تقدير موقفمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة

دلالات التوقيت.. ورمزية الميدان

لماذا هاجم داعش خراسان روسيا؟


  • 26 مارس 2024

شارك الموضوع

المقدمة

يوم الجمعة الماضي، شهدت موسكو واحدة من أعنف الهجمات الإرهابية منذ عقود، عندما اقتحم مسلحون قاعة للحفلات الموسيقية في مدينة كروكوس بموسكو، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 143 شخصًا، وإصابة أكثر من 120 شخصًا آخرين، وسرعان ما افتخر تنظيم ولاية خراسان التابع لتنظيم الدولة الإسلامية (ISIS-K) بمسؤوليته عن الهجوم، في بيان مقتضب صدر عبر وكالة الأنباء التابعة له، بعد ساعات من الاعتداء الذي مع أنه ليس جديدًا من الناحية الأيديولوجية، فإنه جديد من الناحية التكتيكية.

يسلط الهجوم الدامي الذي نفذه تنظيم داعش خراسان في موسكو الضوء على تعلقه بروسيا، ومدى الآثار السياسية المحتملة في روسيا وخارجها خلال الفترة المقبلة، وهو ما يثير التساؤل عن دلالات توقيت الهجوم الذي جاء بعد أيام من فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بولاية جديدة، كما يحمل الاعتداء دلالات لموقع الهجوم في العاصمة الروسية، ما يعطي رمزية مفادها قوة التنظيم، ومدى تأثيره في مقابل التشتت الأمني الحالي لدى النظام الروسي؛ ومن ثم يفرض هذا استثنائية للعمل المسلح لأنه أول هجوم إرهابي واسع النطاق لداعش خراسان خارج جنوب غرب آسيا.

دلالات التوقيت

المجموعة التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الإرهابي المميت في موسكو يوم الجمعة الماضي هي فرع تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، الذي يسمى ولاية خراسان الإسلامية، أو داعش خراسان، حيث يُعرف هذا التنظيم بأنه أحد أكثر فروع تنظيم الدولة الإسلامية فتكًا، وهي الجماعة الإرهابية العابرة للحدود الوطنية التي ترأست دولة لم تعد موجودة الآن في أجزاء من العراق وسوريا، وقد قتلت الآلاف في أفغانستان وباكستان في هجمات نفذت منذ عام 2015 حتى الآن، إذ تستمد المجموعة اسمها من خراسان، وهو مصطلح قديم لمنطقة تشمل أجزاء من إيران، وتركمانستان، وأفغانستان الحديثة، مع أن أنشطتها تمتد إلى ما هو أبعد من هذه المنطقة. وبالإضافة إلى ارتكاب هجمات مميتة في إيران، وباكستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، واصل تنظيم داعش خراسان أيضًا عمليات تستهدف الولايات المتحدة، ودولًا أوروبا.

يعود بداية تشكيل تنظيم داعش- خراسان إلى أواخر عام 2014 على يد فصيل من أعضاء طالبان والقاعدة المنشقين في باكستان وأفغانستان الذين تبنوا تفسيرًا أكثر عنفًا للجهادية. وفي عام 2015، عرفت الجماعة نفسها رسميًّا على أنها امتداد لتنظيم داعش في منطقة خراسان، وبالتبعية، تطمح داعش- خراسان إلى إقامة خلافة عابرة للحدود الوطنية، وهي دولة للمسلمين تحكم وفقًا لتفسيرها المتطرف للإسلام.

غير أن التنظيم شهد انخفاضًا في عدد صفوفه إلى النصف تقريبًا، فضم من 1500 إلى 2000 مقاتل، بحلول عام 2021، بسبب مجموعة من الغارات الجوية الأمريكية، وغارات الكوماندوز الأفغانية التي قتلت كثيرًا من قادتها، لكن سرعان ما استعاد تنظيم داعش خراسان مكانته بعد وقت قصير من إطاحة طالبان بالحكومة الأفغانية في ذلك العام، وفي أثناء الانسحاب العسكري الأمريكي من البلاد، نفذ تنظيم داعش خراسان تفجيرًا انتحاريًّا في المطار الدولي في كابول في أغسطس (آب) 2021، أدى إلى مقتل 13 جنديًّا أمريكيًّا، وما يصل إلى 170 مدنيًّا، ما رفع المكانة الدولية لتنظيم داعش خراسان، ووضعَه على أنه تهديد كبير لقدرة طالبان على الحكم.

ومنذ ذلك الحين، تخوض حركة طالبان معارك ضارية ضد تنظيم داعش خراسان في أفغانستان، وحتى الآن، منعت الأجهزة الأمنية التابعة لطالبان التنظيم من الاستيلاء على الأراضي، أو تجنيد أعداد كبيرة من مقاتلي طالبان السابقين، وهو من بين أسوأ السيناريوهات التي طُرحت بعد انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب، وفي هذا الصدد، يسعى تنظيم داعش إلى إيصال عملياته الخارجية إلى ما هو أبعد من أراضيه، فوفقًا لتصريحات مسؤولو مكافحة الإرهاب في أوروبا فإنهم أحبطوا في الأشهر الأخيرة كثيرًا من مؤامرات داعش خراسان الناشئة لمهاجمة أهداف هناك.

والآن، أعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجوم الجريء على رواد حفل موسيقي في قاعة مدينة كروكوس في موسكو بعد أيام من فوز بوتين برئاسة جديدة لروسيا، ما يعيد إلى الأذهان ما قبل انتخابات عام 2000، حين قُتل 300 روسي بتفجيرات في عدة مناطق من البلاد، واتهمت المعارضة بوتين آنذاك بتدبير الهجمات لرفع شعبيته عقب تحركه سريعًا ضد الشيشان، والفوز برئاسة روسيا في انتخابات العام نفسه، لكن في الوقت الحالي لا يحتاج بوتين إلى شعبية بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة، وهو ما دفع الخبراء إلى ترجيح أن المعارضة دخلت خط التخريب مجددًا لمحاولة ضرب نتائج الانتخابات، وإرباك الوسط الروسي الذي لا يزال يعيش السباق الانتخابي، خاصة في ظل استغلال تنظيم داعش خراسان تلك المعارضة في اهتمامه بروسيا على مدى العامين الماضيين، فكثيرًا ما كان ينتقد الرئيس فلاديمير بوتين في دعايته، حيث يتهم تنظيم داعش خراسان الكرملين بأن يده ملطخة بدماء المسلمين، في إشارة إلى تدخلات موسكو في أفغانستان، والشيشان، وسوريا.

دلالات الموقع

إن السياسة الخارجية الروسية تمثّل خطرًا كبيرًا على داعش، بداية من الغزو السوفيتي لأفغانستان، والإجراءات الروسية في الشيشان، وعلاقات موسكو الوثيقة مع الحكومتين السورية والإيرانية، وخاصة الحملات العسكرية التي شنتها روسيا ضد مقاتلي داعش في سوريا، حيث غيّرت الضربات الجوية الروسية نيابة عن الرئيس بشار الأسد على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية مسار الحرب الأهلية في سوريا، ومنذ ذلك الحين، أدان كثير من قادة داعش بوتين باعتباره سببًا في قتل المسلمين هناك.

ومع أن روسيا أيدت الحق الفلسطيني في الصراع مع إسرائيل، فإنه مظالم جماعات مثل داعش خراسان مع روسيا، ومع بوتين، أطول أمدًا. إن تنظيم داعش وفروعه ينظرون إلى روسيا على أنها قوة صليبية ضد المسلمين؛ ومن ثم فإن التنظيم يرى أن روسيا متواطئة في الأنشطة التي تضطهد المسلمين بشكل عام، لكن لعل الدافع الحالي الأكثر إلحاحًا لداعش خراسان لمهاجمة روسيا هو عامل طالبان، حيث تجعل جهود موسكو لإقامة اتصالات مع حركة طالبان الأفغانية- منافس داعش خراسان– روسيا خصمًا رئيسًا للتنظيم.

يرجع تاريخ تورط تنظيم داعش في أبرز الهجمات الإرهابية في روسيا، إلى التفجير الذي وقع عام 2017 في مترو سانت بطرسبورغ، والذي أسفر عن مقتل 15 شخصًا، وإصابة 45 آخرين، فضلًا عن تنفيذ تنظيم الدولة الإسلامية هجمات كبيرة أخرى على المصالح الروسية في الخارج، ففي عام 2015، انفجرت طائرة روسية تقل 224 شخصًا فوق شبه جزيرة سيناء المصرية، ما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها، وأعلن فرع محلي لتنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن الهجوم، في حين أن الهجوم الذي شنه تنظيم داعش خراسان في روسيا يوم الجمعة كان تصعيدًا كبيرًا، ويأتي في سياق معارضة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مدى العامين الماضيين بسبب القمع المزعوم للمسلمين من جانب روسيا، فكثيرًا ما انتقد التنظيم بوتين في دعايته، وهو ما جعل تنظيم داعش خراسان يدشن جناحًا دعائيًّا باللغة الروسية، يركز من خلاله على تحريض المعارضين على تنفيذ هجمات ضد روسيا.

وعلى مدى الأشهر الماضية، كثفت الأجهزة الأمنية الروسية جهودها لتضييق الخناق على النظم المؤيدة لتنظيم داعش في روسيا وحول حدودها، وتحديدًا في آسيا الوسطى والقوقاز، حيث يضم التنظيم أيضًا بين أعضائه عددًا من المسلحين في آسيا الوسطى لديهم مظالمهم الخاصة ضد موسكو، ومنذ نوفمبر(تشرين) الثاني، كانت هناك معلومات استخباراتية محددة تفيد بأن داعش أراد تنفيذ هجمات في روسيا، حيث حذرت المخابرات الأمريكية روسيا من خطط داعش خراسان ووجودها النشط في موسكو، وهو ما أكدته روسيا حين أعلنت في السابع من مارس (آذار) الجاري أن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي أحبط هجومًا مسلحًا شنه تنظيم داعش خراسان على معبد يهودي في منطقة كالوغا بالقرب من موسكو.

رسائل الهجوم

يسعى تنظيم داعش خراسان من خلال هذا الهجوم الشرس على موسكو إلى تحقيق عدة أهداف ترتبط بالمسارات المحتملة لصراعه المتصاعد في المنطقة، يتمثل أبرزها فيما يلي:

1– إشارة مباشرة: يسعى التنظيم من خلال الهجوم الإرهابي على موسكو إلى استعراض القوة من خلال إظهار قدراته التنظيمية، وأسلحته، وقدرته على استهداف الداخل الروسي، وتحديدًا في العاصمة الروسية، ما يحمل رمزية خطيرة للنظام الأمني لبوتين، حيث أظهر الهجوم مرونة التنظيم من خلال قدرته على القيام بعمليات خارجية دامية.

2– دعم التنظيم الأم: يواجه تنظيم داعش ضغوطًا غير مسبوقة في كل من العراق وسوريا نتيجة التراجع الكبير في قدراته، وتكبده خسائر بشرية ومادية فادحة بعد الضربات العسكرية التي شنتها دول وميليشيات محلية ضده؛ لذا فإن أحد أهداف الهجوم الأخير لداعش في موسكو هو إرسال رسالة مفادها أن تراجع نفوذه في سوريا والعراق لا يعني نهاية دوره أو وجوده، بل إن التنظيم يوسّع نطاق نفوذه من خلال التنظيمات التابعة له، وعلى رأسها ولاية داعش خراسان، وقد دعم هذا إعلان تنظيم داعش خراسان مسؤوليته عن التفجير الذي وقع في 3 يناير (كانون الثاني) الماضي، وأدى إلى مقتل 95 شخصًا في كرمان بإيران.

3- توسيع نفوذ التنظيم: يسعى تنظيم داعش خراسان إلى ارتكاب هجمات إرهابية في أماكن أخرى في أوروبا، حيث اعتقلت الشرطة الألمانية كثيرًا من أنصار داعش خراسان في السنوات الأخيرة، إذ ألقي القبض على شخصين يشتبه في أنهما من أنصار تنظيم داعش في ولاية شمال الراين الألمانية، واتُّهما بالتخطيط لمهاجمة البرلمان السويدي، وفي الأسبوع نفسه، ألقت الشرطة في هولندا القبض على شخصين، رجل من طاجيكستان وزوجته، بشبهات مماثلة مرتبطة بالإرهاب، حيث تعهد قادة داعش خراسان بشن هجمات على السويد، وهولندا، والدنمارك بعد حرق القرآن الكريم في تلك البلدان.

4- ترسيخ النفوذ العالمي: يأمل تنظيم داعش خراسان من خلال هذا الهجوم الإرهابي إلى كسب الدعم، وتعزيز هدفه المتمثل في التطور إلى منظمة إرهابية ذات نفوذ عالمي من خلال إظهار قدرتها على شن هجمات داخل الأراضي الروسية، وقد أثبت التنظيم- باستمرار- طموحه للتطور إلى كيان إقليمي كبير، من خلال توجيه عدوانها نحو دول مثل إيران وروسيا، فلا تواجه القوى الإقليمية ذات الثقل فحسب، بل تؤكد أيضًا أهميتها السياسية، ومدى وصولها العملياتي على المسرح العالمي.

5- حملة دعائية: إن أسلوب عمليات داعش يتضمن قبل الهجمات الواسعة النطاق شن حرب دعائية شرسة، وقد لوحظ ذلك في الرسائل الأخيرة المناهضة لروسيا، فهذه الحملات تزيد مصداقية الجماعات المسلحة، مما يزيد نطاق تمويلها، وتجنيدها، ودعايتها، ومن هذا قد يكون هجوم الجمعة أحدث علامة على أن أفغانستان أصبحت قاعدة للهجمات الإرهابية العالمية مرة أخرى، حيث يحتفظ تنظيم داعش خراسان وحلفاؤه بملاذ آمن في أفغانستان، ويواصل تطوير شبكاته داخل البلاد وخارجها.

6- استغلال أوكرانيا: يوظف التنظيم الحرب الروسية في أوكرانيا لصالح زيادة الزخم بشأن شراسة الهجوم، فعقب الهجوم مباشرة تصاعدت الاتهامات الروسية لكييف بمسؤوليتها عن الحادث الإرهابي، فيما أصر المسؤولون الأوكرانيون على نفي تلك التهمة، مؤكدين أن أوكرانيا ليس لها علاقة بالتفجير في قاعة مدينة كروكوس، وهو ما تمخض عنه حرب تصريحات ثلاثية بين بوتين وبايدن وزيلينسكي.

وفي المقابل، من خلال ربط أوكرانيا بالهجوم، تستطيع روسيا تأجيج الغضب الداخلي ضد جارتها، وصرف الانتباه عن الثغرات في نظامها الأمني ​​التي اتسعت منذ الحرب في أوكرانيا، فمنذ الحرب الشاملة على أوكرانيا قبل عامين، حوّل جهاز الأمن الفيدرالي الروسي تركيزه من التهديد الإرهابي الإسلامي إلى أوكرانيا.

خاتمة

لقد نمت قوة تنظيم ولاية خراسان في أفغانستان نموًّا ملحوظًا، ولا يقتصر الأمر على تنظيم ولاية خراسان فحسب؛ بل إن تنظيم داعش في مناطق عملياته الأصلية، سوريا والعراق، يشهد أيضًا زيادة في القدرات التشغيلية؛ لذا يشكل الهجوم الأخير في موسكو عودة قوية لتنظيم داعش خراسان تكتيكيًّا وإستراتيجيًّا، ما يعزز احتمال حدوث مزيد من الهجمات في روسيا وأماكن أخرى في القارة الآسيوية؛ نظرًا إلى الدور الرئيس الذي اضطلع به مجندو داعش خراسان المنحدرون من جمهوريات آسيا الوسطى- وخاصة الطاجيك- الذين عادوا الآن إلى منطقة آسيا الوسطى، وتجسدت نيتهم ​​في تنفيذ هجمات مدروسة، كان آخرها الهجوم الدامي على كرمان بإيران في يناير (كانون الثاني) المنصرم، ما يجعل التساؤل الأبرز في هذا الصدد هو عن كيفية مكافحة هذا التنامي في الوقت الذي أدت فيه المنافسة بين القوى الكبرى والاضطراب الجيوسياسي العالمي إلى وضع مكافحة الإرهاب في ذيل الاهتمامات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع