تضم موسكو وروسيا آلاف التماثيل والمنحوتات والنصب التذكارية. وقد اخترت بعضًا مما صادفته في طريق تجوالي في المدينة.
1- طويل الباع.. مؤسس موسكو!
تحتفل موسكو في 5 سبتمبر (أيلول) من كل عام بذكرى تأسيس المدينة التي ظهرت على خريطة الدنيا قبل نحو 9 قرون.
تبدأ القصة في عام 1108 بإرسال الأمير الروسي فلاديمير مونوماخ زعيم إمارة “روسيا كييف” (نسبة إلى مدينة كييف في أوكرانيا) ابنه يوري (يعرف أيضًا باسم غيورغي أو ديورغي ) لبسط نفوذ الإمارة على القطاع الشمالي الشرقي.
اتخذ يوري من بلدة سوزدال مقرًا لحكمه، وشيد عددًا من القلاع حولها، وكان من بين القلاع حصن خشبي إلى الجنوب الغربي من سوزدال بنحو 200 كم، في موقع اسمه “موسكو”، أسسه يوري عام 1147، ومن هنا سيذكر اسم يوري باعتباره مؤسس مدينة موسكو، بسبب تأسيسه هذا الحصن الخشبي الصغير.
ظلت أعين يوري متعلقة بالعاصمة الكبرى في كييف، حيث مقر حكم إمارة “روسيا كييف”، وشن حربًا من موقعه البعيد القاصي في شمال شرق البلاد- حيث الحصن الخشبي- للفوز بكييف، وتحقق له ما أراد فعليًّا، ومن هنا استمد اسمه في التاريخ بلقب يوري “طويل الباع”، أو طويل الذراع Долгорукий، حيث تمكن من موقع جغرافي بعيد في شمال شرق البلاد أن يخضع المركز لسيطرته. وتجدون صورته في الصورة المرفقة للتمثال من وسط العاصمة موسكو. وعلى سبيل الدعابة يمكن أن نسميه بالعامية المصرية “أبو دراع”.
2- التاجر مينين والمقاتل بوچارسكي
هذا تمثال شهير يغفل عنه الزائرون إلى الكرملين. تخطفهم الألوان الحمراء فينسون هذا التمثال البرونزي، البليغ في دلالته، المهم في مغزاه ومرماه.
والزائرون معذورون في هذا النسيان، فاللون الأحمر ساحر وسط الأبيض الثلجي. وقد قيل إن الميدان الأحمر ترجمة خاطئة؛ لأن الأصل هو “الميدان الجميل”، أو الميدان “البهي”، أو “البديع”.
تتألف عناصر هذا التمثال البرونزي- كما نرى- من مقاتل يجلس مهمومًا منهكًا يحمل سيفًا ودرعًا، لا شك أنه محارب وقائد عسكري، نعرف من التاريخ أن اسمه “بوچارسكي”، وكان أحد أمراء روسيا في مطلع القرن السابع عشر.
أما الرجل الواثق الواقف بجواره فيشير بذراعه في الفضاء المجهول، وهو رجل مدني يعمل بالتجارة، يُدعَى “مينين”.
تعود القصة إلى عام 1612 حين وقعت روسيا في حرب أهلية، وتناحر قادتها على السلطة. وخلال هذه الفترة الفوضوية من تاريخ البلاد، طمع في عرش الكرملين كل زائف وعميل، وهو ما سمح لاتحاد عسكري من بولندا وليتوانيا، ومدعوم أحيانًا من السويد، باحتلال العاصمة موسكو، وإذلال شعبها.
فشل كل العسكريين الروس في مواجهة الاحتلال، وخارت قوة موسكو بعد أن قُتل ووقع في الأسر كل المبدعين أصحاب الهمم العالية، والطاقة الخلاَّقة. ومن مدينة بعيدة عن موسكو اسمها “نيچني نوفغورد”، انبرى تاجر اسمه “كوزما مينين”، وغيّر تاريخ روسيا إلى الأبد.
جمع “مينين” الأموال من تجار مدينته، واشتروا بها أسلحة من جديد، وجيشوا مدافعين جددًا من المدنيين الذين لم يكن لهم سابق خبرة بالحرب، وأوكلوا الأمر إلى أمير من مدينتهم، يدعى “دميتري بوچارسكي”، للزحف إلى موسكو لطرد الغزاة، وهو ما تحقق في النهاية.
3- غاغارين
يستثمر “مهندسو الوعي الوطني” في روسيا أهم لحظات التاريخ لبث الانتماء في نفوس الأجيال الروسية المتعاقبة. فكما يبدو من الصورة الواقعة في ميدان غاغارين في وسط موسكو، يجسد النصب التذكاري تلك اللحظة التي سجلت فيها روسيا السبق في الوصول إلى الفضاء. يوري غاغارين الذي كان أول إنسان يدور بمركبة فضائية حول الأرض في 12 أبريل (نيسان) 1961، صار رمزًا وأيقونة في روسيا الأمس واليوم. غاغارين مات في مستهل شبابه عن 34 سنة فقط، في حادث تحطم طائرة حربية في مناورة تدريبية.
4- لينين
على مرمى حجر من المكتب الثقافي للسفارة المصرية في روسيا في وسط مدينة موسكو، يقف تمثال لينين محاطًا بنماذج من التكاتف الشعبي حول أهداف روسيا الشيوعية. ينتمي التمثال إلى حقبة انتهت في زمن الاتحاد السوفيتي، لكن روسيا في عهد بوتين تمزج الماضي بالحاضر، وترسل رسالة مفادها أن هذه الدولة تستحضر من الماضي ما يدفعها إلى المستقبل.
روسيا بالطبع لا تفعل مثلما فعلت كثير من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي حطمت تماثيل لينين.
5- ريخاردو زورغي
في حي بوليغيفسكايا في موسكو، زرت تمثال ريخاردو زورغي، الذي ولد عام 1895 وتوفي عام 1944، وعمل ضابطًا للمخابرات الحربية في زمن الاتحاد السوفيتي. قدم زورغي معلومات فائقة الأهمية خلال الحرب العالمية الثانية عن محاور الغزو النازي للاتحاد السوفيتي خلال عمله متنكرًا في وظيفة صحفي في كل من ألمانيا واليابان. المعلومة المحورية التي أسهم بها هي تأكيده من داخل الأراضي اليابانية أن إمبراطور اليابان لن يحرك جيوشه لغزو الأراضي الروسية، فحرك السوفيت آلاف الجنود والمدرعات من جبهة الشرق الأقصى وسيبيريا نحو الضفة الغربية من القتال تجاه هتلر، وهو ما اعتبره المؤرخون نقطة تحول فاصلة في إيقاف الهجوم الشرس لألمانيا، الذي كاد يسقط العاصمة موسكو.
في عام 1964، أي بعد عشرين سنة من وفاته، منحت الدولة زورغي لقب “بطل الاتحاد السوفيتي”. واليوم، وبعد مرور تلك العقود، يبرهن الاهتمام الراقي بالتمثال وتزيين حديقته أن البطل ما زال بطلًا.
6- إيوسوف برودسكي
الصور المرفقة تعبر عن عمل نحتي متقن يجسد الشاعر الروسي “إيوسوف برودسكي”، الحاصل على جائزة نوبل عام 1987، الذي مر بتجربة الاعتقال والنفي والتشريد من وطنه خلال الفترة السوفيتية، وسافر مضطرًا إلى الولايات المتحدة فيما بعد.
في تفسير بعض أصدقائي الروس لما يمثله العمل المرفق يبدو أن النحات أراد أن يقول إن برودسكي كان يمثل مواطنًا عالميًّا وشاعرًا طريدًا لا يكترث لملامح من حوله (وربما كان مترفعًا عنهم )، وكان يخلق لنفسه عالمًا يفكر فيه، بعيدًا عن ضوضاء الوجوه.
7- فاليري تشكالوف
الصورة المرفقة للطيار السوفيتي فاليري تشكالوف Вале́рий Па́влович Чка́лов الذي قام عام 1937 بأول تحليق جوي دون توقف عبر القطب الشمالي من موسكو حتى مدينة فانكوفر (في ولاية واشنطن- شمال غرب الولايات المتحدة). ثلاثة أمور استوقفتي في التمثال هي:
– إبراز اسم الشخصية التي يجسدها التمثال بنحت بارز ضخم عريض، دون أن يشغل عينيك اسم النحات، أو الراعي الرسمي، أو شركة الدعاية التي أنفقت على التمثال.
– خريطة مجسمة لخط سير الطيار في رحلته التي تعد سبقًا في مجال الطيران، والتي استحق بناء عليها لقب بطل الاتحاد السوفيتي، وهذه الخريطة التي نحتت على قاعدة التمثال تراهن على معرفة الناس مبادئ كروية الأرض، وأن الوصول من موسكو إلى الولايات المتحدة لا يمر بالضرورة بخطوط العرض الأفقية المتخيلة على الخرائط المدرسية المبسطة المسطحة.
– القدسية التي تحيط بالتمثال كما يليق برمز وطني جليل، فضلًا عن الحجم الضخم للتمثال؛ مما يمنحه هيبة تليق به.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.