المقدمة
حملت القمة السادسة عشرة لمجموعة البريكس رمزية فريدةتستند إلى اعتبارات عدة، تتمثل في دلالة اختيار مدينةقازان التي تقع على بعد نحو 500 ميل شرق موسكو، فيمحاولة لإظهار المرونة الواضحة للاقتصاد الروسي، وفشلالعقوبات الغربية في التأثير عليه، حيث تعد قازان العاصمةالثالثة لروسيا، وهي واحدة من أغنى المدن في البلاد، وتتمتع ببنية تحتية جيدة، ومشروعات استثمارية متوسعة، وتدل المدينة المضيفة أيضًا على علاقة روسيا الوثيقة معالعالم الإسلامي، فهي عاصمة تتارستان؛ الجمهوريةالمسلمة الواقعة عند مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا.
فضلًا عن هذا، فإن القمة التاريخية التي تسعى إلى تغييرخريطة التحالفات، وتشكيل عالم متعدد الأقطاب، تأتي فيوقت دقيق بين الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، والحربالإسرائيلية على غزة ولبنان من جهة أخرى، وفي ظلمستقبل مجهول للمنطقة، وتغيّر جلي لتوازنات القوىالإقليمية والعالمية، يبرز اختبار حقيقي لأعضاء المنظمةالعشرة بشأن مسؤوليتهم عن إرساء السلام في تلك البيئةالمضطربة.
ولعل الاعتبار الأهم يتمثل في كونها أول قمة تعقد بعد قرارتوسيع المجموعة لتشمل خمسة أعضاء جدد؛ مصر، وإيران، والإمارات، والسعودية، وإثيوبيا، لتحظى “بريكسبلس” بأخطر تباين سياسي وإستراتيجي واقتصادي فيتاريخها، يطرح تكهنات بشأن مستقبل القرارات الجماعيةالتي تتخذها المجموعة في ظل الخلافات العميقة بينأعضائها، خاصةً مع تقليل تمثيل المملكة في القمة منالعاهل السعودي إلى وزير الخارجية، في خطوة تحمل فيثناياها ترددًا سعوديًّا واضحًا في التعامل مع أعضاءالمجموعة.
كما أن توجه زعماء ووفود من نحو 36 دولة إلى قازان، لمناقشة مظالمهم في ظل اختلال وظائف المؤسسات العالميةالتي أنشئت منذ الحرب العالمية الثانية، يرسل رسالةمباشرة إلى الغرب بأن روسيا –رغم جهود عزلها– قادرة علىبناء شراكات إستراتيجية قوية تمكنها من تعزيز قوة الجنوبالعالمي؛ ومن ثم تفرض كل تلك الاعتبارات سؤالًا محوريًّامفاده: هل تقوض المستجدات السياسية هدف المجموعةالاقتصادي، أم تشكل الطموحات الاقتصادية للبريكسالخريطة السياسية للمنطقة؟
كان منتدى البريكس يطمح إلى تجنب النظر إليه بوصفهمنافسًا لمجموعة السبع أو مشتقاتها، مثل مجموعةالعشرين التي تضم أعضاء البريكس في صفوفها، ومعذلك، فرضت الجغرافيا السياسية تغييرًا في هذا الموقف، ففي فبراير (شباط) 2022، التقى الرئيس الروسيفلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينج في بكين، وأصدرا بيانًا مشتركًا يشير إلى بداية علاقة عدائية بينهذين العضوين الأساسيين في مجموعة البريكس والنظامالدولي القائم على قواعد هيمنة الولايات المتحدة، وشركائهافي مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي، وكان الدافعوراء هذا البيان المشترك، هو الأزمات المزدوجة التي شملتأوكرانيا وتايوان، والتي فسرتها روسيا والصين على أنهامدفوعة بسياسات الولايات المتحدة.
لقد أدركت كل من روسيا والصين الدور الذي تؤديه مجموعةالبريكس في تعزيز التعاون الموسع في ثلاث مجالاترئيسة؛ السياسة والأمن، والاقتصاد والتمويل، والتبادلاتالإنسانية، ولكن البريكس كانت محدودة من حيث نطاق مايمكنها إنجازه وحجمه، سواء من حيث النطاق العالمي، أوالقدرة التنظيمية. ومن أجل وضع المجموعة في موضعيسمح لها بتغيير قواعد اللعبة على الساحة العالمية، لا بدمن بذل جهد طويل، دون وجود جدول زمني قصير الأمد؛ ومن ثم انصبت جهود تحالف مجموعة البريكس لتحديالهيمنة الغربية من خلال الضغط لإصلاح الحوكمة العالمية، وإنشاء مؤسسات مصغرة موازية للتنافس مع المؤسساتالقائمة، ومنافسة دور الدولار، والسعي إلى الحد منسيطرة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي. غير أنالمجموعة حصدت نجاحًا في رمزيتها أكثر من جوهرها؛ حيث كان التكتل أقل نجاحًا في تطلعاته إلى إنشاء عملةاحتياطية عالمية من شأنها أن تقلل من الاعتماد العالميعلى الدولار الأمريكي، وربما تحل محله في نهاية المطاف.
وخلال قمة العام الماضي، تعهد أعضاء المجموعة بدراسةجدوى إنشاء عملة مشتركة، لكن جهود إزالة الدولرة هذهتواجه طريقًا شاقًا بسبب الدور الراسخ الذي يضطلع بهالدولار في المعاملات عبر الحدود، وتبادل العملات، وأسواقالسلع الأساسية، وتصنيف الديون، والافتقار إلى البنيةالأساسية المالية لتسهيل المعاملات غير المقومة بالدولار بينالبنوك المركزية في مجموعة البريكس، واستمرار القيودالمفروضة على قابلية تحويل العملة الصينية. وبناءً على ذلك، ركزت دول المجموعة على الآليات اللازمة لتسهيل التجارةوالاستثمار بالعملات المحلية، فضلًا عن تنويع احتياطاتهامن العملات.
ويضاف إلى ما سبق تحدٍّ آخر يرتبط بتحويل مجموعة“البريكس بلس” العالم إلى كتل متنافسة، وذلك في إطارتكثيف الصراع الجيوسياسي بين الشرق والغرب وتناميالاغتراب المتبادل بين الشمال والجنوب. ووفقًا لهذه القراءة، فإن بكين وموسكو عازمتان على استغلال استياء بعضالدول من الولايات المتحدة وحلفائها لتعزيز ثقل موازنمناهض للغرب، وهي العملية التي من المرجح أن تعرقلالتعاون العالمي داخل المنظمات المتعددة الأطراف.
مع انضمام أعضاء جدد إلى مجموعة البريكس، ستصبحمجموعة القوى الناشئة أكثر تمثيلًا على المستوى العالمي، ولكنها في المقابل ستواجه مزيدًا من الانقسامات الداخلية، وأيًّا ما كانت الإحباطات المشتركة التي قد تعبر عنهاالمجموعة إزاء عدم المساواة في النظام العالمي المعاصر، فقد يؤدي التباين السياسي والإستراتيجي والاقتصاديلتحالف البريكس، والتنافسات الجيوسياسية داخلالمجموعة نفسها، إلى إضعاف تماسكها وتقييد تأثيرهاالدبلوماسي، وتتضح أبرز تلك التباينات فيما يلي:
تأتي القمة السادسة عشرة للبريكس، التي تعد أكبر تجمعلزعماء العالم في روسيا منذ عقود، بين الصراع المحتدم بينروسيا وأوكرانيا، وحرب إسرائيل على غزة ولبنان، وفي هذاالسياق، ركز البيان الختامي لقمة قازان على الحاجة الملحةإلى وقف شامل لإطلاق النار في غزة، والإفراج غيرالمشروط عن الرهائن، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وإنهاء جميع الأعمال العدوانية، وأدان القادة الخسائر فيصفوف المدنيين، والاعتداءات المتكررة على موظفي الأممالمتحدة، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتيةنتيجة للأعمال الإسرائيلية في لبنان، مع تأكيد ضرورة وقففوري للأعمال العدائية من جانب إسرائيل.
ودعا البيان أيضًا –بعد مناقشات مطولة استمرت أكثر منأربع ساعات– إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدوليلعامي 2023 و2024، مشيدًا بجهود مصر وقطر، والمبادرات الإقليمية الأخرى الرامية إلى وقف القتال، وتسريع توصيل المساعدات الإنسانية، مع تأكيد ضرورةانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة. وفي نقطة لافتة للنظرأُدين قصف السفارة الإيرانية في دمشق في أبريل(نيسان) الماضي، وأن هذه الإجراءات تعد انتهاكات خطيرةللقانون الدولي.
ولكن في إعلان قازان المكون من 43 صفحة، لم يأتِ ذكرأوكرانيا إلا مرة واحدة، حيث أكد الرئيس الصيني –الحليفالرئيس لبوتين– ضرورة منع مزيد من التصعيد في أوكرانيا، وأهمية الالتزام بعدم تسرب الصراع من ساحة المعركة، وعدم تصعيد القتال من جانب الأطراف المعنية، بهدفتخفيف حدة الوضع في أقرب وقت ممكن، ومن بين أعضاءمجموعة البريكس، كانت الدعوات إلى إنهاء الحرب فيأوكرانيا حذرة وفاترة، حيث لم تنتقد دولة سوى البرازيل غزوموسكو لكييف –بشكل مباشر– ووصفته بأنه غير مقبول، مايشير إلى أن هناك تحفظات من الجانب الروسي علىمناقشة تطورات الحرب الدائرة مع أوكرانيا خلال قمةالبريكس هذا العام.
الخاتمة
في الظاهر، تعد “البريكس بلس” كتلة اقتصادية كبيرة، تضم نصف سكان العالم، و40٪ من تجارته، و40٪ منإنتاج النفط الخام والصادرات؛ ما يجعلها قادرة علىاستخدام هذا النفوذ ليس فقط للمطالبة بنظام دولي أكثرإنصافًا، بل أيضًا للعمل على تحقيق هذه الطموحات، غيرأن تطوير أجندة متماسكة وإيجابية لإصلاح النظامالعالمي، وتعزيز التعاون الدولي، أكثر صعوبة مع إضافةالتحالف مزيدًا من البلدان ذات المؤسسات السياسية، والنماذج الاقتصادية، والأنظمة الثقافية، والمصالح الوطنيةالمختلفة.
وبينما قد تكون هناك قوة في زيادة أعداد المنضمين إلىالتحالف، فإن هناك في المقابل نقاط ضعف واضحة؛ فالقبول المحتمل لعشرات البلدان المتنوعة من شأنه أن يعقد–حتمًا– عملية بناء الإجماع واتخاذ القرار، ويعيد إنتاجالخلل، ويكرر كثيرًا من الوظائف التي كانت تتمتع بهاالتجمعات المتعددة الأطراف، مثل حركة عدم الانحياز، أومجموعة 77، ويتضاعف هذا الخطر بسبب فشل أعضاءمجموعة البريكس الأصليين في توضيح إستراتيجيتهم نحوالتوسع، وفي غياب أجندة مفصلة وإيجابية للإصلاحالمؤسسي العالمي لتوجيه العمل الجماعي، تخاطر مجموعة“البريكس بلس” بإضعاف تماسكها الضئيل بالفعل؛ ومنثم يقيد تطلعاتها إلى التحدث باسم الجنوب العالمي، مايزيد إضعاف تأثيرها في النظام العالمي المنشود.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.