التاريخ والثقافةمقالات المركز

التوجهات الأدبية في اللعبة الإستراتيجية “مصر وروسيا نموذجًا”


  • 21 يناير 2024

شارك الموضوع

شغلني ما شغل الناس، وخاصة أهل مصر، ما يثار الآن من مسألة “الفرعونية” والدعوة إليها، وهي دعوة قديمة تعود إلى النصف الأول من القرن الماضي، وقد شهدت الصحف حينها معارك أدبية، ومساجلات فكرية بين المعارضين لهذه الدعوة والداعين إليها، فسالت الأقلام، وبلغت القلوب الحناجر، لتغوص هذه الدعوة في لجج النسيان، وإن ظهرت في أشكال أخرى، سنعرض لبيانها في مقالنا هذا، قبل أن تعود الآن.

والفرعونية لا تزيد على كونها وجهًا من وجوه الأسلحة الهدامة التي استخدمت لتقسيم العالم العربي، وزيادة الفرقة بين أطرافه، ولا يستغرب ظهورها الآن، مع وجود صراع توسعي من القوى العظمى على العالم العربي، بين روسيا والصين من جهة، والغرب من جهة أخرى، وعودة الصراع العربي الإسرائيلي. وهذا الضرب من التوسعات الإستراتيجية، إنما هو اختصاص غربي؛ وذلك أن كل من حمل هم الدعوة إلى الفرعونية، أو العامية، أو الإقليمية، في بداياتها، هم طلاب البعثات التعليمية التي أرسلت إلى فرنسا وبريطانيا، وقد وقع أغلبهم تحت تأثير أساتذتهم الذين أشرفوا على أطروحات تخرجهم.

الفرعونية.. هذا تاريخها

إن القول بفصل الدين عن السياسة، إنما هو نوع من القول الخاطئ، وضرب من الرأي الفاسد؛ وذلك لأن السياسة تبدأ من الفكر وتنتهي إلى الفكر، وكل فكر له منطلقات عقلية ومسلمات ذهنية يبدأ منها، وحدود ينتهي إليها، تنبني هذه الحدود وتقوم تلك المنطلقات على عقيدة دينية، وعقيدة أدبية، ولهذا فإنه لا يمكن- بحال من الأحوال- فصل العقيدة الدينية، والعقيدة الأدبية، والعقيدة السياسية  لشخص ما، أو مجموعة ما، وزيادة في التوضيح، واسترسالًا في البيان، أقول: إن كل فكر يعبر عنه بالكتابة والكلام، والكتابة والكلام إنما يعبران عن نفس صاحبهما، فلا تخلو كتابة أو كلام من شيء أو أشياء من نفس صاحبهما، بما في هذه النفس من توجهات أدبية، ودينية، وميول غريزية.

وعلى هذا الذي حدثتك به، من استحالة فصل العقائد الدينية والأدبية والسياسية بعضها عن بعض، وأنها حلقات مترابطة شديدة الاستحكام، على كل هذا كانت الأهداف الغربية وما تصبو إلى تحقيقه في الدول العربية، يروج لها أدبيًّا في نظريات أدبية، لتحقق بعد حين أهدافًا سياسية وإستراتيجية.

في مرحلة مرض الخلافة العثمانية وتنازع روحها، ظهرت دعوة إلى قيام “الجامعة العربية”، وذلك في مقابل “الخلافة الإسلامية”، وهي دعوة سياسية روج لها وقعدت أفكارها أدبيًّا، حتى تلقى القبول عند الناس، وتجد مكانًا لها في نفوس العامة، وهذا نوع من صناعة الرأي العام، وقد حمل هم هذه الدعوة وما سيلحقها من تطور، عبر مرور السنوات وتوالي الأيام، طلبة البعثات العلمية الذين وقعوا تحت تأثير أساتذتهم، من مستشرقين، في فرنسا وإنجلترا.

 وبعدها، وبدعم من الإنجليز، ظهرت الدعوة إلى “الجامعة المصرية”، فتأمل وكن على ذكر؛ لأنه بعد حين ستبدأ الدعوات إلى تقسيم كل قطر أيضًا.

ظهرت نظرية  “الجامعة المصرية”، بدعم من الإنجليز، وذلك بقصد هدم الروابط القائمة بين مصر والدول العربية، وهكذا يسهل هدم “الجامعة العربية” ، واتخذت هذه النظرية من الدعوة إلى العامية، والإعراض عن العربية منطلقًا لها، فحمل هم الدعوة إليها أحمد لطفي السيد، رئيس صحيفة “الجريدة”، التابعة لحزب الأمة المنحاز آنذاك إلى الاستعمار الإنجليزي، وذلك في مقالات كتبها سنة 1912، دعا فيها إلى التقريب بين العربية والعامية، وإدخال هاته في تلك، وهذا مما يساعد على تفكك الأواصر والروابط التي تجمع بين ساكني هذه البقعة الأرضية الممتدة من المحيط إلى ما بعد الخليج، وقد كتب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ساعتها في مجلة “البيان” فصلًا يرد فيه دعاوى لطفي السيد. وأنت تعرف أنه لو مددنا هذه الدعوة على استقامتها، فإن ذلك يستلزم أن يقوم كل قطر عربي بلهجته وعاميته.

  ثم عاد أحمد ضيف من البعثة الدراسية، فتأمل، وقد كان من الأوائل الذين أُرسِلوا، وقد ظهرت دعوته هاته في كتابه “مقدمة لدراسة بلاغة الأدب”، الذي طبع سنة 1921، والذي أنشأه في الأصل للترويج لنظرية هدامة أخرى، وهي النظرية الإقليمية، وهي الأساس الذي سيقوم عليه تقسيم العراق والسودان إلى أقاليم، حيث قال في مقدمته: “أما كبار العلماء، وأساتذة الأدب، فلا يجدون في هذه الآراء ما يشفي غلتهم، أو يسكن من حب الاستطلاع لديهم، فعليهم أن يرجعوا إلى كتب الفرنجة، وفيها كل تفصيل لما أجملناه وأوجزناه”، فانظر قوله “فيها كل تفصيل لما أجملناه وأوجزناه”، وهذا يعني أن على كبار العلماء، والأساتذة الأدباء، أن يرجعوا إلى كتب الفرنجة، كما قال، فإن فيها تفصيل ما أوجزه وجمله. ومن هذا الذي أوجزه وأجمله، قوله:  ”إنها ليست آداب أمة واحدة، وليست لها صفة واحدة ، بل هي آداب أمم مختلفة المذاهب والأجناس والبيئات”، ومعنى كلامه الذي لا يقبل تأويلًا، ولا يحتمل ليًّا، هو أن هذه المنطقة ليست أمة واحدة، ولا شعبًا واحدًا؛ وإنما هي شعوب متغايرة، وأمم متباينة، يصدر كل منها عن ثقافة ولغة ودين غير الذي يصدر عنه الآخر، فلا تثريب عليها إذا طالبت بانفصالها، أو التمكين لها من خلال حكم ذاتي، أو ما شابه.

ثم خلف من بعده أمين الخولي، فحاول التقعيد لهذه النظرية، أي الإقليمية، وإقامة البرهان عليها، وقد عرض لهما بالرد والنقد “ساطع الحصري”  في كتابه: “الإقليمية.. جذورها وبذورها”، مبينًا خطورة هذه النظرية وأبعادها.

ثم توالت الأيام، ومرت السنون، لتظهر لنا هذه النظرية في لباسها الجديد، حيث كتب طه حسين، وسلامة موسى، وحسين هيكل، سنة 1933، مقالات يدعون فيها إلى الفرعونية، وأن على كل قطر عربي أن يعود إلى تاريخه القديم، وذلك بإحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، والبابلية في العراق، وقد تزامن كل هذا مع “الظهير الأمازيغي في المغرب”، فتأمل وتدبر، وقد وقف في وجه هذه الدعوة مجموعة من حملة الأقلام، ورواد الإصلاح، وزناد القرائح، نذكر منهم عبد الرحمن عزام، ومحب الدين الخطيب، وزكي مبارك، وغيرهم مما لا يسع المجال لذكر أسمائهم، وقد نتج عن هذا معارك فكرية كثيرة حملت أسماء عديدة، منها معركة “الوحدة والتجزئة”، و”مصر فرعونية أم عربية؟”.

ومرت عاصفة الفرعونية، والبابلية، والفينيقية، وغيرها، وعادت مسألة العربية والعامية لتظهر مرة أخرى، لكنها هذه المرة لم تطرح من باب التقريب بين اللغة العربية ولهجاتها العامية؛ وإنما طرحت من باب الغض من لغة عدنان، والحط من لسان قحطان، لكن الخطير هذه المرة أن الذي حمل هم هذه الدعوة هو مجمعات اللغة العربية، وهذا مما يدعو إلى العجب، وإلى وضع ألف علامة استفهام، فقد نشر مجمع اللغة العربية سنة 1947 تقريرًا تحت عنوان: “موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى”، ويكفي ما في العنوان من مغالطة، ومن إهانة للفصحى بتحكيمها إلى العامية، لبيان من يقف خلف الستر المسدلة، خاصة إذا صدر هذا عن مجمع للغة العربية، وقد كان للسيد محب الدين الخطيب موقف جريء في الدفع عن العربية الفصحى، وما رموه بها في هذا البحث من عقم وعدم القدرة على التطور.

ثم بعد عشر سنوات تقريبًا،  يعود  المجمع اللغوي العربي بدمشق ليحمل ثانية  هم هذه الدعوة، حيث دعا إليها في مؤتمره الأول سنة 1656، وقد كشف محمد محمد حسين- ساعتها- ما ينطوي داخل مخرجات هذا المؤتمر، وعن خلفيات التغريب التي تقع من ورائه، مظهرًا في ذلك عن قوة في المعارضة، وصلابة في الحجج.

الفرعونية.. هذه أهدافها

على اختلاف أسمائها، سواء فرعونية، أو إقليمية، أو الجامعة المصرية، فإن صفاتها كانت واحدة، وأهدافها واحدة، وهي أهداف سياسية وإستراتيجية، وإن كانت أدبية ابتداء، حرصت الدول الغربية وجهدت جهدها في الترويج لها لتقسيم المقسم، وتفتيت المفتت.

وظهورها الآن جاء نتيجة الصراع الواقع في المنطقة وعليها، سواء الصراع الروسي الغربي، أو الصراع العربي الإسرائيلي، وخاصة بعد إظهار أغلب الدول العربية ميولها نحو روسيا، أو على الأقل عدم إظهار العداء لها، والنفور منها.

إن الغرب دائمًا ما كان يبسط سلطته ويوسع نفوذه عن طريق خلق المشكلات، وحل المشكلات، ومن أساليبه في خلق المشكلات تجده يدعم استقلال الأقليات، وتقسيم الدول من خلال النزعات العرقية، فيدخل الغرب لحل هذه المشكلات، فيتولد لدينا في البلد الواحد بلدان وأقاليم مستقلة بعضها عن بعض، وحتى إن لم تستقل فإنها تكون أكثر قوة، وأقوى نفوذًا من الدولة المركزية.

تطبيق هذا النهج على روسيا

إن أكثر ما يرعب النخب الروسية، ويقض مضاجعها، ويؤرق تفكيرها، هو أن تتعرض روسيا للتقسيم، وذلك لما يحتويه المجتمع الروسي من تنوع عرقي وديني، موزع على عدة أقاليم، ولهذا فإن تطبيق الفرعونية في نسختها الإقليمية على روسيا ليس أمرًا عسيرًا.

حتى إن الهجوم الأوكراني المضاد فشل؛ لأنه لم يكن مقدرًا له أن يكون عسكريًّا، خاصة بعد تدمير الروس للعتاد الأوكراني؛ وإنما كان سيكون سياسيًّا عن طريق خلق ثورة بيضاء تستهدف الأعراق والأديان في روسيا، وذلك من خلال قلقلة المشاعر، خاصة عند المسلمين، وتجلى ذلك في إحراق القرآن الكريم، ولهذا حرص بوتين وقادة الكريملين، في الفترة التي سبقت الهجوم الأوكراني المضاد، على توجيه خطاباتهم إلى المسلمين الروس، وتوعد بمحاسبة كل من يهين الإسلام، أو يعمل على زعزعة النزعات العرقية والدينية في روسيا.

يقول سيرغي كاراغانوف في مقابلته مع مجلة بيزنس أونلاين الروسية، التي أجراها معه الصحفيان رشيد غالياموف وأولغا فانديشيفا: “علينا- نحن الروس- الروس السلاف، والروس التتار، والروس الياقوت، والروس البورياتيين المغول، والروس الشيشان، أن نؤمن ونقتنع- بشكل لا جدال فيه- أننا شعب الله المختار. نحن حقًّا شعب مميز، والشعب الأكثر حضارة، وبلدنا يمثل حضارة الحضارات. لدى شعبنا عدة مهام، إحداها هي تحرير العالم من كل أشكال الهيمنة، واستعباد الإنسان، ونير الغرب الجاثم على صدر البشرية منذ 500 عام”.

وكما أسلفت، فإن كل كلام إلا وفيه شيء من نفس صاحبه، وفي كلام سيرغي كاراغانوف تجد ذلك الخوف من التقسيم، أو من النظرية الإقليمية إذا شئت؛ ولهذا فإنه حرص أولًا على إضافة كل إقليم إلى روسيا، فقال: “الروس السلاف، الروس التتار…”، ثم حرص ثانيًا على بث شيء في النفوس، وهو زرع الاعتداد والأفضلية فيها، وأن تلك الأفضلية تكمن في كون تلك العرقيات شعبًا واحدًا.

والنخب الروسية لا تلجأ إلى هذا إلا إذا كانت تعلم أن هناك تحركات تستهدف زعزعة استقرار روسيا عن طريق استهداف الأعراق والأديان المكونة لروسيا، فتظهر عندئذٍ دعوات إلى الشيشانية، والتتارية، والمغولية، وغيرها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع