أبحاث ودراساتبريكس بلس

كيف ينعكس انضمام مصر وإيران إلى البريكس على مستقبل العلاقة بين البلدين؟


  • 6 يناير 2024

شارك الموضوع

المقدمة

إن مسألة إحياء العلاقات بين إيران ومصر ليست فكرة جديدة، إذ جرت محاولات مماثلة خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنها لم تكن ناجحة بالقدر الكافي لإرساء علاقات وثيقة بين البلدين تمحو خلافات جوهرية منذ الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979، ومع ذلك، فإن الجهود المبذولة في الوقت الراهن لتعزيز التقارب بين القاهرة وطهران تتسم بحالة استثنائية لم تشهدها العقود الماضية.

فما يميز هذه الجهود اليوم هي الديناميكيات الإقليمية والعالمية المتغيرة، إذ شكل التقارب بين السعودية وإيران آثارًا إيجابية في جميع أنحاء المنطقة، وخلق أجواء مناسبة لخفض التصعيد بين إيران ودول المنطقة الممتد إلى أكثر من ثلاثة عقود؛ ومن ثم فإن التقارب بين السعودية وإيران سيقلل أي معارضة من دول الخليج لقرار القاهرة تعزيز علاقاتها مع طهران. ورغم ترحيب مصر بمستوى التقارب السعودي الإيراني، فإنها لا تزال تعمل على تقييم تأثير هذا التطور في موقف إيران من مختلف القضايا الإقليمية.

وفي ضوء الإشارات المتبادلة عن تطوير العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران خلال الأشهر القليلة الماضية، جاءت دعوة البلدين أخيرًا إلى عضوية بريكس، لتثير تساؤلًا عن الأثر الجيوسياسي لتوسيع ذلك التجمع الاقتصادي على مسار التقارب بين الدولتين؛ ما يطرح بدوره سيناريوهات متباينة بشأن مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين خلال الفترة المقبلة، تسعى هذه الورقة إلى تحليل دلائلها.

سياق عضوية مصر وإيران في مجموعة بريكس

أُنشئت مجموعة بريك بأربعة أعضاء هم (الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل ) في عام 2009، ثم انضمت إليها جنوب إفريقيا عام 2010 لتشكل تكتل البريكس، لتضم بذلك اقتصادات من أربع قارات متنوعة من حيث الأداء الاقتصادي، والاتجاهات الجيوسياسية، إذ تعد الصين هي الاقتصاد الأكبر، تليها الهند، وروسيا، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، وتمثل بريكس 25.6 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ونحو 42 % من سكان العالم، وأكثر من 16 % من التجارة العالمية، وانطلاقًا من هذا تسعى الدول الأعضاء إلى عصر جديد للتنمية العالمية.

ولتحقيق هذا الهدف، تبنت دول بريكس خطة لتوسيع المجموعة وفق آليات محددة خلال قمة 2017، وتطرقت قمة يونيو 2022- بإصرار أكبر- إلى مسألة توسيع عضوية التكتل، إذ تحاول بكين توسيع قاعدة هذا التكتل الاقتصادي، من خلال توجيه الدعوة إلى عدة دول، من بينها المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، وإيران؛ للانضمام إلى مجموعة بريكس، حيث كانت نقطة التركيز الرئيسة هي تأكيد دعم توسيع وتعزيز مشاركة الأسواق الناشئة والبلدان النامية.

لا يمكن النظر إلى التوجه نحو توسعة بريكس بمعزلٍ عن التطورات الجارية على الساحة الدولية، وأبرزها مواجهة الولايات المتحدة التحولات التي تقودها الصين وروسيا لإحداث تغيير في هيكل القوة الدولية في العالم، لا سيما بعد التصعيد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي، والأزمة الأوكرانية، والمواقف المعارضة لبعض الدول للإدارة الأمريكية، وإظهار بعض التحدي لسياساتها، مثل الرفض الخليجي للتأثير في أسواق الطاقة، وهو ما تحاول الصين وروسيا استغلاله لإضعاف الهيمنة الأمريكية في المنطقة.

ومن ثم جاء قرار قبول عضوية مصر وإيران، فضلًا عن السعودية، والإمارات، وإثيوبيا، والأرجنتين، للانضمام إلى تجمع الاقتصادات الناشئة، خلال قمتهم السنوية في جنوب إفريقيا أغسطس 2023، وبالفعل، مع اليوم الأول من العام الجديد 2024، بدأت خمس دول انضمامها رسميًّا إلى مجموعة بريكس، حيث رفضت الأرجنتين الدعوة إلى الانضمام بعد أن تراجع الرئيس الجديد، خافيير مايلي، الذي تولى منصبه الشهر المنصرم، عن طلب العضوية الذي تقدم به سلفه، معللًا ذلك بأن السياسة الخارجية لحكومته الجديدة تختلف في نواحٍ كثيرة عن سياسة الحكومة السابقة.

وفي ضوء هذا، تتيح توسعة المجموعة على ذلك النحو قوة دفع كبيرة لتحقيق هدفها من إحداث التوازن على الصعيد الاقتصادي، لا سيما بالنظر إلى ما تزخر به الدول الجديدة من مقومات، فبعد أن كانت نسبة مساهمة مجموعة بريكس في الاقتصاد العالمي 25.6 %، سترتفع إلى 28.8 % بعد انضمام الأعضاء الجدد، كما أن انضمام دول نفطية، على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات، في ظل وجود روسيا، يمثل فرصة كبيرة لزيادة احتياطي المجموعة من النفط، فضلًا عن أن التكتل بانضمام دول جديدة، منها إثيوبيا، وإيران، ومصر، سيرتفع عدد سكانه ليمثل نسبة كبيرة من سكان العالم، ومن ثم يصبح أكثر تأثيرًا، وسيكون بهذا أكبر منافس لمجموعة السبع.

ماذا يعني دخول مصر البريكس؟

يعد قبول انضمام مصر إلى مجموعة بريكس دليلًا على أهمية مصر بوصفها دولة محورية فى الشرق الأوسط، إذ إنها البوابة الرئيسة للقارة الإفريقية، في حين تستهدف مصر من خلال انضمامها إلى بريكس تعزيز ارتباطها بالتكتلات الدولية لتعظيم منافعها الاقتصادية والسياسية الممكنة، دون الإخلال بتوازن علاقاتها الخارجية مع كل الأطراف الدولية الفاعلة، ومن هذا ستحظى مصر بعدد من الفوائد الاقتصادية من انضمامها للتكتل، تتمثل أبرزها في:

1- ارتفاع حجم التبادل التجارى؛ حيث تتمتع مصر بحجم كبير من التجارة مع أعضاء مجموعة بريكس، وخاصة روسيا، والصين، والهند، ومع اقتصادها النامي، تستطيع مصر توسيع صادراتها إلى هذه البلدان، مع الاستفادة من الاتفاقيات التجارية، مثل السوق المشتركة للجنوب (ميركوسور)، لتصبح مركزًا يربط إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.

2- زيادة الاستثمارات الواردة إلى مصر؛ إذ يتطلع الاقتصاد المصرى إلى جذب عدد كبير من المشروعات المستقبلية، خاصة مشروعات الرقمنة، والتنمية الزراعية، والاستثمارات البيئية الخضراء، والبنية التحتية، كذلك مشروعات الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، إذ يسمح الوجود الرسمى فى البريكس بدفع مزيد من الاستثمارات في تلك المجالات التنموية المهمة،  فضلًا عن تبادل الخبرات والكفاءات- مباشرة- بين الدول الأعضاء، خاصة تلك الخبرات المتعلقة بالصناعة والتكنولوجيا.

