بالتزامن مع الذكرى الـ101 لتأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، تخلص النظام التركي من أكبر تهديد معاصر بعد إعلان وفاة مؤسس حركة الخدمة فتح الله غولن، تحديدًا في 21 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، ولم تخفِ حكومة العدالة والتنمية ارتياحها لوفاة الرجل الذي أثارت علاقته بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان تساؤلات وتكهنات لأكثر من خمسة عقود.
فعلى الرغم من اعتماد أردوغان على الحركات الدينية في إدارة شؤون بلاده، وخاصةً الحركات الصوفية، فإن حركة الخدمة كانت ذات طبيعة خاصة للنظام التركي، فقد تحول غولن من حليف وثيق للرئيس التركي إلى عدو صُنفت حركته على أنها حركة إرهابية بعد اتهامها بالتخطيط لانقلاب يوليو (تمّوز) الدامي؛ ومن ثم فإن وفاة غولن تحمل تساؤلات جوهرية عن تداعياتها على السياسات التركية محليًّا ودوليًّا من جهة، وتداعياتها على مصير الحركة داخليًّا وخارجيًّا، وخليفتها القادم، وتفاعلاتها مع الحقائق الجديدة التي ستثار في حقبة ما بعد غولن من جهة أخرى.
كان فتح الله غولن -الذي ولد عام 1941- إمامًا من منطقة أرضروم المحافظة في شرق تركيا، وقد تحول إلى لاعب رئيس على الساحة السياسية التركية بفضل تطويره الصبور والمنهجي لحركة الخدمة (Hizmet)، بدءًا من ستينيات القرن العشرين حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأصبح الشخصية القيادية في حركة تحظى اليوم بولاء الملايين، ويشار إليها عادة باسم حركة غولن، في حين تُعرف في تركيا باسم منظمة فتح الله غولن الإرهابية.
تأسست هذه المنظمة رسميًّا في سبعينيات القرن العشرين، وهي تنبع من جماعات صوفية إسلامية تقليدية، روجت لمفهوم دمج الإسلام بالقيم الليبرالية، فضلًا عن الديمقراطية والحوار بين الأديان، كما اكتسبت الحركة أرضية في السياسة التركية من خلال شبكة عالمية من المدارس ومراكز البحوث والمنافذ الإعلامية، التي كانت أرضًا خصبة لكوادر حزب العدالة والتنمية في العقد الأول من حكمها، وحظيت الحركة بنفوذ كبير في وسائل الإعلام، والمؤسسات التجارية، ومؤسسات الدولة، كما كانت نشطة جدًّا في الخارج، حيث أدارت مدارس في مواقع مختلفة في العالم، وشكلت عنصرًا مهمًّا من القوة الناعمة التركية لعقود.
وبوصفه رجل دين، أُرسِل غولن إلى مدينة إزمير الساحلية في ستينيات القرن العشرين، وبدأ بتوسيع قاعدته، وخلال هذه الفترة أسس ومول شبكة من الطلاب الذين كانوا نواة الحركة، وتحول من رجل دين في غرب تركيا إلى مؤسس حركة توسعية تدير المدارس والمؤسسات الخيرية والمنظمات الإعلامية. وقد واصل غولن، المعروف بين أتباعه باسم “الواعظ الكبير” بناء قاعدة صلبة من المؤيدين، وتشكيل طائفته وكادرها الأساسي. وبحلول تسعينيات القرن العشرين، بدأ الأعضاء الذين تدربوا في مؤسسات الحركة بالعثور على مناصب في مؤسسات الدولة؛ ما خلق واحدًا من أكبر التحديات في التاريخ السياسي التركي المعاصر.
ورغم مراقبة غولن الدقيقة من جانب المؤسسة العسكرية التركية، أنشأ مدارس في البلدان التركية، والبلقان، وإفريقيا، خاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وبينما كانت مدارسه الخاصة تخرج الآلاف من الطلاب كل عام، تمكنت الحركة أيضًا من السيطرة على شركات في قطاعات مختلفة، منها الأغذية، والصحة، والتعليم، والإعلام؛ وذلك بفضل التبرعات السنوية التي يقدمها أتباعه.
ولكن مع اقتراب نهاية العقد، أعدت أجهزة إنفاذ القانون التركية تقريرًا يكشف عن نفوذ الحركة داخل أجهزة الدولة؛ مما أدى إلى تحقيق من جانب المدعي العام الذي اتهم غولن بمحاولة إنشاء دولة ثيوقراطية، وأسفرت تلك التحقيقات عن مغادرة غولن تركيا إلى الولايات المتحدة في مارس (آذار) 1999، ولم يعد لتركيا مرة أخرى حتى وفاته.
لم يمض وقت طويل حتى أتاح صعود أردوغان إلى السلطة في عام 2003 لحركة غولن الفرصة لإخراج نفوذها السياسي من الظل، فقد كان رئيس الوزراء الجديد يفتقر إلى النفوذ في أجهزة الدولة، وكان غولن في احتياج إلى أردوغان لمساعدته على توسيع نفوذ الحركة، أو كما قال غولن نفسه في إحدى خطبه، “للتسلل إلى شرايين الدولة”.
ونتيجة لذلك خاضت حكومة حزب العدالة والتنمية حربًا مفتوحة مع حليفها الوثيق، خاصةً بعد القضية المعروفة بقضية “أرغينيكون“، التي كانت محاولة للإيحاء بوجود مجموعة غامضة من ضباط الجيش العلمانيين، والصحفيين، والسياسيين، يتآمرون للسيطرة على الدولة، والتي أدت إلى انقسام بين غولن ورئيس الوزراء آنذاك أردوغان.
كان النظام التركي ينظر -لعقود- إلى حركة الخدمة على أنها تدير “دولة موازية”، وقد اعتقدت الدولة أن أتباع الحركة في القوات المسلحة كانوا وراء محاولة الانقلاب الدموية في 15 يوليو (تمّوز) 2016. ومع أن التفاصيل الدقيقة للمؤامرة لا تزال غامضة، فإن أنصار الحكومة والمعارضة في تركيا -على حدٍ سواء- اتفقوا على وقوف حركة الخدمة وراء محاولة الانقلاب، التي قُتل فيها نحو 300 شخص، وقصف ضباط عسكريون متمردون البرلمان التركي، وأُضيفت حركة غولن إلى قائمة المنظمات الإرهابية الأولى في تركيا، وسُميت منظمة فتح الله الإرهابية.
وبحلول نهاية عام 2016، شن النظام التركي عمليات تطهير واسعة النطاق ضد المؤسسات المرتبطة بحركة الخدمة، وأُغلقت الجامعات، والمنافذ الإعلامية، والجمعيات التابعة لها، واعتُقل أو فُصل أكثر من 42000 من أفراد الجيش، والشرطة، والسلطات القضائية. كما عُلّق عمل أكثر من 23400 موظف في القطاعات التعليمية، وأُلغيت تراخيص مئات المعلمين والأطباء والمحامين، وألُقي بالآلاف من أعضاء حركة الخدمة في السجن.
ومن أجل الهروب من هذا الحساب العسير، فر عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك إلى المنفى في أوروبا، وخاصةً ألمانيا؛ خوفًا من اتهامهم بالانتساب إلى الحركة، والتورط في محاولة الانقلاب، حيث سعى 80 ألفًا منهم إلى اللجوء منذ عام 2016، وفي أعقاب ذلك، دعا أردوغان الولايات المتحدة إلى تسليم غولن، لكنها لم تستجيب، وأصبح رفض واشنطن القيام بذلك مصدرًا رئيسًا للتوتر بين البلدين؛ ومن ثم كانت حصيلة الضغوط التي مارستها الحكومة التركية أن تضاءل كثيرًا نفوذ المنظمة في السياسة الداخلية، أو ربما قُضي عليه، فبقرب نهاية عام 2024، تمت مقاضاة أكثر من 700 ألف من أعضاء حركة فتح الله غولن وأنصارها، ونتيجة لسياسة التطهير التركية فقد الآلاف من الموظفين وظائفهم، وخاصةً في القضاء، والجيش، والشرطة، والتعليم؛ ما يعني أن الحركة الآن لديها رأس مال وموارد بشرية محدودة، وبلا زعيم.
من المرجح أن تؤدي وفاة غولن إلى مجموعة من العواقب السياسية والاجتماعية الجوهرية على صعيد النظام التركي، يتضح أبرزها فيما يلي:
من الصعب أن تتمكن منظمة شبيهة بالطائفة، من توليد القدر نفسه من الولاء بين أتباعها بعد وفاة مؤسسها، فالحركة بُنيت على شخص غولن، ورحيله قد يعني نهاية التنظيم رسميًّا، غير أن هذا لن يمنع استمرار الحركة -حتى في أضعف لحظاتها- في إثارة المشكلات في الخارج، بالنظر إلى شبكتها العالمية الفعالة، خاصةً في الولايات المتحدة، ويبرز هذا فيما يلي:
الخاتمة
مجمل القول أن وفاة مؤسس حركة الخدمة فتح الله غولن سوف تفرض -على نحو أساسي- ديناميكيات جديدة على الصعيد الداخلي فيما يتصل بتوظيف أردوغان لحركة الخدمة للالتفاف على بعض التحديات التي يواجهها، خاصةً أنه يصنف غولن وجماعته إرهابيين، ويحملهم مسؤولية تدهور بعض الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد، أو فيما يتعلق بالمسارات التي ستتخذها حركة غولن فيما يرتبط بتماسكها التنظيمي، وطبيعة أنشطتها.
وعلى الصعيد الخارجي، قد تؤدي وفاة غولن إلى حدوث تحسن في العلاقات التركية الأمريكية، فقد كان قتال أنقرة مع حركة غولن ذا بعد دولي؛ فعندما بدأ الخلاف، سعت تركيا إلى إقناع شركائها باتخاذ إجراءات صارمة ضد الحركة بوصفها منظمة إرهابية، وطالبتهم بكبح مصادر تمويلها، وتسليم أعضائها، كما حرصت على الاستيلاء على الأصول الخارجية للحركة. وبالإضافة إلى ذلك، أصرت على تسليم الإمام، وهو ما لم توافق عليه واشنطن؛ لذا اتهمتها أنقرة علنًا بالتورط غير المباشر في الانقلاب. والآن، ومع وفاة غولن، سقطت القضية الرئيسة ذات الأهمية الرمزية في العلاقات بين البلدين من جدول الأعمال.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.