أدب

“الأبله”.. رواية دوستويفسكي بين التفسير والتأويل


  • 7 يوليو 2024

شارك الموضوع

“الأبله” هي رواية للكاتب الروسي فيدور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي. يُرجح أنها كتبت بين عامي 1867 و1869 وهو يتنقل في الدول الأوروبية، ونشرت على شكل مسلسل في مجلة “النشرة الروسية”. وأثارت نقدًا مختلفًا بشأن شخصية الأمير ميشكين، وهل هو تصوير للمسيح في العصر الحديث، أم هو مجرد أبله ضعيف الشخصية؟

يمكننا معرفة ملابسات كتابة رواية “الأبله” من خلال رسائل دوستويفسكي، ومذكرات زوجته “آنا” التي كتبت عن هذه الرواية قائلة:

“لم يحفظ مسودات الرواية، وقبل عودته إلى روسيا أحرق جميع مخطوطاته. خشي أن يخضع للتفتيش على الحدود الروسية وتؤخذ منه أوراقه، ثم تختفي كما اختفت جميع أوراقه في أثناء اعتقاله عام 1849” ⁠.

عمل دوستويفسكي على رواية “الأبله” من سبتمبر 1867 إلى يناير 1869. كانت هذه الفترة من أصعب الفترات وأكثرها مأساوية في حياته. هرب الكاتب من عدد لا يحصى من الدائنين من روسيا إلى أوروبا، وحاول- دون جدوى- التغلب على إدمانه القمار، وهو إدمان مرضي. وفي أثناء كتابة رواية “الأبله” عام 1868، ولدت طفلته الأولى سونيا، لكنها توفيت بعد شهرين فقط. في أثناء العمل على “الأبله”، انتقلت عائلة دوستويفسكي باستمرار من مكان إلى آخر؛ من دريسدن إلى جنيف، ومن هناك إلى فيفي، وميلانو، وفلورنسا.

انعكست كل هذه الأحداث في العمل على الرواية. غيّرَ دوستويفسكي الجزء الأول المكتمل بالفعل من “الأبله”، وأعاد كتابته بالكامل. بعد ذلك صاغ فكرة رواية جديدة: تصوير “شخص طيب بشكل إيجابي”. بعد ذلك اشتكى دوستويفسكي باستمرار في رسائله من أن العمل كان يسير بصعوبة وببطء: “أنا غير راضٍ عن الرواية”، أو “سأبذل جهدي في الجزء الثالث.” وبالتزامن مع نشر الأجزاء الأخيرة في المجلة، حاول دوستويفسكي التفاوض على إصدار الرواية في طبعة منفصلة لكن دون جدوى. رفض ناشره رواية “الأبله”. ومن خلال ابن زوجته بافيل إيزيف، أمضى الكاتب سنة كاملة في التفاوض مع ناشر آخر ⁠حتى إنه كتب العقد، ولكن الرواية لم تنشر حينذاك. نشرت الرواية بعد ست سنوات فقط، في عام 1874، عندما قررت زوجة الكاتب، فتح دار نشر، فكتب الرواية مرة أخرى، ثم نشرها في شكلها النهائي.

عرض الرواية

الجزء الأول

تبدأ الرواية مع الأمير ميشكين، شاب في منتصف العشرينيات، ونجل واحدة من أقدم العائلات الروسية النبيلة، وهو على متن قطار متجه إلى سانت بطرسبورغ. عاد هذا الشاب إلى روسيا بعد أن قضى السنوات الأربع الماضية في عيادة سويسرية لعلاج صرع حاد.

يلتقي ميشكين خلال الرحلة بابن تاجر، ويصيبه الذهول لما يكنّه ابن التاجر من عواطف شديدة، لا سيما فيما يتعلق بامرأة باهرة الجمال تدعى ناستاسيا، يفصح عن هوسه بها. يخبره ابن التاجر أنه ورث للتو ثروة ضخمة بعد وفاة والده، وينوي التقدم للزواج بها.

يصل الأمير إلى المدينة لمعرفة قريبته البعيدة. قريبته تلك هي زوجة الجنرال إيبانشين، وهو رجل ثري ومحترم في منتصف الخمسينيات من عمره. عندما يزور الأمير الجنرال، يلتقي (جانيا) مساعد الجنرال، ويسمع منه قصة توتسكي وناستاسيا… ناستاسيا كانت طفلة يتيمة يرعاها توتسكي، لكن عندما كبرت اتخذها خليلة، وهو الآن يريد التخلص منها بتزويجها سكرتير الجنرال مقابل المال.

يتعرّف ميشكين إلى قريبته وبناتها الثلاث: ألكسندرا، وأديليدا، وأجلايا. تظهر الفتيات الثلاث فضولًا كبيرًا حياله، ولا يخجلن من التعبير عن آرائهن فيه، وخاصةً أجلايا، لكنه يشبع فضولهن، ويتحدث بصراحة كبيرة في مجموعة متنوعة من الموضوعات، تشمل مرضه، وانطباعاته عن سويسرا، والفن، والفلسفة، والحب، والموت، وعقوبة الإعدام، بل حبه للحمير.

يستأجر الأمير غرفة في شقة سكرتير الجنرال، وهناك يقابل باقي العائلة بين الأب السكير الكاذب، والأم والأخت الخائفتين من الزواج المدبر، والابن المراهق المسكين. تظهر ناستاسيا في بيتهم، وتسخر من أفراد العائلة بفظاظة، وكذلك يظهر ابن التاجر مع عصابته؛ حينئذ تقرر ناستاسيا وقف المهزلة لتتخذ قرار الزواج في عيد ميلادها.

يحضر هذه الحفلة توتسكي، والجنرال، والسكرتير، وآخرون. يجد الأمير الحفلة ويصل إليها من غير دعوة. تطلب ناستاسيا من الأمير نصيحته بشأن زواجها بجانيا، فينصحها بعدم الزواج، لتعلن رغم استياء توتسكي والجنرال وجانيا قبولها هذه النصيحة، وتستعد للمغادرة، مستغلةً المشهد الفاضح لإذلال توتسكي.

الجزء الثاني

تعيش ناستاسيا طوال ستة شهر كاملة حالة حيرة وتمزّق بين الأمير وابن التاجر، فيتعذب الأمير بسبب معاناتها، ويتعذب ابن التاجر بسبب حبها للأمير، وازدراءها لرغبته فيها. يزور الأمير منزل ابن التاجر، ويشعر برعب متزايد من سلوكه تجاهها، إذ يعترف بضربها في حالة من الغضب الشديد. على الرغم من التوتر بينهما، فإنهما ينفصلان على وئام، وعهد بالأخوة بعد تبادل الصليبين على عنقهما، ولكن الأمير يظل مضطربًا، ويقضي الساعات القليلة التالية، متجولًا في الشوارع، ومنغمسًا في التأمل، حتى تصيبه نوبة صرع في النهاية.

بعد التعافي يذهب الأمير إلى منتجع صيفي في مدينة بافلوفسك؛ لعلمه أن ناستاسيا موجودة هناك. يتصادف وجود عائلة الجنرال في المدينة نفسها أيضًا، وتأتي العائلة لزيارة الأمير، وتحرجه أجلايا بقراءة قصيدة الفارس الفقير.

يقاطعهم شاب يدّعي أنه الابن غير الشرعي للمتكفل بالأمير، ومعه بعض المرافقين، مشكلين عصابة. تطلب هذه العصابة المال من الأمير على أن يكون تعويضًا “عادلًا” مقابل ما قدمه كفيله، ولكن السكرتير يثبت أن الأمر ملفق، يحاول الأمير التصالح مع الشباب، ويقدم لهم الدعم المالي، فتشعر قريبته بالاشمئزاز، وتفقد السيطرة، وتهاجم كلا الطرفين بشراسة، ثم تغادر عائلة الجنرال غاضبة بشدة من الأمير.

الجزء الثالث

يبدأ المشهد الثالث بعودة المبتز إلى الأمير ميشكين، والاعتذار عما بدر منه. تظهر قريبته الجنرالة مرة أخرى، وتعنّف الأمير على تساهله مع العصابة التي أرادت سرقة أمواله، لكن الأمير يصارحها في رغبته في الصفح عنهم، وأن مرضه في الحقيقة يجعل الجميع يطمعون به. تخبره الجنرالة عن قلقها على بناتها الثلاث، وخاصة أجلايا، وأنها اكتشفت علاقة مراسلة بينها وبين نستاسيا، وهكذا تعتقد أن ابنتها تسير في طرق الضياع، تمامًا كما فعلت نستاسيا.

الجزء الرابع

تتعقد الأمور بين الأمير وناستاسيا وأجلايا، ويعترف الأمير بحبه للاثنتين، لكن بشكل مختلف. يصاب الأمير بنوبة صرع مرة أخرى، ويسعى إلى شرح الأمر لكلتا المرأتين، لكن الرواية تنتهي نهاية مأساوية لكل الشخصيات.

موضوعات الرواية

  • قد تبدو الرواية تتبع خطى الأمير ميشكين، وكيف يتعامل الناس معه، لكنها شملت كل الحياة الاجتماعية في مدينة سانت بطرسبورغ، ومن بين تلك الموضوعات طبيعة العلاقات التي تربط الأفراد، خاصةً في المجتمعات الراقية، التي يرفض أفرادها الجلوس حتى في مكان واحد مع أفراد أقل رتبة، ويرون ذلك إهانة لهم، وهو بالفعل ما ذكره الكاتب في عدة مواضع، حيث تكون الفضيحة هو مجرد دخول مجموعة من الناس على اجتماعاتهم، كما صور ذلك في وصف حياة ناستاسيا، وأنها صنعت أسطورتها من خلال اختيار مجموعة من الصفوة تحيط بها نفسها، فأراد دوستويفسكي أن يظهر ضعف هذا المجتمع، ورقه غشائه، فأفراده يكونون جماعات صغيرة متعالية، ترفض الوجود مع أفراد آخرين من الشعب؛ ترفعًا منهم، وإيمانًا باختلافهم.

“بالرغم من المظاهر البراقة ذات الأبهة، كان الحاضرون، معظمهم بالطبع، من ذوي العقول الخاوية الذين لم يدركوا، بسبب حياة الترف التي يعيشونها، أن أبّهتهم هذه لم تكن سوى طلاء زائف براق، وبالطبع لم يكونوا مسؤولين عن ذلك؛ لأنها وصلت إليهم عن طريق الوراثة ليس إلا”.

  • ظاهرة أخرى يناقشها الكاتب هي الوقاحة والتعالي والسخرية كوجه للكبرياء، فقد وضع دوستويفسكي البطلتين بهذه المواصفات، البطلة الأولى هي ناستاسيا فيليبوفنا، التي نراها في كل مشاهد الرواية تقريبًا تظهر فقط من أجل إحراج الحاضرين والسخرية منهم، ففي إحدى المرات تسخر منهم في بيت جانيا، ومرة في بيتها، ولا تُفسَّر هذه السخرية إلا بأنها قوة شخصية، لكن الكاتب في الحقيقة أظهر في الجزء الأول أن ناستاسيا لا تفعل هذا إلا مداراة لحرجها من كونها خليلة أحد الرجال.

المثال الثاني هو الابنة أجلايا، التي فور أن تبدأ ميلها إلى الأمير تسخر منه، وتجعله أضحوكة، وتصفه بالفارس الفقير. اللافت في الحالتين هو ردود فعل الشخصيات المحيطة، فهم يقبلون وقاحة ناستاسيا، ولا يقوّمها أحد من عائلة أجلايا، مع أن سلوكها يعد شائنًا لكل العائلة. ردود الفعل تخبرنا عن تقبل المجتمع الروسي هذا السلوك الوقح المندفع، بل تفسيره بأكثر من وجه.

إلى جانب هذه الموضوعات، التي تعد موضوعات رئيسة نراها خلال كل أجزاء الرواية، هناك موضوعات أخرى نوقشت باستفاضة في حوارات الأبطال، منها عقوبة الإعدام التي استفاض الأمير في الحديث عنها، وعن تأثيرها في المشاهدين، ووقع الفعل في الأنفس، وتغييرها، فقد أراد أن يوضح أن الجاني ليس هو الوحيد المتضرر؛ بل كل المجتمع الذي يقف مكتوف الأيدي يشاهد هذا العنف. كما روي على لسان الأمير الواقعة الشهيرة التي حدثت للكاتب نفسه؛ وهي حصوله على العفو قبل تنفيذ حكم الإعدام بدقائق، فأسهب الأمير في وصف مشاعر رجل يعلم يقينًا أنه ميت بعد دقائق؛ لذا يعيد النظر في حياته كلها.

– من الموضوعات الأخرى التي ظهرت عدة مرات: الإيمان والإلحاد، حتى إنه أفرد لهذه النقطة شخصية كاملة، يكمن دورها في إثارة هذا الموضوع. تلك الشخصية هي هيبولييت، فتى ذو سبعة عشر عامًا، مصاب بالسل في مرحلة متأخرة. هذا الفتى يتأرجح بين العاطفة الشديدة ورغبته في أن يقبله الناس، ورفضه المجتمع، وإعلانه الإلحاد. اللافت أن حجج هيبولييت وحواراته لا تقابل بتفسيرات واضحة، أو حتى بنقاش، فالكاتب أراد إبراز مشكلة موجودة في روسيا، لكنه ربما وضع الحل في كون هيبولييت مريضًا، وأن انعدام الإيمان ما هو إلا تبعات لمرضه، وفقدانه التمييز.

– ذكر الكاتب أيضًا في عدة مواضع تأثر الشعب الروسي بالمال، فنحن على مدار الأجزاء نرى تأثر جميع الشخصيات إما بوجود ثروة، وإما بالفقر المدقع، وهو ما يمثل حال روسيا الدائمة بين فقراء محتاجين لا يجدون قوت يومهم، وذوي الثروات التي يضيعونها يمينًا وشمالًا؛ فبطل الرواية نفسه (الأمير) يظهر فقيرًا، لا يملك مالًا، ولا حقيبة ملابس، وبهذا نرى كيف استخف به رواد القطار، والجنرال وعائلة إيبانشين كذلك، لكن فور أن عرف الجميع حقيقة إرثه هنؤوه، وبدأ الأمير يفعل ما يحلو له، يسافر، ويستأجر البيوت، ويتصدق. يمكننا القول إن بعض شخصيات الرواية اندفعت وتحركت من أجل المال فقط، مثل جانيا الذي كاد يتزوج امرأة يكرهها، أو روجيين الذي ألقى المال تحت أقدامها.

ونرى على الجانب المعاكس نماذج أخرى لرجل يتسول لأطفاله اليتامى، أو لرجل يستولى على كل أموال أرملة مسكينة من أجل السكر. إن التفاوت الكبير بين ما يملكه البشر من مال قادر على أن يشكل بنفسه شخصياتهم وأفعالهم.

اعمال أخرى أثرت في الرواية

خلال العمل نرى أثرًا واضحًا لعدة أعمال فنية تكررت على ألسنة الأبطال؛ ما يجعلنا نعرف أصل اشتقاق بعض الأفكار. من هذه الأعمال المؤثرة في العمل رواية “غادة الكاميليا” للكاتب ألكسندر دوماس، التي كتبت عام 1848. تدور الرواية الفرنسية حول محظية جميلة ومشهورة لعدد من الرجال، ورغم قبول المجتمع بشخصيتها تلك، فإنها كانت ترفض كثيرًا من التصرفات الخاطئة، وتدخل في قصة حب يرفضها المجتمع ويحاربها.  خلال حوارات الأبطال نلاحظ أنهم يحاولون دائمًا الربط بين رواية غادة الكاميليا وشخصية نستاسيا فيليبوفنا، التي كانت تمثل لهم أيضًا المحظية الجميلة المتعالية عمن حولها، ونرى أن الأحداث تتكرر بالفعل في رواية دوستويفسكي؛ فالأبطال من صفوة المجتمع يقبلون نستاسيا فيليبوفنا بينهم، ويتوددون إليها، وتسابقون ليدخلوا بيتها، لكنهم لا يقبلون- بأي حال- أن تكون بناتهن على علاقة بها، أو أن تتزوج رجلًا عاديًا؛ لذا فوصفهم إياها بغادة الكاميليا ما هو إلا تهكم مبطن بمعرفتهم بأصلها.

عمل آخر ذكر بكثرة، هو رواية “دون كيخوته”، التي كتبها ميغيل دي ثرابانتس. في الرواية يتندر الجميع بكلمة “الفارس الفقير”، واصفين الأمير ميشكين، الذي يشعر بالشفقة تجاه نستاسيا فيليبوفنا، ويحاول إنقاذها من معاملة المجتمع القاسية، ولا يخفى على القارئ تأثر دوستويفسكي الواضح بصفات دون كيخوته بالفعل، وإسقاطها على الأمير، ليس فقط في شفقته؛ بل في صفاته الخيرة، وإيمانه بالعدل والقيم الإنسانية، وأن كل البشر يستحقون معاملة حسنة.

تفسيرات “الأبله”

عند حديثنا عن التفسيرات، هناك عدة أفكار يمكننا الحديث عنها، بداية من العنوان، لماذا اختار الكاتب كلمة الأبله، خاصة أن لها عدة تفسيرات؟

فكلمة الأبله أولًا تتعلق بالحالة المرضية للبطل؛ مرض “الصرع” الذي يسبب في بعض الحالات غيابًا للعقل، والحالة الأخرى للكلمة لها علاقة بالمجتمع الروسي في هذه الفترة، فقد كانت كلمة الأبله تطلق على الإنسان المنطوي الذي لا يشارك في جلسات المجتمع والحفلات. والحالتان تنطبقان على البطل الأمير خارجيًّا؛ فهو مريض، وكان منعزلًا عن المجتمع الروسي.

لكن الغريب أن دوستويفسكي اختار للبطل أن يكون عكس المعني الجوهري لتلك الكلمات، فالأمير متحدث جيد، ولبق، يعرف معاني كل ما يقول، ولديه قدرة إقناع عالية، وهو ما لم تتوقعه الشخصيات في الجزء الأول، بل كانوا يعاملونه مثل طفل لا يفهم ما يقال أمامه. والحقيقة أن الأمير الذي ظل يُنادى بالأبله طوال الرواية، لم يكن إلا الشخص الأصلح، وكل الشخصيات الأخرى التي ترى نفسها طبيعية، تشارك في الكذب والخداع. وربما تلك هي الرسالة التي أراد الكاتب إرسالها؛ أن المجتمع قد يهاجم الشخص الخطأ، هذا الشخص الذي يصفح ويعفو، ولا يرد السؤال، قد يكون في نظر المجتمع المخطئ، لكننا على مدار القصة نرى العكس تمامًا، وأن من ننعته بالأبله هو الأكثر حساسية، والأرجح عقلًا.

لكن هذا ليس التفسير الوحيد لشخصية الأمير، فيمكننا بسهولة أن نوجه إليه النقد طبقًا للضعف الذي أظهره الكاتب للشخصية في مختلف المواقف. وجهة النظر الأخرى تهاجم شخصية الأمير، فرغم كون الأمير مستمعًا ومتحدثًا جيدًا، وبارعًا في الإقناع، وذا قلب طيب، فإن طيبة القلب تتحول إلى ضعف عندما يسمح للكل باستغلاله رغم معرفته بخدعهم، فالبطل يقبل مثلًا أن يعطي المال لكل ما يطلب، دون سؤال عن الأحقية، كما أنه يصمت عن الإهانات والوقاحة والتشويه، ويسامح مرتكبيها، رغم معرفته دوافع تلك الإساءات، لكن يمكننا أن نعد ذلك نوعًا من قلة الحيلة التي لا يمكن دمجها مع العدل مثلًا. بعض تلك الصفات الطيبة تحتاج إلى إيمان بالنفس، وشجاعة، وهو عكس ما يقدمه الأمير ميشكين للقراء.

أما التفسير الأخير فهو أن الأمير ميشكين يؤدي دور مسيح العصر الحديث، فهو الشخص الطيب الفقير الذي يتجول بين الناس بلا ثروة، لكنه قادر على إقناعهم، وهو وحده يرى الخير بداخلهم، ويستطيع أن يتفاعل معهم، كما حدث عندما تصالح مع جانيا وروجويين والعصابة بعد عدة فضائح، فهو الوحيد الذي كان قادرًا على مسامحتهم، وفي الوقت نفسه هذا ما يفسر عدم رده على الإساءات، فتلك هي عقيدة المسيح المعروفة المنادية بالصلح والتسامح، وهناك كثيرون يرون هذا التفسير منطقيًّا بسبب ردود فعل الأمير غير المنطقية؛ إذ لا يضاهيه إلا شخصية أخرى متسامحة مثل المسيح.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع