أدب

دوستويفسكي ورواية “المقامر”


  • 28 مايو 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: moso3a-shamela

تعد رواية “المقامر” من روايات الكاتب التي لها قصة شائقة وراء كتابتها، فأغلب روايات دوستويفسكي إما حملت أفكاره، وإما مثّلت أجزاء من سيرته الشخصية، فمثلا رواية “الأبله”، احتوت على قصة تشبه حادث الإعدام الذي تعرض له دوستويفسكي، والأمثلة كثيرة. أما رواية “المقامر” فهي مختلفة عن مجرد حدث، فقد نقل الكاتب تجربه شعورية ونفسية مر بها من قبل.

في عام 1863 ذهب الكاتب دوستويفسكي إلى فيسبادن في ألمانيا في إجازة. وفي غضون أيام قليلة، لم يخسر كل أمواله فحسب؛ بل خسر أيضًا أموال صديقته بولينا سوسلوفا. ومن أجل التخلص من الديون، وقع عقدًا مع إحدى دور النشر لكتابة رواية جديدة، وكانت تلك الروية هي “المقامر”.

لعبه في صالات القمار جعله يخسر مرارًا مبالغ كبيرة من المال في لعبة الروليت، ووجد نفسه في مواقف ميؤوس منها، وكانت تلك الذكريات هي المحفز والدافع إلى كتابة تفاصيل رواية “المقامر”. وقد ذكر مراحل كتابة العمل في إحدى رسائله إلى صديقه ميليوكوف: “لم أبدأ بكتابة الرواية بعد، لكنني سأبدأ. لقد رسمت خطة مقبولة جدًّا، ستكون هناك صفات مميزة للشخصية، لكن الناشر يقلقني ويعذبني، حتى إنني أراه في كوابيس نومي…” (دوستويفسكي- إلى ميليوكوف، 10- 15 يوليو/ تموز، 1866)

موضوع الرواية

موضوع الرواية الرئيس- كما يبدو من العنوان- هو شغف القمار الذي يستهلك المرء ونفسيته، وماله، وكل شيء. تعد بولينا سوسلوفا النموذج الأولي لبطلة الرواية بولينا ألكساندروفنا. إن علاقة بطل الرواية المؤلمة مع بولينا هي انعكاس لعلاقة دوستويفسكي الصعبة مع سوسلوفا. وربما لن نعلم بالضبط هل اختار الكاتب تلك القصة بسبب تأثيرها، أم لأنها كانت الخبرة الأقرب إلى دماغه عندما طلب الناشر رواية تكتب سريعًا في فصل واحد؟

تحكي رواية “المقامر” قصة المعلم الشاب أليكسي إيفانوفيتش الذي يعمل في منزل جنرال في إحدى مدن المنتجعات في أوروبا. يحب البطل ابنة الجنرال بالتبني بولينا الجميلة، وفي الوقت نفسه يشعر بشغف المقامرة، ويشارك فيها في كل فرصة، على أمل أن يكون محظوظًا للفوز.

البطل الرئيس، أليكسي إيفانوفيتش، يجد نفسه وسط دائرة من الأثرياء والأغنياء المتحمسين للمقامرة، ويقع تحت تأثير الماركيز الذي أصبح معلمه. ومع ذلك، في اللحظة التي يجد فيها إيفانوفيتش نفسه في عائلة فرانسيسكا الغنية، يدرك أنه أحب ابنتها بالتبني بولينا، التي تتلاعب به، وترتب مواقف مختلفة، في محاولة لفهم التضحيات التي يمكن أن يقدمها لها.

وعلى خلفية هذه الأحداث تتكشف القصة الأهم في الرواية، وهي قاعات ألعاب الكازينو، حيث يخسر الأبطال كل أموالهم ويفوزون بها مرة أخرى، لكنهم في النهاية يخسرون فقط كل مدخراتهم. تدعو بولينا إيفانوفيتش إلى المقامرة وكسب الثروة من أجلها، والمغادرة معها إلى أوروبا، فيوافق إيفانوفيتش المتحمس للحب واللعب على الصفقة.

خلال المقامرة يأخذ إيفانوفيتش المال من الماركيز، ويستمر في المخاطرة في كل مرة؛ على أمل الحصول على نتيجة إيجابية. والد بولينا بالتبني، الجنرال، يقع أيضًا في فخ الديون، ويصبح الوضع حرجًا.

وسرعان ما تتطور العلاقة التي تفاقمت بين البطل أليسكي وبولينا إلى سوء تفاهم كبير. يخسر إيفانوفيتش كل أمواله، وكذلك ديونه للماركيز، وهو ما يسبب خيبة الأمل واليأس لبولينا.

نتيجة لذلك تتخلى بولينا عن ألكسي إيفانوفيتش بعد إفلاسه، وتقرر الزواج بالماركيز. يغادر البطل المحبط المدينة، ويعد بعدم المقامرة مرة أخرى.

يمكننا تقسيم رواية “المقامر” إلى ثلاثة أجزاء؛ يصف الجزء الأول منها كيف نشأ شغف البطل باللعبة، وما الذي دفعه إلى طاولة الروليت، والثاني يعكس الانحدار الأخلاقي للبطل بسبب الفوز بمبالغ مالية كبيرة، وفي الثالث يرى القارئ تدهور الشخصية الرئيسة، حين يحتاج إلى الجلوس إلى طاولة القمار والاستمرار في لعب الروليت، فهي تزيح أفكاره ومشاعره. لم يعد البطل هو نفس الشخص الذكي والفخور المهتم بما يحدث في العالم، ويغرق في قاع المجتمع.

الأفكار الرئيسة في الرواية

تتناول رواية “المقامر” دوافع المقامرة، والعاطفة التي تثيرها لدى الناس، فضلًا عن الجوانب المختلفة للعلاقات الإنسانية والأخلاق في المجتمع. إنها توضح كيف يمكن للمقامرة أن تدمر حياة الشخص، وتؤدي إلى الإحباط والفراغ.

فالفكرة الرئيسة كانت وصف الحالة المقامر عندما يكون على طاولة الروليت، فهو منفصل تمامًا عن العالم المحيط به، غير مهتم بما يخسره من مال ما دام لم يُهزَم، ولم يعتره اليأس بعد. في قرارة نفسه هناك بصيص أمل في الربح، فهو رهين تلك الطاولات، حتى لو تطلب ذلك خسارة آخر قرش لديه، فهو يتضور جوعًا من أجل المال، الذي ما إن يحصل عليه، حتى تجده في صالات اللعب ليبدده مرة أخرى. وأبعد من صالات اللعب هي الحياة الاجتماعية للمقامر، وما يجول في نفس من يحيطون به، والمصاعب التي تواجهه، والتذمر من وضعه المعيشي، والخضوع والانهزامية في اتخاذ قراره، وعدم تحمل تبعات قرارات اللعب. وفي رأيي، فإن اللعب، وتقبل تلك الخسارات الكثيرة المتلاحقة، أثّر في البطل ليس فقط داخل صالات الروليت؛ بل أيضًا أمام حبيبته بولينا، وجعله ضعيفًا أمامها، يقبل الإهانات كما يقبل الخسارة ليلًا.

يفكر المؤلف كثيرًا فيما يدفع الناس إلى المقامرة. لقد كان هو نفسه تحت تأثير شغف مدمر للعبة الروليت فترة طويلة؛ لذلك كان يعلم مدى صعوبة التغلب على الإدمان. يربط دوستويفسكي لعبة الروليت بالمصير المشؤوم، والسقوط إلى الهاوية، فقد صور الكاتب الشخصية الرئيسة ألكسي على أنه شخص ذكي ومتعلم أيضًا، كان يمكن أن يجلب كثيرًا من الفوائد للمجتمع، لكنه اختار الطريق الخطأ، طريق الثراء السريع. وفي بعض الأحيان أعماه شغفه بالمقامرة عن المشاعر الصادقة لبولينا.

يدين دوستويفسكي إحدى رذائل المجتمع التي في رأيه تسبب المشكلات، ولا تجلب أي فائدة للبشر، بل من تبعاتها أن يسيطر على العالم الجشع والقسوة والرغبة في الحصول على المال السهل. في البداية، يهاجم أليكسي إيفانوفيتش الأشخاص الذين يركزون على الثروة المادية، ثم بعد فترة من الوقت يصبح هو نفسه منهم؛ بسبب الإثارة التي تبعثها المقامرة في نفسه.

يحاول المؤلف إيصال فكرة مهمة للقراء؛ المال والسلطة يدمران النفس البشرية، ويدمران الأخلاق، ويجعلان الحياة بلا هدف. تمر الشخصية الرئيسة بطريق ينتهي إلى التدهور التام، متناسية الحقائق البسيطة، والقيم الإنسانية، وهو ما يمكن أيضًا أن يكون بسبب الابتعاد عن الأسس المعتادة، فأحداث الرواية تقع في مدينة أوروبية، وفي مجتمع غريب، وطبقة مختلفة عن طبقة البطل. عندما يتعرض البشر لظروف مماثلة، فإن الأشخاص يغيرون سلوكهم وعاداتهم جذريًّا لمواكبة ما يحدث حولهم، حتى إذا اختلفت القيم.

التغيير الرئيس هنا مثلًا هو لعبة الروليت، التي تصبح حجر عثرة للشخصية الرئيسة. من أجل تحقيق السعادة الشخصية، يسلك البطل طريق القمار، لكن يتبين أنه ضعيف جدًّا. هكذا يوضح دوستويفسكي مشكلة فساد الإنسان العادي بالمال والسلطة. السرد في رواية “المقامر” يتم بضمير المتكلم، ويتيح ذلك السرد للقراء أن يفهموا ويشعروا بتجارب البطل وتطوره النفسي على نحو أفضل. تشبه هذه التقنية الاعتراف؛ مما يجعل القارئ يتعاطف مع البطل، ويرى فيه انعكاسًا للضعف البشري. كما أرانا المؤلف التناقض بين البداية والنهاية، من خلال وصفه للأشخاص ذوي الأوضاع الاجتماعية المختلفة في المجتمع، إذ رأينا في البداية الشخصية الرئيسة شخصًا ذكيًّا وحيويًّا، لكنه في النهاية ينحدر وينهار، ونتابع هذا التغيير من البداية إلى النهاية.

أما الفكرة الثانية التي رأيتها واضحة طوال الرواية فهي فكرة الحب المشروط، فمع أننا ذكرنا تأثير الخسارة المتتالية على روح البطل فإن اللعبة الرئيسة التي تلعبها بولينا معه هي اختباره طوال الوقت، ووضع شروط لحبها، إما أن يربح المال من أجلها ويقامر، وإما أن يخسرها. من الواضح أن الكاتب أراد أن يبرهن على زيف هذا النوع من الحب المربوط بشرط، فجعله هشًا مملوءًا بالفخاخ، وأصبح البطل بسببها عبدًا لألاعيبها. وفي النهاية، لم تتحمل بولينا خسارات البطل، مع أنها كانت السبب في تدميره، وتركته لتتزوج الماركيز الغني.

عنوان المقامر

قد يبدو عنوان العمل واضحًا في البداية بلا حاجة إلى البحث عن معانٍ أخرى، لكن عنوان العمل باللغة الروسية هو كلمة (Игрок) التي تحمل معنى مزدوجًا؛ فهي تأتي بمعنى “مقامر”، وأيضًا يعود معناها إلى كلمة “لاعب”، وكلمة “لاعب” ربما تحمل معاني أوسع من مجرد لعب القمار، فقد تبادر إلى ذهني الألعاب العقلية التي يلعبها الشخصيات فيما بينهم، وأبرز مثال على ذلك هو العلاقة بين أليكسي إيفانوفيتش وبولينا؛ فكلاهما يلعب لعبته الخاصة، وكلاهما يخسر. إن حب بطل الرواية يحده الكراهية؛ فهو لا يفهم ما إذا كان يحبها أم يكرهها. تلعب بولينا معه أيضًا، كل ما يدفعها في هذه اللعبة هو الكبرياء لاختبار حبه لها. أما أليكسي المدفوع بالعاطفة فمستعد لفعل أي شيء لمعرفة ما تخفيه بولينا، ومَن تحب؛ ونتيجة لتلك الألعاب العقلية بين البطلين، خرج كلاهما خاسرًا.

وهنا يمكننا أن نسأل: لما رفضت بولينا مساعدة أليكسي، وهربت منه؟ لأنها رأت شغفه باللعب أكثر من شغفه بها، فقد خافت عندما أدركت أن أليكسي قد استبدل بحبه لها الإثارة المستمدة من لعب الروليت.

وهذه الألعاب لا تتوقف عند البطلين فقط، فحتى الجدة التي ظهرت في جزء بسيط من العمل، تغرق تدريجيًّا في اللعبة. تلعب معظم الشخصيات سرًّا، وتحيك المكائد، على سبيل المثال، لا يريد الجنرال إعلان حبه للسيدة بلانش، وتخفي بولينا موقفها تجاه البطل. فقط السيدة بلانش لا تخفي نياتها، وشغفها بالمال، وفي النهاية أصبحت الوحيدة التي فازت في هذه اللعبة؛ لقد حصلت على كل ما أرادته، على عكس الآخرين. وكما هي الحال في كثير من أعمال دوستويفسكي، تحتوي الرواية على فكرة الانحطاط؛ فالشخصيات، التي تخسر تدريجيًّا في اللعب تدمر نفسها ببطء: بولينا تتدهور إلى حالة نفسية سيئة، والجنرال يقع في الديون، وتُدمَّر حياة البطل أليكسي على نحو أكثر وضوحًا؛ يظهر على أنه ضعيف الإرادة، ومدمن قمار.

لماذا نقامر؟

من الرواية وشخصيات الأبطال يمكننا أن نلاحظ أن فعل المقامرة لم يظهر من أجل الأسباب نفسها على طول الحبكة؛ فواحد من الأسباب هو فكرة الثراء السريع، وكسب المال بلا تعب، وهو ما يمكننا أن نراه جليًّا في شخصية الجنرال والد بولينا، فنحن نرى صراعه الداخلي منذ بداية العمل، وانتظاره وفاة الجدة حتى يحصل على أموالها، لكن عندما يرى أن الجدة بصحة جيدة يتوجه إلى الخيار الثاني لحصد المال؛ وهو المقامرة في صالات الروليت. أما السبب الثاني الذي رأيته مهمًّا جدًّا، فهو الحصول على الإثارة والمتعة؛ إذ تؤدي المقامرة بكل أشكالها إلى توصيل المتعة إلى الدماغ عن طريق المخاطرة، لكنها ليست مخاطرة كل نتائجها سيئة؛ بل في الطرف الآخر من المعادلة هناك أرباح كثيرة، وما يحدث- مع الأسف- أن الروليت أو القمار لعبة دوارة، فلا خاسر دائمًا، ولا رابح دائمًا، وهو ما يسبب الإدمان؛ لأن الشخص يحصل على متعته من الربح كل فترة، وهو ما يصعب عملية الإقلاع عن هذا الفعل، ويجعل الخسائر على المدى الطويل أكثر من الأرباح وهو ما حدث بالفعل للبطل في النهاية، فشغفه بالقمار جعله يخسر المبلغ الكبير الذي ربحه. لم يكن البطل ألكسي هو المثال الوحيد على مقامرة المتعة، فقد ظهرت الجدة في منتصف الرواية، وانضمت إلى اللاعبين، رغم غناها الفاحش، وحيازتها ثروة ضخمة، لكنها أرادت تجربة تلك الإثارة الساحرة من الفوز والخسارة.

وهناك نوع آخر من المقامرة ذُكر ضمن أحداث الرواية؛ وهو المقامرة كمظهر اجتماعي، ربما هذا النوع خاص أكثر بالحالة الاجتماعية في المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر، وشكل الطبقات الاجتماعية المختلفة وأنشطتها، فنحن نرى البطل في الجزء الأول يجد نفسه وسط طبقة من المرفهين الذين تعد زيارة صالات القمار لديهم مثل التنزه، لا تخرج عن كونها مظهرًا اجتماعيًّا، أو مكانًا للتلاقي مع من هم في مثل وضعهم المادي لمشاركة خبراتهم واستثماراتهم. نرى هذا الجانب في شخصية الماركيز الغني، الذي يقامر من أجل الوجاهة الاجتماعية فقط، وربما من أجل استعراض حجم ثروته أيضًا أمام الناس.

ختامًا، فربما لا تكون رواية “المقامر” من أشهر أعمال دوستويفسكي، أو حتى من الأعمال التي حظيت بنقد كثيف، لكنها بالطبع من الأعمال المميزة التي تثبت كل النظريات عن كون دوستويفسكي هو سيد التحليل النفسي، وهذه الرواية تحديدًا أفردت العمل كاملًا لوصف حالة نفسية واحدة عن نفسية لاعب القمار، بداية من نفوره من مجتمع اللاعبين، حتى الانغماس بكامل وعيه في اللعبة إلى أن يخسر كل شيء تقريبًا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع