تعد رواية “الجريمة والعقاب”، للأديب الروسي العظيم فيودر دوستويفسكي، رواية نفسية اجتماعية فلسفية، عمل عليها مؤلفها فيما بين عامي 1865 و1866، ونُشرت لأول مرة عام 1866 في مجلة ” النشرة الروسية ” (الأعداد رقم 1، 2، 4، 6-8، 11، 12).
وبعد مرور عام من نشرها فصولًا، غيّر الكاتب هيكلها مقارنة بطبعة المجلة. بالإضافة إلى ذلك، أجرى المؤلف عددًا من الاختصارات والتغييرات الأسلوبية.
مرت مراحل التأليف بتغييرات ملموسة، فبعد أن بدأ الكتابة، دمج المؤلف مسودات رواية غير مكتملة، ثم توسعت الخطة، وارتكزت الحبكة على الطالب روديون راسكالنكوف، الذي قتل سيدة عجوزًا؛ طمعًا في مالها لإنقاذ أحبائه. وفي الوقت نفسه استخدم المؤلف الجريمة، لا لتكون الحبكة الرئيسة فحسب؛ بل أصبحت أيضًا سببًا للتفكير في الظروف الاجتماعية التي تدفع الشخص إلى ارتكاب الجرائم، فضلًا عن فرصة لإظهار العمليات المعقدة التي تحدث في الجسم تبعًا للحالة النفسية.
تحكي الرواية عن روديون راسكالنكوف، الطالب الذي يعيش في غرفة قديمة في مبني متهدم في سانت بطرسبورغ، الطالب مريض، ويرتدي ملابس رثة، ويتحدث إلى نفسه طوال الوقت، لكننا لا نعرف ما سبب تلك الأزمة.
يذهب روديون إلى العجوز أليونا إيفنوفنا لرهن ساعته، وهنا يبدأ التفكير في الخلاص من إذلالها. يتصادف تفكير رسكالنكوف مع مقابلة سيمون مارميلادوف الذي يدخل في حالة سكر لخمسة أيام متتالية بعد مرض زوجته، وعمل ابنته سونيا عاهرة من أجل العائلة.
قصة عائلة مارميلادوف وأوضاعهم المزرية هي بداية الفكرة، فكرة قتل العجوز الشريرة لن يضر المجتمع، بل بالعكس سيرحم الكثيرين من رهنها وإذلالها. وبالفعل يسمع رسكالنكوف أحد الطلبة يقول: “سيكون المجتمع أفضل حالا إذا ماتت سمسارة الرهن أليونا إيفانوفنا”.
في الوقت نفسه نرى أن الظروف تتكالب فوق رأس رسكالنكوف، فقد فصل من الجامعة بسبب عدم سداده مصاريفها، وأرسلته والدته تبلغه بخطبة أخته دونيا إلى مسؤول حكومي كبير في السن فقط من أجل تغطية النفقات، لوهلة تصبح فكرة القتل هي الفاصلة بينه وبين عيش حياة جيدة وإنقاذ أخته والعودة إلى الجامعة.
يشرع راسكالنكوف في تنفيذ خطته، يتوجه إلى شقة العجوز ويقتلها، وبينما يبحث عن المال تدخل الأخت إليزفيتا الطيبة، ويضطر إلى قتلها أيضًا لكيلا تصبح شاهدة ضده، وبهذا تصبح المحصلة جريمتين لا واحدة.
تنهار مقاومة راسكالنكوف ويمرض، بل يفقد الوعي في أحد استجوابات الشرطة عن الجريمة، ما يجعله مشتبهًا فيه، يهلع راسكالنكوف ويخبئ كل مقتنيات سمسارة الرهن.
يظهر في الرواية واحد من أهم شخوصها، وهو المحقق بورفيري بتروفيتش، الذي يجري حديثًا مطولًا مع روديون عن القتل والدوافع طبقًا لمقال كتبه. أسلوب بورفيري يقنع راسكالنكوف بكونه مشتبهًا فيه؛ ما يزيد بؤسه وهلعه.
تستمر الرواية في مشاهد كثيرة تثبت لراسكالنكوف ضيق حياته مع الذنب، فلا يقدر على التعايش أبدًا مع قلقه المستمر من اكتشاف جريمته، وتتزايد أحلامه وكوابيسه، وهذا ما يفضي على حالة نفسية سيئة تتسبب في سوء علاقته بأمه وأخته، ثم طرده من اجتماعاتهما، وأيضًا جنازة مارميلادوف المسكين الذي لم يأتِ من أجل تكريمه إلا بعض السكارى. تتابع مأسي عائلة مارميلادوف، فتجن زوجته، ويحاول المسؤول الكبير إذلال الابنة سونيا. تؤثر شخصية سونيا في راسكالينكوف، وإيمانها العميق، وتضحيتها بجسدها، والعمل عاهرة من أجل عائلتها، وكل هذا دون سخط أو غضب من المصير، بل مع تمسكها بالأخلاق الدينية، وفكرة العقاب.
بسبب حوارات راسكالينكوف الطويلة مع سونيا تنهار مقاومة الشاب تدريجيًّا، ليعترف بجريمته أولًا إليها، ثم إلى الشرطة، لتنتهي الرواية بالحكم عليه بعدة سنوات في سيبيريا، وتلحق به سونيا.
مع أن أحداث الرواية ليست كثيرة، وتدور داخل شوارع قليلة في محيط سانت بطرسبورغ، مع شخصيات قليلة يعرفها البطل، فإن دوستويفسكي أخرجها رواية ضخمة في مجلدين كاملين. يمتلئ المجلدان بأفكار كثيرة بدءًا من معاناة الطلبة المثقفين الفقراء، وفقد الإيمان الذي نراه جليًا في شخصية راسكالينكوف، إلى جانب رسم معاناة الفقراء والمهمشين وحياتهم الصعبة، وأهم من ذلك كثير من المنولوجات الداخلية للأبطال، وأفكارهم، وعذاباتهم.
نرى تقلبات البطل روديون راسكالينكوف الذي تتغير شخصيته من الغطرسة والمبالغة في قيمة نفسه بالنسبة لأرواح الآخرين، كما صور دوستويفسكي في بداية الرواية أن حياة راسكالنكوف- في رأيه- هي أكثر قيمة من حياة سمسارة الرهن العجوز، فقط لأنها تمتلك مالًا لا يملكه راسكالنكوف، ولأنها لا تستخدمه، في حين أنه هو الطالب المتعلم المثقف، لا يجد قوت يومه.
هنا نكتشف العملية النفسية للجريمة. يطرح الكاتب أسئلة غير قابلة للحل أمام القاتل، يعذبه عقله ومشاعره تجاه حق الله، والقانون، والعدالة لكل من حوله، بداية من المقتولتين، مرورًا بالأزمات التي ألحقها بعائلته. يجبره تأنيب الضمير على إرسال نفسه للموت في الأشغال الشاقة، ولكن هذا يعني الانضمام إلى الشعب مرة أخرى. كان الشعور بالعزلة والانفصال عن الناس الذي شعر به فور ارتكاب الجريمة يعذبه. لقد كان لقانون الطبيعة البشرية أثره، فقتل معتقدات البطل دون مقاومة. وقرر المجرم بنفسه قبول العذاب للتكفير عن فعلته.
ورغم كون الرواية تتحدث عن جريمة في الأصل، فهي لم تكن الموضوع الأساسي كما توقع كل من قرأ أن حبكة الرواية عن جريمة قتل، بل الأساس تناول موضوع الإنسان وأفعاله التي ارتكبها، وما قد يدفع إنسانًا إلى القتل أو ارتكاب جريمة، وهل الظروف الاجتماعية وحدها هي المحفز أم أن الأفكار والمعتقدات مؤثرة أيضًا؟ بسبب هذه الأفكار الكثيرة، أثارت الرواية جدلًا في المجتمع الثقافي الروسي عند نشرها، واندلعت النقاشات بين مؤيد ومعارض لأفكارها.
مما صورته الرواية أيضًا سانت بطرسبورغ؛ تلك المدينة الكبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث الحياة ملأى بالصراعات والدراما. يعيد العمل رسم علامات مميزة في ذلك الوقت، ويعيد إنتاج أشهر الأماكن في سانت بطرسبورغ.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.