3- دعم قيمة الجنيه المصرى، وتخفيف الضغط على الاحتياطي الأجنبي؛ في ظل اتجاه البريكس نحو دعم العملات المحلية للدول الأعضاء، في محاولة مبدئية لإنشاء وحدة حساب أو عملة موحدة خاصة بدول التكتل، فقد تستفيد مصر من دخولها البريكس عن طريق دعم الجنيه المصري في العلاقات التجارية، وهذا سوف يخفف من زيادة الطلب على الدولار؛ ومن ثم لا تلجأ إلى مزيد من خفض قيمة الجنيه، أو زيادة سعر الدولار للاستيراد.

4- تأمين احتياجات مصر من السلع الإستراتيجية، مثل الحبوب كالقمح والأرز، خاصة أن هذا التكتل يستحوذ على حصة كبيرة من الاقتصاد العالمي في تجارة الحبوب، خاصة في دولتي الهند وروسيا، وسبق أن ناقشت مصر وروسيا والهند تداول القمح والأرز، إلى جانب سلع إستراتيجية أخرى، بالجنيه المصري، والروبل، والروبية، ومن خلال الانضمام إلى مجموعة البريكس، يمكن أن تؤتي هذه المحادثات ثمارها.

فضلًا عن المكتسبات الاقتصادية، تسعى القاهرة إلى تعزيز علاقاتها الثقافية مع عدد من الدول الأعضاء في البريكس من خلال مجموعة  من الخطوات، منها تدشين كثير من المراكز الثقافية، مثل المكتب الثقافي المصري في الصين الذي يعمل على الترويج للعلاقات المصرية- الصينية، وفي المقابل أُنشئ كثير من المراكز الثقافية في مصر من جانب دول البريكس، فعلى سبيل المثال، أُقيم المركز الثقافي الهندي في القاهرة؛ من أجل توسيع نطاق عرض الثقافة الهندية في مصر.

كما وُقِّعَت اتفاقيات تعاون بين مؤسسات ثقافية مصرية، ومؤسسات ثقافية في دول البريكس، فعلى سبيل المثال، وقعت مكتبة الإسكندرية، في مايو 2023، اتفاقية تعاون مع معهد الشارقة للتراث في الإمارات؛ لتعزيز التعاون الثقافي، وتبادل الخبرات بين الطرفين، فضلًا عن اختتام عام التبادل الإنساني المصري- الروسي في سبتمبر 2023، الذي ‏انطلق من دار الأوبرا المصرية، في القاهرة، حيث أعدت وزارة الثقافة، بالتعاون مع وزارة ‏الخارجية، ووزارة الثقافة الروسية، سلسلة من الفعاليات ضمت أكثر من 100 فعالية ‏ثقافية وفنية، شارك فيها جميع قطاعات وزارة الثقافة وهيئاتها، ‏على مدار عام كامل.

وفي إطار اهتمام الخارجية المصرية بالدبلوماسية الثقافية، وقعت وزارة الثقافة المصرية مذكرة تفاهم مع السعودية لدعم التعاون في مجال الثقافة وحفظ التراث في ديسمبر 2022، كما افتتحت وزيرة الثقافة المصرية، ونظيرها الصيني، في أبريل 2023، معرض التقاء الفنانين في طريق الحرير بقصر الفنون في مصر، واتفقت القاهرة أيضًا على إقامة الموسم الثقافي الجنوب إفريقي الأول، الذي يضم مجموعة من الفعاليات، ما بين معارض للكتب والحرف والمشغولات اليدوية، وورش عمل مشتركة بين فرق مصرية وجنوب إفريقية في مجال الفنون.

ومن هذا يمكن القول إن إستراتيجية الدولة المصرية لا تستهدف تحقيق منفعة اقتصادية فقط من الانضمام إلى تكتل البريكس؛ ولكنها تستند أيضًا إلى محورية الأبعاد الأخرى لهذا التكتل، على غرار تعزيز التعاون مع دولها في مجالات السياحة والثقافة، سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي، حيث يرتكز التصور المقترح لتعزيز سبل الاستفادة من الانضمام إلى التكتل على وجود تكامل بين أبعاده الاقتصادية، والثقافية، والسياحية، والسياسية.

مكتسبات إيران من البريكس

تنظر إيران إلى أن الانضمام إلى البريكس يساعدها على تحقيق أهدافها في التحول إلى فاعل محوري في المعادلة الإقليمية والدولية، إذ قدم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بلاده على أنها ممر للربط بين دول مجموعة البريكس وممرات الطاقة والأسواق الدولية، ضمن مبادرة الصين “حزام واحد.. طريق واحد”؛ ما يسهل حركة التجارة بين بكين وموسكو، اللتين تربطهما اتفاقيات إستراتيجية طويلة المدى مع طهران، وهو ما يمثل إنجازًا مهمًّا لحكومة رئيسي، ولبرنامجها في تعزيز تحالفاتها على الساحة الدولية، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الإيرانية الجديدة، العام المقبل.

ومن أبرز المكتسبات المتوقعة لإيران نتيجة انضمامها إلى هذا التكتل، أن تصبح مجموعة البريكس تكتلًا للقوى المناهضة للولايات المتحدة، إذ ستعزز عضويتها موقفها على طاولة المفاوضات في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، لا سيما أن المنطقة اليوم تمر بتغييرات سياسية واقتصادية غير مسبوقة، بل تتجه نحو التعددية القطبية.

بالإضافة إلى هذا، فإن تلك الخطوة ستفتح لإيران آفاقًا جديدة على المستويات كافة، خاصة المستوى الاقتصادي، حيث إن عضوية إيران في التكتل ستفتح أمامها أسواقًا حيوية تسهم في إنعاش الاقتصاد الإيراني، حيث تهدف طهران أن تكون مورد الطاقة الرئيس لدول البريكس؛ وذلك باستغلال احتلالها المركز الثالث في قائمة أكبر 10 دول منتجة للغاز الطبيعي باحتياطي يقدر بأكثر من 33 تريليون متر مكعب، و154 مليار برميل قابلة للاستخراج، وقدرة إنتاجية للنفط الخام تبلغ 3 ملايين و800 ألف برميل يوميًّا، ما يعد فرصة للتحايل على العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على طهران.

كذلك فإن الفرصة الأبرز لإيران هي استغلال جنوب إفريقيا كمنفذ جديد للتعاون المشترك، والخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها، وإرساء نفوذ أكبر في القارة الإفريقية، لتصبح جنوب إفريقيا أحد الحلفاء والأصدقاء المقربين من الجمهورية الإسلامية الإيرانية في القارة، لا سيما أن الأسواق الإفريقية تضم نحو 14 دولة عضوًا في مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية SADC، التي تتميز بكثافة سكانية تبلغ نحو 300 مليون نسمة، ووسائل نقل متنوعة، ومشروعات سكك حديدية تسهل صعوبات النقل الإفريقية، كما أنها تتمتع بموقع جغرافي متميز، وأهمية إستراتيجية كبيرة، وحاليًا تستحوذ جنوب إفريقيا على 53% من تجارة المجموعة، غير أن هذا لا يعني أن التحالف بين الدولتين ينحصر في الصعيد الاقتصادي فحسب، بل تعمل إيران على تغذية الجوانب الفكرية والثقافية بين البلدين.

مستقبل العلاقات بين مصر وإيران بعد البريكس

قطع البلدان العلاقات الدبلوماسية بينهما منذ عام 1979، قبل أن تُستأنف- بشكل حذر- من جديد بعد ذلك بـ11 عامًا، لكن على مستوى القائم بالأعمال، ومكاتب المصالح، غير أن الأشهر القليلة الماضية شهدت لقاءات بين وزراء مصريين وإيرانيين في مناسبات عدة؛ لبحث إمكانية تطوير العلاقات بين البلدين، ما يستدعي طرح عدد من السيناريوهات لاستشراف مستقبل العلاقة بين مصر وإيران، تتمثل تلك السيناريوهات فيما يلي:

السيناريو الأول: تعزيز العلاقة بين إيران ومصر

شهد العامان الماضيان حالة من التقارب بين مصر وإيران، دلل على هذا زيادة اللقاءات بين مسؤولي البلدين، والتصريحات الرسمية التي تؤكد الرغبة المشتركة في بناء علاقات طبيعية تقوم على مبادئ المصلحة المتبادلة، واحترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، كان أبرزها توجيه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وزارة الخارجية الإيرانية، في نهاية مايو المنصرم، باتخاذ الإجراءات اللازمة لتعزيز العلاقات مع مصر، حيث أعلنت الخارجية الإيرانية حينئذ أن الحكومة مستعدة لتطوير العلاقات مع مصر، عقب تصريحات للمرشد علي خامنئي، أعرب خلالها عن ترحيبه باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع مصر.

كما أكد خامنئي خلال لقاء مع سلطان عمان هيثم بن طارق، في نهاية يونيو الماضي، استعداد بلاده لاستئناف العلاقات مع مصر. في مقابل هذا، صرح المتحدث باسم الخارجية المصرية، السفير أحمد أبو زيد، أن مصر حريصة أن يكون التفاعل الإيراني مع الإقليم تفاعلًا إيجابيًّا يحترم سيادة الدول وإرادة الشعوب، وعدم التدخل في الشأن الداخلي لهذه الشعوب، ويعزز استقرار الإقليم.

كانت هذه التصريحات المتبادلة بين الطرفين بشأن الاستعداد لعودة العلاقات بين البلدين نتيجة المحادثات بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية الإيراني في مؤتمر دولي في بغداد، في أغسطس 2021، واجتماع بين رئيس المخابرات المصرية ونائب الرئيس الإيراني في نوفمبر 2022، وبعد زيارة سلطان عمان، هيثم بن طارق، مصر، وإيران، تباعًا، في مايو (أيار) الماضي، تحدثت تقارير عن وساطة قادها سلطان عمان في إطار الملف نفسه، ولقاء الرئيس المصري ونظيره الإيراني في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي- للمرة الأولى- على هامش القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية في الرياض؛ ما يرجح السير في خطوات جادة رسميًّا نحو علاقات أكثر تطورًا وانفتاحًا متبادلًا بين البلدين.

يدلل على هذا السيناريو ليس فقط التصريحات واللقاءات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، بل إن الملفات المشتركة تحفز عودة العلاقات الدبلوماسية من جديد، خاصة بعد عملية طوفان الأقصى، ودور مصر وإيران المحوري في التطورات الجارية، وموقف كلا البلدين من الفصائل الفلسطينية، وهو ما يعني أنه لا يمكن ضمان حل شامل للقضية الفلسطينية دون دور القاهرة وطهران؛ لذا منذ أكتوبر الماضي، يناقش الرئيسان المصري والإيراني- باستمرار- أحدث التطورات في حرب غزة، ويبرهن هذا على أن كل مؤشرات التقارب السابق تناولها، سيعزز من زخمها انضمام مصر وإيران إلى البريكس، حيث إن هذا التحالف الاقتصادي سيؤدي- بطبيعة الحال- إلى تحالف جيوسياسي يحقق مصالح الطرفين خلال الشهور المقبلة.

السيناريو الثاني: توتر العلاقات بين مصر وإيران

يستند هذا السيناريو إلى جذور العلاقة المتوترة منذ عقود بين القاهرة وطهران، حيث عرفت العلاقات بين الدولتين توترًا بعد اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، عندما استقبلت مصر شاه إيران محمد رضا بهلوي، ووفرت له الحماية بعد الإطاحة به في احتجاجات شعبية، وهو ما اعتبرته السلطة الجديدة الحاكمة في طهران تصرفًا معاديًا، لتقرر بناءً على ذلك قطع العلاقات مع مصر، وبعد ذلك، أدى اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل إلى توسيع الفجوة بين القاهرة وطهران، وفي المقابل، اعتبرت مصر أن إيران تُشكل تهديدًا لأمنها الإقليمي، لا سيما بعد أن رفعت طهران شعار تصدير الثورة، وما زاد حالة العداء بين البلدين وقوف مصر بقوة إلى جانب العراق في حربه ضد إيران التي استمرت من عام 1980 حتى 1988، واستمرت الاختلافات في الرؤى والسياسات؛ ما خلق حالة من التباعد والتصعيد بين البلدين قد تزداد حدتها في ظل الصراع على النفوذ في المنطقة.

والآن، وفي ظل التطورات الجارية على الساحة الإقليمية والدولية، يعزز حدوث هذا السيناريو، واستمرار توتر العلاقات بين طهران والقاهرة، عدد من الدلائل، تتمثل في:

1- موقف مصر الحذر تجاه دور إيران ونفوذها الإقليمي، وتعتبره تهديدًا محتملًا لمصالحها الإقليمية، في ظل طموح مصر في الحفاظ على مكانتها بوصفها قوة إقليمية، وهو ما قد يسبب التوتر مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، وخاصة إيران وتركيا.

2- تشكل علاقات إيران القوية مع الفصائل الفلسطينية عقبة محتملة أمام تعزيز العلاقات مع القاهرة، وقد تنخرط كل من مصر وإيران في صراع على السلطة لممارسة النفوذ على هذه الفصائل، مسترشدة بمصالحها، وأجندتها الخاصة.

3- المواقف المتضاربة لكلا البلدين بشأن علاقاتهما مع إسرائيل والولايات المتحدة؛ ما يشكل عقبة حاسمة في طريق تعزيز العلاقات، وبينما يتمتع السيسي في مصر بعلاقات قوية مع تل أبيب، تظل إيران عدوًا رئيسًا لإسرائيل، ويثير هذا التنافر مخاوف بشأن قدرة مصر على تحقيق التوازن الفعال في علاقاتها مع طهران وتل أبيب، فضلًا عن أن علاقة مصر الإستراتيجية مع الولايات المتحدة قد تعوق قدرة البلاد على تطوير علاقات قوية مع إيران، حيث تظل طهران خصمًا قويًّا لواشنطن.

4- هناك دلائل تشير إلى أن محادثات فيينا بشأن القضية النووية الإيرانية قد تنتهي قريبًا، وستُحدَّد مواقف مصر بناء على طبيعة هذا الاتفاق، سواء كان يشمل قضية الصواريخ الباليستية الإيرانية والسلوك الإقليمي أم لا، ما يمثل تحديًا جديدًا أمام العلاقات بين القاهرة وطهران.

5- تشعر إيران بالقلق إزاء علاقات مصر مع العراق، وسوريا، ولبنان، ومع أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أعلن أن إيران ترحب بمشروع الشراكة بين العراق والأردن ومصر، فإن طهران ترى في الداخل أن هذه العلاقات الثلاثية مصدر تهديد وخطورة لعلاقاتها مع العراق، وتعترف إيران أيضًا بأن أي تقارب بين مصر وسوريا سيؤثر- بطريقة أو بأخرى- في العلاقات بين طهران ودمشق.

السيناريو الثالث: التقارب المشروط

رأت إيران أن لقاء وزيري الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان والمصري سامح شكري في نيويورك، في سبتمبر المنصرم، فتح أفقًا جديدًا في مسار العلاقات بين البلدين، ورأته يمثل تطورًا جديدًا في العلاقات بين البلدين، وفي إطار الاتجاه الإيجابي للعلاقات الإقليمية بين إيران وجيرانها، فيما صرحت مصر أن اللقاء ناقش العلاقات الثنائية والضوابط التي تحكمها، ما يشير إلى أن مصر تقابل الحماسة الإيرانية لعودة العلاقات الثنائية بشروط تقيد التقارب مع طهران، وتحكمه وفق الرؤية المصرية للأمن القومي، ومبادئ الاحترام المتبادل، وحسن الجوار، والتعاون، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

فعلى صعيد السياحة، هناك فرصة لتوسيع السياحة الدينية إلى المواقع الأثرية الشيعية، في حين أنه في المجال الأمني، تبحث مصر عن مساعدة إيران لمنع أنشطة الحوثيين على طول مضيق باب المندب، وضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر، خاصة عبر قناة السويس. وفي المقابل، فيما يتعلق بإيران، فإن تحسين علاقاتها مع العالم العربي يمثل فرصة للتعامل مع التطورات الإقليمية؛ فمن خلال تحسين علاقاتها مع مصر، يمكن لإيران توفير سبل لتوسيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية في المنطقة، ويخدم هذا إستراتيجية اقتصاد المقاومة التي تتبعها إيران، والتي تهدف إلى تعزيز قدرة البلاد على الصمود في مواجهة العقوبات الدولية، من خلال تعزيز التجارة مع الأسواق الإقليمية؛ ومن ثم ستحكم المصالح الجيوسياسية التقارب المشروط بين مصر وإيران خلال الفترة المقبلة.

 فلا تعني عودة العلاقات- بالضرورة- إزالة أو حل جميع الخلافات بينهما، بل تعني التعاون العملي في السعي إلى تحقيق المصالح المشتركة، الثنائية والإقليمية، فوفقًا للسياسة الخارجية المصرية تؤدي الاعتبارات الاقتصادية دورًا مهمًّا في تشكيل سياستها تجاه إيران، حيث تسعى القاهرة إلى زيادة مبيعات بضائعها في السوق الإيرانية، كما يمكن لمصر تسلُّم بعض السلع الاستهلاكية في ظل ظروف الحظر الإيراني بشروط مناسبة، وطويلة الأجل.

الخاتمة

مما سبق، يمكن القول إن السيناريو الأكثر ترجيحًا لمستقبل العلاقة بين إيران ومصر هو السيناريو الثالث، حيث تتبنى كلا البلدين تقاربًا مشروطًا وحذرًا، وفقًا لمعطيات أهمها أن هناك حاجة مشتركة  إلى التعاون بين البلدين في جملة من القضايا الإقليمية، إذ تكمن الأولوية لمصر في اختبار ما إذا كانت إيران مستعدة لإحداث تحول في سياستها باتجاه يدعم استقرار المنطقة، ويسهم في تسوية الأزمات الإقليمية، خاصة الأزمة في اليمن، فضلًا عن أن تعزيز العلاقات بين إيران ومصر على المستوى الإقليمي سيكون له تأثير مباشر في أمن دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تحتاج منطقة الخليج العربي- في الوقت الراهن- إلى وقف التصعيد، وإلى الاستقرار الأمني، أكثر من أي شيء آخر.

كما كان للحرب الروسية الأوكرانية، ونفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تأثير محوري في التطورات الإقليمية، يمكن أن يجعل مصر وإيران أقرب إلى تعزيز العلاقات بينهما أكثر من أي وقت مضى؛ لأن كلا البلدين يتمتع بعلاقات قوية مع روسيا والصين، مما يوفر إمكانية تحقيق فوائد سياسية، واقتصادية، وجيوإستراتيجية كبيرة لكلا البلدين. بالإضافة إلى ذلك، يستغل البلدان التنافس بين الولايات المتحدة والصين لتعزيز أجندتهما الإقليمية، فتعمل مصر على تعزيز علاقاتها مع موسكو، في حين تستخدم إيران علاقاتها مع موسكو وبكين لتخفيف تأثير العقوبات الأمريكية، وتجنب العزلة.

محصلة القول أنه لا يمكن الجزم بمدى نجاح التقارب بين مصر وإيران في المستقبل القريب، إذ يستغرق الأمر بعض الوقت لمعرفة ما إذا كان نهج التقارب الجديد سينجح كما تتصور القاهرة وطهران، لكن تجربة العقود الماضية تظهر أن المواجهة لم تنجح، بل أدت- في واقع الأمر- إلى تغذية عدم الاستقرار السياسي، والتراجع الاقتصادي، غير أن تجربة الانضمام إلى تكتل البريكس قد تخلق فرصة جديدة للتقارب المشروط بين البلدين، يجب استغلالها بما يحقق المصلحة المشتركة لمصر وإيران.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع