إلى سيبيريا”.

عندما تعود الأم إلى المنزل، يخبرها نيكولاي أنه قد تقرر نشر خطاب بافل في المحاكمة. تتطوع الأم لنقل خطاب ابنها إلى مدينة أخرى لتوزيعه. وتنتهي الرواية بمحاولة الأم توزيع خطاب ابنها، لكن رجال الشرطة يوقفونها، ولا يسمحون لها بالتكلم.

السياقان الاجتماعي والسياسي

لم تكن “الأم” مجرد خيار روائي عابر؛ بل تمثل رمزية عميقة ومعقدة تعبر عن الأمل، والنضال، والتضحية. يمكن فهم هذا الاختيار من خلال تحليل السياقين الاجتماعي والسياسي اللذين كتب فيهما غوركي روايته، بالإضافة إلى دراسة الأبعاد النفسية والفلسفية للشخصية.

لقد كتب غوركي رواية “الأم” في بداية القرن العشرين، وهي فترة شهدت تغييرات جذرية في روسيا، حيث كانت الطبقة العاملة تعاني الفقر، والظلم، والاستغلال. في هذا السياق، كانت الحاجة ملحة إلى رمز يوحد هذه الطبقة في نضالها ضد القمع. اختار غوركي الأم لأنها تجسد التضحية والحنان، وهي القيم التي يمكن أن تجمع الناس حول قضية مشتركة. الأم في الرواية ليست مجرد شخصية فردية؛ بل هي رمز للأمومة العالمية، القوة الدافعة التي يمكن أن تحرك الجماهير نحو التغيير.

ومن الناحية النفسية، تمثل الأم في الرواية الحنان والحب غير المشروط، وهي القيم التي يمكن أن تشجع الأفراد على مواجهة التحديات.

لقد أراد غوركي أن يظهر أن النضال من أجل العدالة لا يتطلب قوة جسدية فقط؛ بل يتطلب أيضًا قوة عاطفية ونفسية. الأم في الرواية تتطور من شخصية بسيطة تجهل الكثير عن السياسة، إلى زعيمة حقيقية تتحمل المسؤولية، وتلهم الآخرين.

تحليل عناصر الرواية

  • أوضاع العمال

تسلط الرواية الضوء على الظروف القاسية التي عاناها العمال في روسيا القيصرية، حيث تعرضوا للاستغلال والقمع من جانب أصحاب العمل. وقد أراد الكاتب التركيز على تلك البيئات السامة؛ لذا لم يختر قرية أو مدينة كبيرة كي تكون منبع الأحداث؛ بل اختار قرية أو مستوطنة قائمة على عمال تحت خدمة مصنع واحد، ومع ذلك لا يوفر هذا المصنع لهم إلا الشقاء، فخصص غوركي في بداية العمل جزءًا لوصف حياة العمال اليومية الرتيبة، بسرد شبه مختلف عن باقي أجزاء الرواية، قاتم ومملوء بالتفاصيل، عن الإذلال والحياة المهينة.

  • دور المرأة في الثورة

تقدم رواية “الأم” صورة مغايرة للمرأة عن تلك السائدة في ذلك الوقت، حيث تظهر المرأة كقوة فاعلة في المجتمع، قادرة على المشاركة في النضال الثوري، وتحقيق التغيير.

وتجسد الأم بيلاجيا هذا الدور بوضوح، حيث تتخلى عن دورها التقليدي كربة منزل؛ ففي البداية تشترك في توزيع المنشورات، لكن فيما بعد تصبح أقرب إلى ناشطة ثورية، تلهم العمال وتنظم صفوفهم.

لم تكن الأم بيلاجيا هي النموذج الوحيد، فنرى أيضًا نموذج الفتاتين ساشا وناتاشا، اللتين تأتيان من عائلتين مشهورتين بالثراء، لكنهما تقرران ترك تلك الحياة، والمشاركة في ثورة العمال، والبدء من الصفر بعد أن عاشتا حياة مرفهة.

  • التضحية من أجل القضية

تظهر الرواية عظمة التضحية التي قدمها الثوار في سبيل تحقيق مثلهم العليا؛

فقد ضحى بافل بحياته من أجل نضاله الثوري؛ ففي البداية سجن عدة مرات، وفي النهاية نفي إلى سيبيريا، في حين واجهت الأم كثيرًا من الأخطار والتهديدات، مما يظهر تمسكها وإيمانها بقضية الثورة، واستعدادها للتضحية من أجلها.

خلال العمل نرى محاولات بافل لإقناعه والدته بالامتناع عن البكاء حتى أصبحت بالفعل ترى الواقع أمامها ولا تتحرك بغريزة الأمهات الحامية لأبنائها، بل أصبحت داعمة فيما يريد أن يحققه بعد اقتناعها أن هذه هي القيم الحقيقية الواجب نشرها.

  • الوعي الثوري ونشر الأفكار

تؤكد الرواية أهمية الوعي الثوري، ونشر الأفكار بين الناس كعامل أساسي لتحقيق التغيير. نلاحظ أن الشرارة الأولى بدأت من حصول بافل على بعض الكتب، التي سريعًا ما تتحول إلى مكتبة في التاريخ والسياسة، كما يصبح تجمعهم الصغير في المنزل أقرب إلى الدراسة والتزود من النقاش.

بعد تطور الأحداث نرى تركيز الشباب، وعمل الأم على نشر المطبوعات والمجلات وإيصالها إلى القرى الصغيرة لتثقيف العمال. رسالة غوركي واضحة؛ كانت الحروف هي من صنعت المناضل الأول في العمل، وهي من ستصنع الملايين خلفه بالتثقيف.

  • الأمل في المستقبل

على الرغم من الأحداث المأساوية التي تعرض لها أبطال الرواية، فإنها تشع بالأمل في مستقبل أفضل. حتى في أثناء سجنهم، كان المناضلون يتحدثون عن المستقبل الأفضل للأبناء.

كما أن نفي بافل لم يطفئ جذوة الثورة؛ بل زاد عزيمة الأم ورفاقها على الاستمرار في النضال من أجل تحقيق العدالة والمساواة.

  • الدين والإيمان

من المعروف أن المبادئ الاشتراكية كانت ضد الإيمان الديني، لكن غوركي كان ذكيًا بما يكفي لتكون الأم وإيمانها محركًا أيضًا في الأحداث، ومع أن الابن والمناضلين أنفسهم غير مؤمنين، لكننا نرى أن الأم تصدق أفكارهم وتعتنقها بلا تعارض مع إيمانها.

وهذه وجهه نظر مهمة تساعد الكاتب على نشر أفكاره وروايته بين أكبر عدد ممكن من القراء؛ فخلال سنين كتابة الرواية، وللشريحة الموجهة (العمال وعامة الشعب)، لم يكن نشر رواية تحث على التخلي عن الإيمان سيحقق نجاحًا كبيرًا، لكن غوركي استطاع اختيار طريقة تدمج كلتا الفكرتين من خلال تقديم بطلة مؤمنة.

خاتمة

في ختام مقالنا عن رواية “الأم” لمكسيم غوركي، نرى كيف أن هذه الرواية لم تكن مجرد عمل أدبي بقدر ما كانت لوحة تصويرية لحياة الطبقة العاملة في روسيا القيصرية. من خلال شخصية الأم وبافل، يعبر غوركي عن قوة الإيمان بالعدالة والتضحية في سبيل المبادئ العليا. لقد جسدت الرواية كفاح الطبقات المسحوقة ونضالها من أجل حقوقها الأساسية، وأبرزت أهمية الوعي الجماعي والعمل المشترك في مواجهة الظلم والطغيان.

إن “الأم” ليست مجرد قصة أم عادية؛ وإنما هي رمز لكل أم وكل شخص يناضل من أجل مستقبل أفضل. تظل هذه الرواية خالدة في الأدب العالمي، تُلهم الأجيال وتُذكرهم بأن الأمل والتغيير يبدآن من الإيمان بالقضية، والعمل الدؤوب لتحقيقها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع