بريكس بلسمقالات المركز

قراءة سياسية لحلف بريكس وأطروحة العولمة الاقتصادية الجديدة


  • 22 أكتوبر 2023

شارك الموضوع

مقدمة

يتواتر النقاش السياسي والاقتصادي والإعلامي بشأن مسألة حلف البريكس (BRICS)، حيث تُقدّم بعض القراءات ما تعدّه إمكانات جديدة في علاقة بالحوافز الاقتصادية والمالية التي يُوفرها هذا الحلف، في إطار فك تناقضات الدول التي تشهد صعوبات مالية خانقة داخليًّا، وممكنات بفك الارتباط الاقتصادي خارجيًّا، مع المؤسسات المالية الدولية، والأحلاف الاقتصادية التقليدية، كصندوق النقد الدولي.

تُؤكد هذه التحليلات استحالة استمرار نسق الاقتصاد العالمي على وضعه الراهن، خاصة مع عجز أغلب الدول عن تسديد ديونها الخارجية، وصعوبة جدولتها، إضافة إلى عدم إمكانية وفاعلية انخراط أغلبها في حزمة إصلاحات إدارية ومالية واقتصادية، في إعادة لسيناريوهات قديمة بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وانخراط دول العالم ضمن منظومة ليبرالية تُطلق العنان للسوق، وقاعدة التعديل الذاتي، وتوازنات العرض والطلب. تعمل دول بريكس: (روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا) على خلق تقاطعات إستراتيجية مع أغلب دول العالم على امتداد القارات الخمس، في إطار تحالفات مالية، وجيوسياسية، وعسكرية، مُستفيدة من حُزمة التناقضات العالمية سياسيًّا واقتصاديًّا، نذكر منها: الأزمة  الحادّة للاقتصاد العالمي، وتناقضات السياسة والعلاقات الدبلوماسية التي تتغذّى من الصراعات الداخلية، وموجات الهجرة غير النظامية، وتغيُّرات الواقع السياسي داخل بعض الدول، وصعود حركات سياسية شعبوية في جزء من دول القارة الأوروبية تبحث عن فك الارتباط التقليدي من داخل الجسم السياسي (إيطاليا)، والركود العالمي للاقتصاد منذ أزمة الكورونا، وتداعيات الديون المُستحقّة لبعض الدول، وتصاعد صراعات الطاقة، وإشكالات التحالفات الطاقيّة الجديدة.

يُضاف هذا الحلف إلى تكتُّلات اقتصادية عالمية تبحث عن اقتناص فرص الاستثمار المالي، وتدوير رؤوس الأموال الضخمة، وخلق نوع من الهيمنة السياسية ذات الملامح الاقتصادية. يبدو هذا الحلف ذا وزن اقتصادي وديمغرافي ضخم، وله من الإمكانات ما يسمح له بأداء أدوار مهمة عالميًّا على المديين المتوسط والبعيد.

حلف البريكس.. إمكانات ديمغرافية واقتصادية ضخمة وسياسات جديدة

يضم حلف بريكس دول البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا. كما يُعد- من وجهة نظر بعض المتابعين- مُنافسًا مباشرًا لمجموعة السبع (G7) بما هو تكتُّل سياسي واقتصادي عالمي يشمل قرابة 40 في المئة من مساحة العالم، مع 13.6 ترليون دولار من الناتج الإجمالي الذي تُحقّقه دول الحلف، وقرابة 4 تريليونات دولار من مجموع احتياطي النقد الأجنبي. تُظهر هذه المعطيات جديّة المشروع السياسي والاقتصادي لحلف بريكس، كما تتضّح امتداداته داخل الأجندات المالية والسياسية لبعض دول العالم في سياق البحث عن تنويع فرص الاقتراض والاستثمار، أو في إطار المناورة السياسية، كما هي الحال مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي، مثل السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وبعض الدول الإفريقية. في هذا السياق، تتوجه سياسة دول بريكس منذ بداية مفاوضات تشكيل الحلف في 2006 نحو تشكيل ما أسموه بالحلف الاقتصادي الجديد، في مواجهة سياسة الأمر الواقع التي يُهيمن فيها الدولار والسياسة المالية الليبرالية. كما انطلق التنفيذ العملي لسياسات بريكس منذ قمة 2009 التي وضعت الأجندة الاقتصادية والسياسية للحلف على محك التطبيق.

تبحث دول بريكس عن تقديم خيارات مالية جديدة للدول المعنيّة بالتفاوض بشأن تحسين قُدراتها الاقتصادية، حيث تُمسك دُوله بحوافز مالية من الممكن استثمارها والاستفادة منها مع تزايد الطلب على الاقتراض الدولي، وتدهور البنية الهيكليّة للنظام الاقتصادي العالمي، واحتداد تناقضات الداخل الأوروبي والأوروبي الأمريكي، مع بروز تحديات سياسية واقتصادية جديدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وانكماش سوق الطاقة العالمية، وبحث الدول عن منابع إنتاج وترويج جديدة لثرواتها، مع حوافز وقواعد تختلف عن تلك التي تضبط عملية إنتاج الثروة وتدويرها عالميًّا منذ مخطط “مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية، واتفاقيات “بريتن وودز” التي رهنت اقتصاد العالم بفلك الدولار الأمريكي. رغم وجاهة الأطروحة القائلة بضرورة تنويع الخيارات الاقتصادية، وتقليص العولمة اللامتكافئة، فإن تحويل هذا المشروع إلى واقع عملي، وتلمُّس نتائجه، يظل رهين عوامل كثيرة ومتباينة بين دول بريكس في ذاتها، وبينها وبين باقي دول العالم، بالإضافة إلى قُدرات الدول الساعية نحو التعاون مع دول بريكس، أو تلك التي تتفاوض بشأن مسائل تقنية تهم الانخراط في المنظومة المالية والتجارية لدول الحلف.

 الوعود الاقتصادية لدول البريكس.. خطوة إلى الأمام وخطوات في المكان نفسه

يُقدّم المشروع الاقتصادي لدول حلف بريكس أُطروحات متعددة تهم المجال المالي والطاقي، ومسائل الأمن والغذاء، وغيرها، غير أن التعبيرة السياسية لهذا المشروع لا تزال في وارد الغموض إلى الآن، حيث تتولى الصين وروسيا مهمة “الترويج” لمشروع الحلف، وسط غياب سياسي ودبلوماسي لباقي مُكوّناته (البرازيل، والهند، وجنوب إفريقيا). كما يبدو التغلغل الصيني- الروسي في إفريقيا وجزء من دول العالم ذات الارتباط الأيديولوجي والمالي بهاتين الدولتين، لافتًا وذا دلالات عميقة، وربما ذا تداعيات سياسية واقتصادية على المدى المتوسط. تعمل الصين وروسيا على خلق مناطق نفوذ غير تقليدية في دول عربية وإفريقية وآسيوية، مُستفيدتين من ثغرات الاقتصاد العالمي، وتزايد الاحتجاج على سياسة “الإملاءات والاكراه” التي أصبحت حُجّة تبريرية لأغلب الدول التي تتفاوض جديًّا مع دول بريكس، أو تُعرب عن نيّتها في إيجاد أرضية تعاون مشترك. تُوظّف دولتا الصين وروسيا ترسانة الإمكانات المالية، والعسكرية، والسياسية، لضبط إحداثيات التعاون مع دول تُعرب عن رغبتها في اكتشاف فرص اقتصادية من خارج “المعسكر” الليبرالي الغربي. يبدو التوجه نحو دول بريكس نوعًا من ضرورات إعادة التموقع عالميًّا، وحلحلة تناقضات أزمات الاقتصاد، شرط تفعيل الوعود، وإيجاد الشروط الموضوعية لتطبيق تلك الاتفاقيات بين دول بريكس وبعض دول العالم، التي لا تزال حبرًا على ورق.

تُهيمن الصين وروسيا على مساحة الظهور السياسي والإعلامي لدُول حلف بريكس، مُستفيدتين من قدرات اقتصادية، وعسكرية، وسياسية، ومُوظّفتين لعلاقات تاريخية ودبلوماسية مع دول أوروبية، وإفريقية، وعربية. يتحرك حلف بريكس بذراعين إحداهما اقتصادية (الصين)، والأخرى سياسية (روسيا) ضمن تبادل أدوار يُوظّف في مشاهده وتفاصيله، المال والسياسة والدبلوماسية، وأحيانًا السلاح.

الصين.. اشتراكية الدولة في ظل ليبرالية السوق

 تملك الصين إمكانات ديمغرافية واقتصادية لافتة، حيث يشهد الاقتصاد الصيني نموًّا متواترًا من سنة إلى أخرى بمعدل 10 في المئة كنسبة نمو، مع تصنيفه ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية. يُحقّق الاقتصاد الصيني ما يقرُب من 9 تريليونات دولار ناتجًا إجماليًّا محليًّا. تستثمر الصين قوّة الاقتصاد، والحجم الرهيب للتدفقات المالية في عملية إنتاج ضخمة على المستوى العالمي. فمنذ إصلاحات “دينغ سياوبينغ” في سبعينيات القرن الماضي، انطلق الاقتصاد الصيني في عملية تدوير فائض الإنتاج الصناعي والخدماتي الزهيد السعر، في سيروة خلق ارتباط اقتصادي وتجاري مع أغلب دول العالم، تحت شعار اشتراكية الدولة في ظل ليبرالية السوق. سمح هذا الإنتاج الضخم، وحجم المبادلات التجارية، بنقل ورشة الإنتاج الصناعي الضخمة إلى خارج الحدود الصينية، نحو الشرق الإفريقي، والخليج العربي، والداخل الأوروبي والأمريكي. مكّن هذا التراكم الرأسمالي من تزايد الطموح الصيني في كسب حلفاء جدد، والتوغل في مسائل ذات علاقة بالسياسة العالمية، والاقتصاد المُعولم. كان من نتائج هذا الاستثمار توسعة مشروع طريق الحرير، وتحويله إلى إستراتيجية دولة تحت اسم “مبادرة الحزام والطريق” التي بإمكانها الربط بين نصف دول العالم وتوحيد اقتصادات دول أربع قارات. كما انخرطت الصين في رقعة السياسة العربية والدولية؛ فبعد عقد القمة العربية الصينية، تتولى دولة الصين الوساطة في عملية المصالحة السياسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، وذلك في إطار تحويل وجهة السياسة العربية- الخليجية من زاويتها الأمريكية نحو الشرق المُتكتّل اقتصاديًّا ضمن حلف بريكس. تستفيد دولة الصين الشعبية من حزمة مشروعات عربية واعدة وضخمة تنتظر فرص اقتناصها، خاصة مع تزايد العداء الصيني الأمريكي بشأن مسألة تايوان، وتداعيات سياسة الحماية الاقتصادية المفروضة على الصين منذ فترة حكم الرئيس دونالد ترمب، إضافة إلى تقاطعات المصلحة العربية والإفريقية مع الإستراتيجيات الاقتصادية الصينية، ولو ظرفيًّا.

تظهر الصين كناطق رسمي اقتصادي باسم دول حلف بريكس، في حين تُحاول روسيا أن تُتقن مهمة الناطق الرسمي السياسي إلى حين توافر الظرفية المناسبة عالميًّا لتقليص الفجوة بين قطب ليبرالي يُهيمن على اقتصاد العالم وسياسته، وقطب آخر يرى نفسه في طور التشكُّل.

الاتحاد الروسي.. الحرب استمرار للسياسة واستثمار في الأزمات

 تُعد روسيا من ضمن دول حلف بريكس ذات الوزن السياسي الوازن عالميًّا، غير أن قدرة الاقتصاد الروسي في الوقت الراهن، لا يمكنها أن تُشكّل نقطة ارتكاز، أو عامل دفع نحو منافسة الاقتصاد الأمريكي، أو الألماني، أو الصيني. تجد روسيا في حلف بريكس نوعًا من الغطاء الجيوستراتيجي الذي تُعضده الحرب من أجل فرض شروط روسية على طاولة السياسة العالمية، حيث تُوزّع الإدارة الروسية أوراقًا متعددة على امتداد خريطة الطاقة والنزاعات عالميًّا. توجد روسيا في مناطق الاقتتال، مثل سوريا وليبيا، إضافة إلى إطلاق العنان للذراع الاقتصادية للدولة (شركة غازبروم) لعقد الصفقات العملاقة، مثل مشروع “نورستدريم”، بالشراكة مع الدولة التركية؛ للاستفادة من غاز المتوسط، وتوسيع مجال النفوذ الطاقي أوروبيًّا وآسيويًّا. تُعيد روسيا طرح صراع القطبين في صيغة جديدة، تُوظّف من خلالها تقاطعات السياسة والإرث التاريخي لأيديولوجيا الصراع ضد ما يُسمّى تاريخيًّا “الامبريالية” الاقتصادية والسياسية. في هذا السياق، تؤدي الحروب التي تخوضها الدولة الروسية أدوارًا متقدمة في علاقة بصد التوغل الغربي قريبًا من أراضيها، سواء من جانب حلف الناتو، أو الولايات المتحدة الأمريكية. كما تُغذّي من خلال هذه الحروب- الحرب على أوكرانيا- نزعات التفكير فيما يُطلق عليه البعض “العالم الجديد”، أو ما يُسمّيه المنظر السياسي الروسي “ألكسندر دوغين” بالنظرية السياسية الرابعة. تتمحور هذه النظرية حول تعزيز الوجود الروسي ضمن دائرة المياه الدافئة (البحر المتوسط)، وفي العمق الإفريقي، والداخل الأوروبي؛ لذلك لا تكتفي الدولة الروسية بوجود بحري في “طرطوس” و”حميميم” السوريتين، أو الساحل الجيبوتي ودول الشمال القاري؛ بل تسعى إلى توظيف إستراتيجية الغزو الاقتصادي من خلال حلف بريكس، وبضمان القوة العسكرية التي تُطمئن المفاوض السياسي، ضمن آفاق البحث عن تحالفات جديدة تشترك فيها بعض الدول، وتحت ضغوط الأزمات الدولية اقتصاديًّا وماليًّا، وتراكم ملفات ثقيلة آن أوان حلها، من وجهة نظر روسية.

يظهر من خلال بعض الأحداث أن خيوط السياسة الروسية ضمن إطار الترويج لمستقبل حلف بريكس، ونقد الوضعية الاقتصادية والمالية العالمية، يمكنها أن تُحقّق رجع الصدى من خلال توظيفها في عملية صراع سياسي ودبلوماسي. نتبيّن هذا الطرح من خلال تصريحات الرئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون” إثر زيارته إلى روسيا، التي تمحورت حول الحاجة إلى التفكير في حلول جذرية وعميقة لقضايا الاقتصاد والسياسة عالميًّا، بعيدًا عما سمّاها “توجيهات” الأمريكيين. أبانت هذه التصريحات القديمة- المتجددة قدرات سياسيّة للآلة الحربية، وما يمكن أن تخلقه من أزمات عالمية، وممكنات الاقتصاد والمال (الفوائض المالية لدول بريكس، والاتفاقيات الموقّعة من بعض هذه الدول مع دول عربية وإفريقية)، في عملية بناء خطاب سياسي يقطع مع حالة الركود السياسي، ويستثمر في تراجع أدوار الحليف التقليدي (الولايات المتحدة الأمريكية)، وصعود قوّة افتكت الدور السياسي أوروبيًّا (ألمانيا)، وتحوّلت إلى منافس سياسي لفرنسا، وعدو سياسي لروسيا من خلال النقد المتزايد لحربها على أوكرانيا، وتوغلها اقتصاديًّا في دول ترتبط تاريخيًّا بالمحور الأوروبي دون سواه.

حدود الاستفادة من حلف بريكس وممكنات توظيف حمولته السياسية والمالية

تتواتر تحركات بعض الدول العربية في إطار ربط الصلة مع حلف بريكس، سواء من خلال الصين أو روسيا؛ القوتين المُمثّلتين للحلف. تُحاول هذه الدول اكتشاف القدرات المالية التي يُوفرها التموقع اقتصاديًّا ضمن هذا الحلف، مع أهمية الإشارة إلى ما يعنيه ذلك من تحالفات سياسية على أرضيات مختلفة، منها ما يتعلق بفك الارتباط مع دول الحلف الأمريكي الأوروبي، والمؤسسات المالية الدولية، ومنها ما يتّصل بمناورات سياسية لتحسين شروط التحالف السياسي التقليدي مع هذه المحاور، مثلما هي الحال مع بعض الدول الخليجية، كالسعودية والإمارات. عمّقت بعض الصراعات الدولية، واختلاف وجهات النظر بشأن مسائل الاقتصاد والأزمات المالية، نقاط التناقض السياسي بين مختلف دول العالم، وضبابية الرؤية في العلاقة بين مستقبل الاقتصاد والسياسة في ظل أزمات ما بعد الكوفيد والسياسات الأوروبية الجديدة، تساوقًا مع الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمات الطاقة والغذاء عالميًّا. تختلف أوجه النقاش وطرائق التفاوض الجاري بين دول بريكس وبعض الدول العربية؛ وذلك لاختلاف الشروط، والسياقات، والممكنات الاقتصادية، والموقع الجغراسياسي.

مصر والخليج العربي: تبحث دول الخليج العربي: (السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين) عن تصريف إنتاجها الطاقي ضمن شروط جديدة تقطع مع سياسات تحديد السعر عالميًّا، وتذبذب أسعار الصرف، وعدم استقرار الدولار. بالإضافة إلى البحث عن تفعيل اتفاقيات واعدة من وجهة نظرها- مُخرجات القمة الصينية العربية أساسًا. تسعى هذه الدول إلى تنويع هوامش المناورة السياسية، في الوقت الذي تزايدت فيه عالميًّا حدّة أزمات الطاقة والغذاء، واستحالة الخروج من حالة الركود الاقتصادي العالمي على المدى القريب، وارتفاع الطلب على الاقتراض العالمي، في ظل مُطالبة بعض الدول بجدولة ديونها، والحصول على حزمة مساعدات مالية. تُعيد دول مجلس التعاون الخليجي توزيع أوراقها الاقتصادية على مائدة السياسة، من خلال دور الوساطة الذي نجحت فيه الصين في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. كما أعادت روسيا إحياء ملفات الدبلوماسية المُجمّدة مع بعض الدول الخليجية منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا، وأدّت أدوارًا في تهيئة ظروف التفاوض بشأن غلق ملفات التدخل العربي في أحداث الثورتين السورية والليبيّة. في السياق نفسه، تنظر الدولة المصرية نحو الوجهة الروسية في بحث عن تمويلات طال انتظارها من صندوق النقد الدولي، ومن بعض الدول الخليجية. اتّخذ هذا التعاون جانبًا عسكريًّا من خلال ما رُوِّجَ مؤخرًا عن تزويد روسيا مصر بصفقة صواريخ، ومن خلال اللقاءات المكثّفة على مستوى الخبراء الاقتصاديين.

إفريقيا- الجزائر وتونس: تُعاني أغلب دول القارة الإفريقية أزمات اقتصادية تأخذ في التعمُّق يومًا بعد آخر. ترتبط هذه الدول بعلاقات مالية مع صندوق النقد الدولي منذ سنوات التسعينيات، وحتى قبل ذلك، في إطار إعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية، والإصلاحات الإدارية. غير أن عملية المرافقة المالية لهذه الإصلاحات لم تُقدّم حلًا جذريًّا للتخلص من أزمات المال والاقتصاد لهذه الدول. يُضاف إلى ذلك حجم ونوعية الشروط التي تفرضها الصناديق الدولية المانحة لضخ الأموال المطلوبة من هذه الدول. تشترك الدولة التونسية في هذه الظروف والسياقات نفسها التي تُكبّل توازنات المالية العمومية. في سياق تحليل منظومة الأزمة، والبحث عن حلول لمشكلة الدين الخارجي، تعدّدت القراءات التي تُعلي من شأن التنسيق المالي مع حلف بريكس في ظل صعوبة التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وازدياد العبء المالي على الميزانية العمومية. كما طفت على السطح خطابات صادرة عن بعض السياسيين الجزائريين، تتمحور حول الضرورة الاقتصادية، وتنويع الخيارات من خلال بحث إمكانية التعاون مع حلف بريكس، بالإضافة إلى الحجم المالي الضخم لمشروع الطاقة الجزائري الإيطالي، الذي يُمكّن الجزائر من تحصيل عائدات مالية ضخمة، والتمكُّن من ورقة سياسية مهمة على الصعيد العالمي.

في السياق نفسه، تُسجّل بعض دول بريكس حضورها في الداخل الإفريقي من خلال مشروعات اقتصادية تمتد من الشرق الإفريقي إلى عمق القارة. كما ترتبط بعض الدول (الجزائر) بعلاقات عسكرية وتجارية مع روسيا منذ سنوات، في إطار إستراتيجيات فك الارتباط، والتعويل على الإمكانات المحلية. تحولت كلمة التعويل على الداخل، واستثمار الثروات المحلية، إلى كلمة السر، و”التعويذة” السياسية الذهبية في سياق المناورات السياسية المُستمرة منذ مدة، والمُستثمرة لتناقضات الداخل الأوروبي من خلال الصراع بين بعض الدول (فرنسا- إيطاليا)، وأزمة المهاجرين غير النظاميين، وملفات الاستقرار الأمني في دول الساحل والصحراء، والمُتغيّرات السياسية الجارية في بعض الدول الإفريقية. كما تؤدي أزمة الديون العالمية، وركود الاقتصاد العالمي، وتدويل الأزمات، عوامل دفع لإثراء هذه النقاشات التي تُعيد استحضار صراعات قديمة بعناوين جديدة.

خاتمة

تقوم السياسة على اختيار التحالفات، والبحث عن تقاطعات مع جميع الأقطاب الاقتصادية والمالية، في إطار تعزيز الآلة الاقتصادية والمالية للدول. كما يُمثّل تنويع الخيارات المالية، ومراجعة تقاطعات السياسة، جوهر التسيير الواقعي للدول، والحوكمة الرشيدة، غير أن هذه الإستراتيجيات ليست بالأمر الهيّن، أو التي تتحوّل إلى واقع بجرّة قلم؛ حيث إن عمق الاتفاقيات الاقتصادية، وطبيعة الشراكة المالية مع الحلفاء التقليديين، ومرونة السياسة المالية الرأسمالية وانتشارها عالميًّا، لا تسمح بعملية تحويل تلك التراكمات والاتفاقيات- رغم نقائصها- نحو وجهة أخرى. تُعاني أغلب دول العالم، وخاصة الدول العربية أو جُلُّها، أزمات سياسية ومالية ضخمة، أهمها عدم امتلاكها اقتصادًا مُنتجًا، أو نقاط تفاوض اقتصادي تُمكّنها من اختيار وجهتها المالية والاقتصادية. كما أن نقاط الخلاف الأوروبي- الأوروبي لا يمكنها أن تُحل- بحكم التجربة التاريخية- خارج إطار الليبرالية الاقتصادية، وديمقراطية التسيير السياسي، رغم تصاعد بعض الأصوات الديمقراطية الشكل- شعبوية الطرح، حيث لا تبحث دول القارة الأوروبية عن الخروج من دوائر الليبرالية الاقتصادية العالمية، بل تُريد تحسين شروط اشتغال الليبرالية ضمن أزماتها، خاصة بعد الكوفيد، وتساوقًا مع الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ لا يمكن للغرب الأوروبي أن يضع بيض الاقتصاد العالمي في سلّة دول حلف بريكس غير الواضحة الوجهة السياسية، وعدم الرضا عن بعضها (البرازيل والخيارات الاشتراكية).

يقع تحميل حلف بريكس ما لا يحتمله من وعود اقتصادية وسياسية، حيث يُفكّر أصحاب هذا التوجه المالي والسياسي في وضع مُغاير تمامًا للسائد عالميا، لكن دول بريكس تشتغل ضمن منظومة عالمية ليبرالية من حيث قواعد الإنتاج والتسويق، وإعادة استثمار العائدات المالية، فبفضل المنظومة الليبرالية المُعولمة، تمكّنت هذه الدول من تحقيق اقتصادات ضخمة، ونسب نمو عالية، والتوغل في أسواق على امتداد دول العالم. كما نتساءل عن حجم ونوعية هذا الوجود لدول بريكس عربيًّا وإفريقيًّا من جانب وعوده الاقتصادية، التي تتطلّب حمولة سياسية ذات علاقة بالواقع السياسي لهاته الدول وعلاقاتها مع الأحلاف التقليدية ضمن الإطار الليبرالي المُعولم، مع الانتباه للأدوار المُحتملة وغير الواضحة إلى الآن لباقي دول الحلف، مثل الهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، بعيدًا عن استعراض طبيعة اقتصاداتها وأحجامها، بل من خلال طرح السؤال عن أدوارها السياسية، ونوعية تأثيرها، وكيفيته؛ لذلك، يظهر حلف بريكس كواجهة اقتصادية لمشروع سياسي ما زال أمامه الكثير ليجد لنفسه مواطن التغلغل داخل منظومة الاقتصاد عالميًّا، أو المنافسة الجدّيّة على تغيير العالم من وجهة نظر سياسية.

بالمُحصّلة، يعمل حلف بريكس من مُنطلق المصلحة الذاتية لدوله، التي تتطلّب عرض لوائح اقتصادية وسياسية على الدول المعنيّة بالتعاون، لكن هذه العروض لا يمكنها أن تكون- ولو مُؤقتًا- ترياق الخلاص النهائي من ترسانة معاهدات واتفاقيات ومنظومة مُعولمة، فرضت نفسها ضمن أزمات عالمية تُجدّدُ نفسها، وتجد الحل من داخلها بأشكال مُختلفة، وطرائق مُتعدّدة. من الوجاهة السياسية أن تُفكّر الدول في تنويع خياراتها المالية ضمن أُطر التحالفات والتكتُلات الجديدة، ومنها حلف بريكس، غير أن هذه الخيارات لا يجب عليها أن تقفز على قراءة مستقبل السياسة عالميًّا، وكيفيّة إدارة الداخل الاقتصادي، دون التورُّط في أحلاف تُعلي من شأن الأيديولوجيا على حساب الواقع.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع