أدب

“الحفرة” و”الأشباح”.. نبوءات بلاتونوف


  • 9 ديسمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: amazon.com

عندما قرأ الشاعر الحاصل على جائزة نوبل “يوسف برودسكي” أعمال الكاتب المغضوب عليه أندري بلاتونوف، أعلن بوضوح: “بلاتونوف هو أول سريالي جاد”، ومضى يقول إن أعمال الكاتب المختلفة بين الخيال والواقعية والرمزية كلها تحمل أفكارًا عميقة لا يمكن التغاضي عنها.

وفي المقال الحالي نسعى إلى تناول روايتين من رواياته القصيرة التي نشرت بعد سنوات كثيرة من تاريخ كتابتها الحقيقي بسبب منع أعماله وحظرها في المجتمع السوفيتي.

رواية “الحفرة”

ملخص الرواية

تبدأ الرواية مع فوسشيف، وهو عامل يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، يُطرَد من عمله في مصنع صغير بسبب “انخفاض إنتاجيته، وكثرة تفكيره”. يبحث فوسشيف عن ملجأ جديد، ويصل إلى مدينة أخرى حيث يجد مجموعة من العمال الذين يعملون في حفر أساس ضخم لبناء منزل جماعي يفترض أن يضم جميع أفراد الطبقة العاملة في المدينة. ينضم إلى هؤلاء العمال ويشاركهم في الحفر. العمال يعملون تحت إشراف رئيس المجلس الرفيق باشكين، الذي يدفعهم إلى زيادة الإنتاجية، متجاهلًا الظروف السيئة التي يعيشها العمال من فقر وسوء تغذية.

تظهر شخصيات كثيرة مثل سافرانوف، العامل الذي يقترح تركيب راديو للاستماع إلى الإنجازات والتوجيهات من الحكومة، وجاكيف، وهو رجل بلا ساقين، يعيش مع العمال، ويفضل أن يُحضروا طفلة يتيمة بدلاً من الراديو. يعثر تشيكلين، وهو أحد العمال، على امرأة تحتضر في مصنع مهجور كانت قد قبلته في شبابه. المرأة تترك خلفها طفلتها الصغيرة ناتاشا، فيأخذها تشيكلين معه إلى موقع الحفر، وتصبح ناتاشا رمزًا للأمل والمستقبل للعمال؛ لأنها تعرف الكثير عن السياسة، فهي تحب لينين، وتدعم الاشتراكية والحكومة في كل قراراتها.

تزداد الأوضاع تعقيدًا عندما يُرسَل عاملون إلى قرية لتنظيم الحياة الاشتراكية هناك، لكنهم يُقتلون. يذهب فوسشيف وتشيكلين مع مجموعة من العمال لمساعدة الفلاحين هناك، ويأخذون رجلًا كان يعمل حدادًا في مطحنة لتمييز منازل الفلاحين الأثرياء. يتم تهجير الأثرياء على قارب في النهر، في حين يحتفل الفقراء بالثورة الجماعية، ويرقصون على أنغام الراديو.

مع اقتراب النهاية، تتدهور الحالة الصحية لناتاشا اليتيمة، وتموت بسبب المرض. يحفر تشيكلين قبرًا لها في الحفرة العميقة التي حفرها العمال، معتقدًا أنه بهذه الطريقة ستبقى روحها بعيدة عن ضوضاء الحياة من على سطح الأرض. في الوقت نفسه، ينضم الفلاحون المتبقون إلى العمال في حفر الحفرة، حيث يحفرون بشغف وكأنهم يبحثون عن الخلاص الأبدي في أعماقها. تنتهي الرواية بنبرة سوداوية، حيث يواصل العمال والفلاحون الحفر بلا هدف واضح، وكأنهم جميعًا يختفون في الفراغ.

السخرية من الشيوعية

في رواية “الحفرة” نجد بلاتونوف يسخر من الوعد ببناء “المدينة الفاضلة” التي روج لها القادة الشيوعيون، حيث إن الحفرة تمثل -رمزيًّا- أساس هذه المدينة المثالية. في الرواية، يتعرض العمال لمهمة حفر أساسات لبناء المدينة الاشتراكية الجديدة التي تعكس المجتمع المثالي المنشود. ومع ذلك، فإن الحفر يتحول إلى عمل عبثي ومتواصل بلا نهاية واضحة.

المبني الضخم الذي يحاول النظام السوفيتي بناءه من خلال الحفر ليس سوى وهم، ويظهر بلاتونوف كيف أن الجهود المادية الضخمة للبناء لا تثمر عن أي تقدم حقيقي. تتحول الحفرة إلى رمز للفشل، والعجز عن تحقيق الأهداف الشيوعية الكبرى. تتسع الحفرة وتتعاظم، لكنها لا تؤدي إلى بناء أي شيء ملموس، وهو ما يعكس التناقض بين الوعد السياسي الخيالي والواقع الفعلي.

 محو البصمة الإنسانية

النظام السوفيتي -كما يظهره بلاتونوف في الرواية- يتعامل مع التفكير الفردي على أنه تهديد. النظام لا يسعى إلى السيطرة على أفعال الأفراد فقط؛ بل يمتد إلى محاولة السيطرة على أفكارهم ومعتقداتهم. في حالة البطل، كثرة التفكير جعلته شخصًا “غير ملائم” لهذا المجتمع، بل أدت إلى استبعاده وفصله من العمل؛ لأن هذا النظام لا يحتضن إلا من يحقق له أقصى منفعة.

يظهر بلاتونوف في هذا السياق كيف أن التفكير الفردي يشكل عقبة أمام المشروعات الجماعية التي تفرضها الدولة. التفكير الفردي يتيح للأفراد طرح الأسئلة عن معنى العمل وجدواه، ويسمح لهم برؤية التناقضات والعيوب في المشروع، لكن النظام السوفيتي يتجنب هذا النوع من التفكير؛ لأنه يؤدي إلى زعزعة الأسس التي يعتمد عليها، ويُعد خطرًا على استقرار السلطة؛ لهذا فإن إبعاد العامل عن العمل بسبب “كثرة التفكير” هو وسيلة لضمان أن الأفراد سيظلون متماسكين ومنسجمين مع القواعد الأيديولوجية للدولة.

كما أن هناك بعض الجمل قيلت على لسان الرفيق المسؤول عن المشروع، مثل “الاشتراكية يمكنها أن تستغني عنكم، أما أنتم فستموتون بدونها بعد أن تعيشوا حياة لا نفع فيها”، تلك الجمل توضح كيف يحاول النظام تحويل البشر إلى كائنات لا تتجاوز كونها أدوات لتحقيق الأهداف الجماعية، دون النظر إليهم، أو تقديرهم على الأقل، وهذا الخطاب يقتل الحماسة داخل العمال، ويفقدون بذلك إنسانيتهم، وقدرتهم على التفكير.. وهنا يصبح الإنسان مجرد جزء صغير في آلة ضخمة، حيث يُخمَد أي فكر نقدي، أو إحساس فردي.

التأثير في الوعي الجماعي

كما ذكرنا في النقطة السابقة، فهذا المجتمع يسحق الأفراد ويحولهم إلى مجرد تروس في آلة الدولة. الشخصيات لا تملك الحرية في تحديد مصيرها، وتبدو غير قادرة على الخروج من الدوامة التي وضعتها فيها الحكومة. يصبح الفرد مهمشًا، حيث يتم تجاهل احتياجاته من أجل تحقيق الأهداف الجماعية التي تفرضها السلطة. يتمثل هذا في عدة مواضع في الرواية، أولها عملهم في الحفرة نفسها، مع أنهم يعتقدون أن الحفر هو جزء من مشروع جماعي كبير لبناء مجتمع مثالي، لكنهم كانوا غير مدركين تمامًا لماهية هذا المشروع، أو كيف سيسهم في تحسين حياتهم؛ هم مجرد أدوات في آلة ضخمة يديرها النظام، ويفتقدون أي شعور بالتحقق أو الانتماء الحقيقي.

وثاني مثال على محو ذواتهم هو قصة الطفلة اليتيمة. ومع أن أم الطفلة ماتت من الجوع في العراء؛ ما يصور قسوة الظروف المعيشة، وشح الطعام، فإن أحدًا من العمال لا يرى مشكلة في هذا الحادث المأساوي، وكأن الناس يموتون طوال الوقت بهذه الظروف، ووفاتها لا تدعو إلى التعجب، وهذه الفكرة أيضا نراها في الطفلة التي تشجع مشروعات الحكومة بحماسة شديدة رغم وفاة والدتها في العراء، هذا المشهد هو مثال واضح على سيطرة التفكير الجماعي على وعيهم، فأصبحوا لا يرون مشكلة عدم توافر المساكن أو موارد الطعام والشراب كي تصرف الحكومة أموالها على مبني ضخم لا ينتهي حفر أساسه أبدًا.

رواية “الأشباح”

ملخص الرواية

تتناول الرواية حكاية شاب يُدعى نزار تشاجاتاييف، يبدأ حياته شابًا طموحًا بعد تخرجه في معهد الاقتصاد بموسكو. يمتلك ملامح شرقية، حيث يتميز بوجهه الأسمر، وعينيه الضيقتين، وهو عضو في الحزب الشيوعي. بعد التخرج، يشعر نزار بنوع من الفراغ والضياع، وكأن النجاح الأكاديمي لم يحقق له الرضا الداخلي الذي كان يبحث عنه. يلتقي خلال حفل التخرج بامرأة تُدعى فيرا، وهي أرملة حامل تبلغ من العمر 34 عامًا، فقدت زوجها، وتعيش في حالة من الحزن والوحدة.

يكلف الحزب الشيوعي “نزار” بمهمة، ويرسله إلى صحراء تركمانستان، وهي المنطقة التي قضى فيها طفولته. مهمته هي العثور على مجموعة من البدو الذين يطلقون على أنفسهم شعب “جان”، وهو مجتمع من الفقراء والمنبوذين والمجرمين الهاربين، يعيشون في ظروف قاسية، منعزلين عن المجتمع. يجب على نزار إقناعهم بالانضمام إلى النظام الاشتراكي. في أثناء رحلته في الصحراء يتذكر نزار والدته غولشاتاي، وهي امرأة تركمانية فقيرة. كانت والدته قد تخلت عنه عندما كان طفلاً صغيرًا بسبب الجوع والفقر الشديدين، حيث لم تستطع توفير الطعام له، أو حتى حبه. هذه الذكريات تثير مشاعر الحزن والوحدة داخله، وتربطه أكثر بهذا الشعب المنبوذ في الصحراء.

خلال بحثه عن شعب جان، يلتقي نزار برجل عجوز يدعى سفيان، يقرر مساعدته في العثور على الشعب. يعاني نزار وسفيان الجوع خلال رحلتهما الطويلة في الصحراء، حتى إنهما يضطران إلى ذبح جمل كان يرافقهما لتناول لحمه. ومع أن نزار يشعر بالاشمئزاز من الفعل، فإنه يُجبر على الأكل للبقاء على قيد الحياة.

في طريقهم يلتقي نزار أيضًا برجل كفيف يُدعى مولا، وابنته الصغيرة آيديم. يعيش مولا في فقر مدقع، ويعرض على نزار أن يأخذ ابنته آيديم معه مقابل تركه شيئًا يساعده على العيش، فيشعر نزار بالتعاطف، ويصطحب الفتاة معه في رحلته.

عندما يصل نزار إلى شعب جان، يجد أن هذا المجتمع يعيش في حالة من البؤس واليأس. الناس في هذا المجتمع بلا أمل، مجردون من أي مستقبل أو طموح، ولا يرون أي معنى للحياة. يحاول نزار تطبيق التعليمات التي كلفه بها الحزب الشيوعي، لكنه يدرك أن المهمة أكثر تعقيدًا مما توقع؛ فالسكان لا يهتمون بالسياسة، أو الأيديولوجيات؛ بل يكافحون فقط من أجل البقاء على قيد الحياة.

في أثناء محاولته مساعدة هذا الشعب، يلتقي نزار برجل يُدعى نور محمد، وهو مسؤول أرسلته الحكومة لتقديم المساعدة لشعب جان قبل وصول نزار، ولكنه فشل في مهمته. نور محمد رجل مادي يسعى فقط إلى تحقيق مصالحه الشخصية، ويبدأ بالتآمر لخيانة الشعب ببيعه كعبيد في أفغانستان. في أثناء الرحلة، يسيء نور محمد معاملة آيديم، ويحاول الهروب بها، لكن نزار يتمكن من إيقافه.

بعد صراع مع الظروف الطبيعية والمحن المختلفة خلال عبور الصحراء مع هذه الطائفة المعدمة، يتمكن نزار من استعادة بعض الأمل في نفوس شعب جان. يدرك أن عليهم التوجه نحو منطقة ساري- كاميش، وهي أرض خصبة يمكن أن توفر لهم حياة أفضل. ينجح نزار في إقناع الشعب بالتحرك نحو هذه الأرض، وهناك يتمكنون من إعادة بناء حياتهم على نحو بسيط ومستقر. بعد أن تحقق نزار أن شعب جان قد استقر وبدأ ببناء مجتمعه الخاص، يدرك أنه قد أدى مهمته بنجاح. يقرر العودة إلى موسكو، ويأخذ معه آيديم ليهتم بها ويربيها. حين يصل إلى موسكو، يستقبله الحزب الشيوعي بترحيب، ويشيد بنجاحه في مهمته.

الهوية المفقودة

 إحدى الأفكار المحورية منذ البداية هي مشكلة هوية بطل الرواية. نزار هو شاب تركماني، غير روسي، تربى في بيئة فقيرة قبل أن ينتقل إلى موسكو، حيث تخرج في معهد. على الرغم من هذا النجاح الأكاديمي، فإنه يظل يشعر بالغربة داخل المجتمع السوفيتي. يعيش نزار حالة دائمة من التوتر بين ماضيه وواقعه الجديد؛ فكونه تركمانيًا يعني أنه يملك خلفية ثقافية مختلفة عن الأغلبية الروسية في المجتمع السوفيتي. هذه الاختلافات تجعله يتساءل باستمرار عن موقعه الحقيقي في هذا المجتمع الذي لا يعترف بالتنوع الثقافي أو العرقي؛ بل يسعى إلى تشكيل جميع الأفراد على صورة واحدة، تذوب فيها الهويات الفردية لمصلحة الأيديولوجيا الجماعية.

هذا الصراع يتفاقم مع تكليفه بمهمة إعادة تنظيم شعبه القديم في صحراء تركمانستان؛ وهنا يجد نفسه في مواجهة هويته الأصلية، حيث يعود إلى أصوله وثقافته، ولكنه يواجه صعوبة في الجمع بين هويته بوصفه فردًا من شعب جان، الذي يعيش على هامش المجتمع، وهويته الجديدة بوصفه ممثلًا للدولة السوفيتية.

مشكلة العرقيات

 تعكس الرواية مشكلة كبيرة داخل المجتمع الروسي، وهي التهميش الكامل لكثير من العرقيات، والتظاهر بأنهم غير موجودين من الأساس، ويظهر هذا في البداية في محاولة نزار أن ينتسب إلى المجتمع الروسي؛ لأنه لا يعرف مجتمعًا أو ثقافة غيرها، نتيجة لتواري ثقافته التركمانية عبر الزمن.

ثم تتفاقم المشكلة أكثر بمطالبة الحزب هذا الشعب التائه في الصحراء بالانتساب إليه، وإلى أفكاره. لم تحاول الحكومة أو الحزب الشيوعي حل مشكلات شعب جان، أو النظر في أمرهم؛ بل طالبوه بالانضمام إلى نظام سياسي واجتماعي لا يناسبه، ولا يتماشى بسهولة مع واقع حياته في مكان ناءٍ بلا خدمات. هذه الفكرة تصب في نقد بلاتونوف للسياسة السوفيتية المنفصلة عن الواقع، أو التي تطلب من الشعب نفسه الانفصال عن الواقع لتحقيق حلمها الخاص.

نقد السياسات السوفيتية

مثل رواية “الحفرة”، ينتقد الكاتب ثغرة في النظام السوفيتي، الذي كان يعتمد -هذه المرة- على القوة والقسر لفرض إرادته على المجتمعات، ينتقد هنا الفشل في خلق الانسجام بين المبادئ الاشتراكية واحتياجات الناس الحقيقية. بلاتونوف يشير إلى أن السياسات التي تتجاهل الطبيعة الإنسانية، وتفرض تغييرًا بالقوة، ليست فقط غير فعالة؛ بل تخلق أيضًا معاناة إضافية لمن يُفترض أن يستفيدوا من تلك التغييرات.

في الختام، تُعد روايتا “الأشباح” و”الحفرة” لأندري بلاتونوف من أبرز الأعمال الأدبية التي تعكس رؤيته الفلسفية العميقة، وانتقاده الجريء للمجتمع السوفيتي، عبر تصويره للعالم الذي يستعبد الفرد، ويقمع تفكيره. في رواية “الحفرة” رأينا خطورة الآمال الكبيرة التي بلا مخطط حقيقي، والسعي وراء مدينة فاضلة في حين يسقط الشعب من الجوع. أما رواية “الأشباح” فهي تنتقد محو ثقافة الأقليات ليندمج الكل تحت نظام واحد، بلا دراسة لظروف معيشة الشعب الحقيقية. كل تلك الأفكار كانت سببًا في منع أعمال الكاتب وحظرها في روسيا فترات طويلة، فمع أن هذه الأعمال كتبت في الثلاثينات تقريبًا، فإن رواية “الحفرة” لم تنشر إلا في أمريكا، وبعد ذلك بأعوام طويلة، في عام 1973، ولم تنشر في روسيا إلا عام 1989.

ومع أن بلاتونوف لم يحظَ بالاعتراف المستحق في زمنه بسبب الرقابة الشديدة، ومنع نشر أعماله، فإن إرثه الأدبي أثبت صموده عبر الزمن، وها نحن الآن نقرأ ونحلل أعماله التي تنطبق على كثير من الأنظمة التي كان ينتقدها أديبنا المبدع الكبير.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع