أدب

رواية “الأنفس الميتة”.. عالم بلا أحياء الضمير


  • 12 أكتوبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: gazeta.sfu-kras.ru

تعد رواية “الأنفس الميتة” لنيكولاي غوغول من أبرز الأعمال الأدبية في الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد صدرت أول مرة عام 1842، وسرعان ما أصبحت من الأعمال المحورية التي تعكس الروح الروسية في القرن التاسع عشر. بأسلوبه الساخر والمبدع، يصحبنا غوغول في رحلة عبر روسيا القيصرية، حيث يكشف عن أوجه الفساد والانحطاط في المجتمع من خلال حكاية بطلها بافيل تشيتشكوف، الذي يسعى -في رحلة غامضة- إلى شراء “أنفس ميتة” من ملاك الأراضي، وتمثل الرواية نقدًا لاذعًا للبيروقراطية، وفساد الأنفس الحية.

لكن في البداية، وقبل الحديث عن الرواية، ما الأنفس الميتة؟

تشير “الأنفس الميتة” التي استخدمها غوغول إلى كلمة منتشرة أيام روسيا القيصرية، وهي تطلق على العبيد، أو الأقنان المتوفين.

كان على الملاك الروس الذين يمتلكون أراضي، وضياعًا، وأقنانًا، أن يدفعوا ضرائب على تلك الممتلكات للحكومة الروسية، لكن بسبب بطء النظام الحكومي والبيروقراطية، لم يكن الأقنان الذين يموتون يسجلون إلا في تعداد رسمي، قد يمر عليه وقت طويل، حتى يأتي ميعاد التعداد، ويلتزم الملاك بدفع الضرائب على الأنفس التي ماتت، ولكنها ما زالت مسجلة في التعداد الفائت.

كانت هذه تمثل مشكلة كبيرة للملاك؛ لأن في هذا الوقت من القرن التاسع عشر كان الأقنان يموتون بالجملة، سواء بسبب الأمراض والأوبئة التي تحصد عشرات الأرواح في المرة، أو بسبب سوء التغذية والمجاعات.

ملخص الرواية

في الفصل الأول، تصل عربة بسيطة مع ركابها إلى مدينة “ن”. من شكل العربة والخادم والأمتعة نفهم أن السيد الواصل إلى الفندق ذو ظروف معيشية متواضعة.

على الفور، يذهب المسافر تشيتشكوف إلى الحانة لمعرفة من يشغل المناصب القيادية في هذه المنطقة. في الوقت نفسه، يحاول عدم التحدث عن نفسه. يذهب تشيتشكوف إلى كل الحفلات والأحداث الاجتماعية في المدينة، ويترك انطباعًا بأنه رجل طيب ولبق لدى المسؤولين.

سرعان ما يتعرف تشيتشكوف إلى الملاك مانيلوف وسوباكيفيتش، حيث سحرهما بأخلاقه وأدبه، وقدرته على إجراء محادثة بشأن أي موضوع، ثم بدأ تشيتشكوف يزور جميع المسؤولين في هذه المدينة للتعبير عن احترامه.

ذهب تشيتشكوف إلى القرية التي يعيش فيها مانيلوف.  ترك مانيلوف انطباعًا لطيفًا في مظهره، لكنه كان رجلًا فارغًا بلا أفكار، وهذا ينطبق على بيته ذي الأثاث الفخم لكن دون ذوق واضح، وعلى أملاكه التي لا يتابعها أو يعلم عنها أي شيء، وهذا ينطبق أيضًا على علاقته بزوجته وكأنهما يلعبان دور الزوجين المثاليين، لكن بلا روح حقيقية.

قرر تشيتشكوف تخصيص فترة ما بعد الظهر المطولة لمحادثة حساسة بشأن الفلاحين الذين أُدرجوا، وفقًا للوثائق، على أنهم أحياء، مع أنهم في الواقع غادروا هذا العالم بالفعل. من أجل إنقاذ المالك من الضرائب غير الضرورية، عرض تشيتشكوف نقل أرواح الموتى إلى اسمه. أربك الاقتراح مانيلوف، لكن الضيف تمكن من إقناعه. ووافق مانيلوف على التخلي عن “النفوس الميتة” بلا مقابل.

توجه تشيتشكوف إلى المالك الثاني سوباكيفيتش بروح عالية، لكن السائق تاه في الطريق. سارت العربة في طرق وعرة فترة طويلة حتى اصطدمت بسياج وانقلبت. كان على تشيتشكوف أن يطلب المبيت من امرأة مسنة لم تسمح له بالدخول إلى المنزل إلا بعد أن ذكر أصوله النبيلة.

صاحبة المنزل امرأة مسنة تدعى كوروبوتشكا. من كلماتها فهم تشيتشكوف أنهم في منطقة نائية ذات كثافة سكانية منخفضة، وبعيدة عن المدينة. لم يفوت تشيتشكوف الفرصة لسؤال كوروبوتشكا عن “الأرواح الميتة”، لكن كان عليه إقناع المضيفة لفترة طويلة، التي كانت تساوم كثيرًا، ولم تفهم المصلحة التي ستعود عليها، ومع ذلك باعته كوروبوتشكا 20 نفسًا ميتة بعد كثير من الإقناع.

في الحانة ألتقي بالمالك نوزدريوف، الذي تناول العشاء معه سابقًا في مكتب المدعي العام. كان نوزدريوف مبتهجًا ومخمورًا، رغم خسارته في القمار. دعا تشيتشكوف إلى منزله، وخلال الطريق سعى المالك إلى التباهي بأملاكه؛ الضيعة، والأحصنة الأصيلة، والكلاب الباهظة الثمن، وأشار أيضًا إلى الممتلكات الكثيرة التي فقدها في لعب الورق، وعلى العشاء كان نوزدريوف كريمًا، يصب النبيذ للضيوف.

دون الكشف عن نيته الحقيقية، طلب تشيتشكوف من نوزدريوف نقل النفوس إليه. ومع ذلك، أظهر نوزدريف اهتمامًا كبيرًا لسبب حاجة ضيفه إلى هذه النفوس الميتة. اضطر تشيتشكوف إلى تقديم أعذار مختلفة: يحتاج إلى أرواح ميتة لتحسين وضعه في المجتمع، أو لزواج ناجح. ومع ذلك، شعر نوزدريوف بزيف كلمات تشيتشكوف وهاجمه. اشترط نوزدريوف بيع النفوس الميتة في حالة شراء تشيتشكوف كلبًا أو حصانًا.

عندما رفض تشتيشكوف، فقد المالك صوابه، وكان على وشك ضرب تشيتشكوف. على نحو غير متوقع، ظهر ضابط شرطة إلى نوزدريف، وقال إن نوزدريوف يُحاكم بتهمة ضرب مالك أرض. استغل تشيتشكوف الموقف، وغادر بسرعة.

كان تشيتشكوف سعيدًا؛ لأنه ترك نوزدريف، مع أنه لم يحصل منه على الأنفس.

على الطريق رأى قرية سوباكيفيتش الضحمة من بعيد، حدائق لا نهاية لها، وإسطبلات مثيرة للإعجاب، وحظائر كبيرة، ومنازل صلبة. يبدو أن كل شيء هنا قد بُني ليدوم طويلًا، سوباكيفيتش نفسه ذكر تشيتشكوف بدب عظيم. كان كل شيء في منزل سوباكيفيتش ضخمًا وأخرق مثل مالكه. كان خطاب سوباكيفيتش عن الآخرين فظًا وغير محترم، لم يكن يحب أحدًا من سكان المدينة.

تلقى سوباكيفيتش بهدوء غير متوقع اقتراح شراء النفوس الميتة، لكن بدا سلوك مالك الأرض غريبًا، فقد رفع السعر، وأشاد بالفلاحين المتوفين بالفعل باعتبارهم أفضل العمال. كان تشيتشكوف غير راضٍ عن الصفقة. بدا غريبًا لتشيتشكوف أنه لم يكن هو من كان يحاول خداع مالك الأرض، بل على العكس من ذلك، كان سوباكيفيتش يخدعه بذكاء؛ لأنه استنتج احتياجه إلى تلك النفوس الميتة، ولم يسأله حتى عن السبب.

الوجهة التالية هي ملكية بلوشكين، يصل تشيتشكوف إلى هناك، ويلاحظ فورًا الإهمال الكبير في الأراضي والبيوت المتداعية. حتى منزل بلوشكين تعمه الفوضى، والغبار، والقمامة.

سرعان ما دخل الغرفة رجل منحنٍ، وغير حليق، يرتدي رداءً مهترئًا، إذا التقى به تشيتشيكوف في الشارع، فربما أعطاه صدقة. اتضح أن هذا الشخص بليوشكين، الذي كان ذات يوم مالك أرض مقتصدًا وثريًا، لكن عائلته تشتت بسبب بخله وجشعه. بدأ مالك الأرض نفسه محادثة بشأن الفلاحين القتلى، وعندما عرض تشيتشكوف شراءهم أصبح المالك سعيدًا بالتخلص من “النفوس الميتة”.

بعد أن جمع بالفعل أربعمئة روح “ميتة”، سعى تشيتشكوف إلى مغادرة المدينة في أقرب وقت ممكن، لكن مغادرة المدينة لم تكن بهذه السهولة. في المحكمة، حيث ذهب تشيتشيكوف للتصديق على الوثائق، تلقى استقبالًا باردًا وتلميحًا لا لبس فيه عن الحاجة إلى “رشوة”. استعان تشيتشكوف بقائد الشرطة وبمعارفه لنقل الملكية سريعًا، واحتفلوا ليلًا على طاولة العشاء.

أصبحت المدينة بكاملها تناقش مقتنيات تشيتشيكوف، لماذا يحتاج إلى الفلاحين؟ هل باع ملاك الأراضي حقًا كثيرًا من الفلاحين المحترمين للوافد الجديد؟ هل سيتمكن الفلاحون من اعتياد المكان الجديد؟

كلما زادت الشائعات بشأن ثروة تشيتشكوف، أصبح أكثر جاذبية في نظر السكان المحليين. اعتبرت سيدات مدينة تشيتشكوف شخصًا جذابًا جدًّا.

كانت المدينة بكاملها مثل خلية نحل مضطربة، ولم تكن قصة النفوس الميتة تريح أحدًا. السيدات بشغفهن المتأصل بالتفاصيل، استمتعن بقصة الحب بين تشيتشكوف وابنه حاكم المدينة، وفضل الرجال مناقشة الجانب المالي للمسألة؛ لذا أغلقت الأبواب في وجه تشيتشكوف، وتوقفت دعوات العشاء.

في الفصل الأخير نسمع قصة حياة تشيتشكوف منه نفسه، طفولته، ثم تنقله بين المكاتب الحكومية حتى بات يفهم كل أنواع الخداع، ويرى كل الرِّشا، فهم البطل حقيقة النظام، في أحد الأيام تلقى بعض المعلومات المثيرة للاهتمام، اتضح أن الأموال تُدفع إلى الفلاحين المتوفين إذا أُدرجوا على قيد الحياة في الوثائق. أشعلت هذه الأخبار شرارة المغامرة لدى تشيتشيكوف الماكر، فقرر شراء أرواح الفلاحين القتلى من أجل القيام بعملية احتيال مع المجلس.

أبرز الموضوعات التي تناولها العمل

* فساد نظام الحكم والبيروقراطية

تجسد رواية “الأنفس الميتة” نقدًا قويًّا للبيروقراطية الروسية التي كانت تعج بالفساد والمحسوبية. يصور غوغول البيروقراطية كمؤسسة مترهلة، ملأى بالموظفين غير الأكفاء الذين يهتمون بمصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة. هؤلاء الموظفون غالبًا ما يقبلون الرشا، ويتغاضون عن الفساد.

من خلال تصويره للثغرات القانونية التي يستغلها تشيتشكوف، يعرض غوغول النظام القانوني على أنه أداة يمكن التلاعب بها بسهولة لتحقيق المكاسب الشخصية. البيروقراطية والقانون، بدلًا من أن يكونا أدوات للعدالة والتنظيم، يتحولان إلى وسائل لتعزيز الفساد، وتعميق الأزمة الأخلاقية في المجتمع. الرواية تكشف كيف أن النظام الذي يُفترض أن يحمي المواطنين ويسعى إلى تحقيق العدالة، أصبح في الحقيقة جزءًا من مشكلة أكبر تسهم في تفكك المجتمع.

لا يقتصر الفساد في الرواية على المستوى البيروقراطي فقط، بل يتغلغل في نسيج المجتمع بأسره. يصور غوغول مجتمعًا فقد فيه الأفراد الإحساس بالقيم الأخلاقية الحقيقية. الشخصيات في الرواية، من ملاك الأراضي إلى المسؤولين، يعيشون حياة سطحية متمحورة حول المال والمكانة الاجتماعية. كل واحد منهم يبحث عن مصالحه الخاصة، حتى لو كان ذلك يعني استغلال الآخرين، أو التغاضي عن الظلم.

*تدهور الروح الإنسانية

يتجاوز غوغول النقد الاجتماعي ليصل إلى نقد الروح الإنسانية نفسها. “الأنفس الميتة” ليست فقط تلك الأنفس التي ماتت جسديًّا، بل تشير أيضًا إلى الأرواح التي فقدت حيويتها ومعناها. من خلال شخصيات الرواية المختلفة، يعرض غوغول صورًا لأشخاص يعيشون حياة بلا روح، مجردين من القيم الروحية والإنسانية. هذه الشخصيات تمثل طبقات مختلفة من المجتمع، وكأنها تمثل “أنفسًا ميتة” حية. وقد أعطى الكاتب كثيرًا من الأمثلة الواضحة في الملاك، فلا واحد من الملاك يعيش حياة روحية حقيقية حتى نستطيع أن نصفه بالحي، أو ذي الفائدة، فأحدهم مقامر يضيع كل أمواله ويتفاخر بهذا، وآخر تأكل الكراهية قلبه فلا يذكر الناس إلا بالسوء، وبعضهم لا يمكن وصفه بالسيئ؛ بل هو أقرب إلى الفارغ، بلا أي أفكار، وكلهم بلا فائدة، تمامًا مثل الأنفس الميتة التي يشتريها البطل، موجودة على الورق، ولكن ليست في الحياة الحقيقية.

*التناقضات الاجتماعية

أحد أبرز التناقضات الاجتماعية التي تتناولها الرواية هو الفجوة الشاسعة بين الأغنياء والفقراء. يصور غوغول روسيا على أنها أمة تعيش في ظل تفاوت طبقي كبير، حيث تسيطر قلة من الأثرياء على معظم الثروات والموارد، في حين يعيش غالبية الشعب في فقر مدقع. من خلال شخصية تشيتشكوف يبرز غوغول كيف أن هؤلاء الملاك يستغلون الفلاحين والطبقات الدنيا لتحقيق مصالحهم الشخصية، دون أي اعتبار لمعاناتهم أو حقوقهم. هذا التصوير يعكس واقعًا اجتماعيًّا قاتمًا، حيث يزدهر القلة على حساب الأغلبية.

يعكس العمل أيضًا التناقض بين الحياة في المدن والريف الروسي. يصور غوغول الريف بوصفه مكانًا تقليديًّا محافظًا، مملوءًا بالعادات القديمة، والبنية الاجتماعية الراكدة، في حين تمثل المدن المراكز التي تتجمع فيها القوى السياسية والاقتصادية. من خلال تصوير الريف على أنه بيئة تهيمن عليها الشخصيات المألوفة والروتين اليومي، يعكس غوغول كيف أن هذه الأماكن، رغم بساطتها الظاهرية، تخفي تحتها تعقيدات وتناقضات داخلية. أما المدن، فتظهر بوصفها أماكن للنفاق والتظاهر، حيث يعيش الناس حياة ملأى بالتصنع، والبحث عن السلطة؛ مما يزيد تعقيد العلاقات الاجتماعية.

* القيم الاجتماعية: المظهر مقابل الجوهر

مشكلة أخرى مهمة في الرواية؛ هي التناقض بين المظهر والجوهر. في المجتمع الروسي الذي تصوره الرواية، هناك فجوة كبيرة بين القيم المعلنة والسلوك الفعلي للأفراد. الشخصيات، وخاصة النخبة الاجتماعية، تظهر بمظهر الاحترام والوقار، لكنها في الواقع تنغمس في الجشع والفساد. هذا التناقض يظهر -بوضوح- في سلوك ملاك الأراضي والمسؤولين الذين يتظاهرون بالاستقامة والاحترام وهم في الحقيقة يسعون وراء المال والسلطة بكل الوسائل المتاحة. يستخدم غوغول هذا التناقض لفضح النفاق الذي كان منتشرًا في المجتمع، حيث تحولت القيم الأخلاقية إلى مجرد شعارات فارغة.

*وموضوعات أخرى كثيرة

القمار

يظهر القمار في الرواية بوصفه أحد مظاهر الفساد الشخصي والاجتماعي. من خلال تصوير غوغول لبعض الشخصيات التي تنغمس في القمار، يعكس تأثير هذا الإدمان في الأفراد، وفي علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية. القمار هنا ليس مجرد لعبة؛ بل هو رمز للمخاطرة، والتهور، والانغماس في سلوكيات غير مسؤولة. هذه الممارسات تعكس أحد أوجه الهروب من الواقع المرير، والبحث عن حلول سريعة لتحقيق الثراء، ولكنها في النهاية تؤدي إلى الانهيار الشخصي والمادي.

الحياة الريفية للسيدات

يقدم غوغول لمحات عن حياة النساء في الريف الروسي، موضحًا كيف أن حياتهن كانت محدودة بالعادات والتقاليد القديمة. النساء في الريف يظهرن غالبًا شخصيات جانبية، يعشن حياة رتيبة مكرسة للأعمال المنزلية، وتربية الأطفال، مع قليل من الحرية أو الفرص لتطوير أنفسهن. الرواية تلمح إلى الملل والتقييد اللذين تعيشهما النساء الريفيات، كما تبرز افتقارهن إلى دور فعال في المجتمع خارج نطاق الأسرة. هذه الحياة التقليدية تعكس التناقضات الاجتماعية بين المدن والريف، حيث تبدو المدن أكثر انفتاحًا، في حين يعاني الريف الركود الاجتماعي، حتى إن غوغول يسخر من التعليم البسيط الذي تتلقاه النساء، ليس هجومًا على التعليم نفسه؛ بل لاقتصاره على التدبير المنزلي، ولغة أجنبية غير مستخدمة في الحياة اليومية، وهو ما لا يفيد البيت في شيء.

الجشع والكسل

إلى جانب القضايا الأساسية، يستعرض غوغول مظاهر أخرى للفساد الأخلاقي، مثل الجشع، والكسل. كثير من الشخصيات في “الأنفس الميتة” تعيش حياة مترفة على حساب الآخرين، مشغولة فقط بجمع المال دون عمل جاد، أو إنتاج حقيقي. ينتقد غوغول هذا السلوك بشدة، حيث يُظهر كيف أن الجشع والكسل يؤديان إلى الانحطاط الأخلاقي، والجنون أحيانًا.

لماذا بلدة “ن”؟

عندما نتحدث عن رواية “الأنفس الميتة” لنيكولاي غوغول، سرعان ما يخطر ببالنا اختيار الكاتب مدينة تسمى “ن” إطارًا مكانيًّا للأحداث. لكن لماذا اختار غوغول هذه المدينة الغامضة؟ وما الذي أراد أن يعبر عنه باستخدام هذا المكان الذي لم يسمه صراحة؟ هنا تتجلى عبقرية غوغول الأدبية في استخدام المكان كرمز غني بالدلالات.

في اختيار غوغول مدينة “ن”، هناك بُعد رمزي يتجاوز حدود الجغرافيا المادية. مدينة “ن” ليست مجرد مدينة صغيرة في الريف الروسي؛ بل هي تمثيل شامل لروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر. بإخفاء الاسم الحقيقي للمدينة، يعمد غوغول إلى خلق نوع من الغموض الذي يسمح للقراء بتخيل أي مدينة روسية تقع ضمن هذا الإطار؛ مما يجعل “ن” رمزًا لكل مدن روسي، وهذا يظهر بوضوح في الفصول الأولى التي تكون المدينة فيها ملأى بالأحداث الاجتماعية والحفلات التي غالبًا ما توجد في المدن الكبيرة، لكن على مدار الفصول التالية نرى أن المدينة تحمل أيضًا الطابع الريفي والضيعات الكبيرة، ويرسم حياة ملاك الريف بين قراهم وأملاكهم، بل نرى أيضًا في أحد الفصول وصف مكان بعيد، وحياة متواضعة، ومن المفترض أنها تنتمي أيضًا إلى المدينة.

باختيار مدينة “ن” يتجنب غوغول القيود التي قد تفرضها الأماكن المحددة، ويترك الباب مفتوحًا لنقد المجتمع الروسي بشكل عام. المدينة، بلا اسم محدد، تعكس مجتمعًا غير محدد المعالم، متشابهًا في كل مكان. إنها مكان يمكن أن يوجد في أي جزء من روسيا، حيث يعكس فساد المسؤولين، وركود الحياة الروحية. هذا الغموض المكاني يسهم في إبراز عالمية المشكلات التي يناقشها غوغول في روايته. كما أتاحت للكاتب عرض مختلف أنواع الشخصيات للملاك، مثل الجشع، والماكر، والمقامر، والمتفاخر، والساذج.

وربما جاء اختيار غوغول لمدينة “ن” كوسيلة ذكية لتجنب الانتقادات المباشرة. عدم تحديد اسم المدينة، أو موقعها الجغرافي بالضبط، كان إستراتيجية لحماية الرواية من أن تُصنف على أنها نقد مباشر لمكان معين؛ مما قد يعرضها للحظر، أو يعرض الكاتب نفسه للعواقب. ومع ذلك، لم يمنع هذا الغموض القارئ من فهم النقد اللاذع الموجه إلى المجتمع الروسي بأسره.

في الختام

هذه الرواية ليست فقط نقدًا لفساد المجتمع الروسي في ذلك الزمن، بل هي أيضًا رحلة في عالم القيم والأخلاق التي تتوارى خلف الأقنعة. غوغول يدعونا من خلال هذه الرواية إلى التفكير فيما يجعل الإنسان إنسانًا، وما إذا كانت “الأنفس الميتة” تعيش بيننا حتى اليوم.

وفي النهاية، تبقى “الأنفس الميتة” علامة فارقة في الأدب الروسي، حيث تترك القارئ مع تساؤلات عميقة عن الحياة والموت، الخير والشر، والمعاني الحقيقية للسعادة والنجاح. هي قصة تجمع بين السخرية والجدية، لتبقى في أذهاننا تحذيرًا من خطورة فقدان الروح الإنسانية في سعينا المحموم وراء المكاسب المادية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع