أثار التسجيل الصوتي، الذي سربته “سي إن إن” على أنه تسجيل قديم نسبيًّا لتصريحات منسوبة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، جدلًا سياسيًّا واسعًا، وزوبعة إعلامية.
التسجيل يروي فيه الرئيس الأمريكي ما وصفه بتفاصيل محادثة جرت بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويقول ترمب حرفيًّا: “قلت لبوتين: إذا دخلت أوكرانيا، فسأقصف موسكو بشدة.. ليس أمامي خيار آخر”.. ثم أضاف أن بوتين لم يصدقه تمامًا، لكنه آمن بنسبة 10% بتهديد ترمب، وهي نسبة كافية -في رأي ترمب- لردعه، أي لردع بوتين.
وبلهجة مشابهة قال ترمب إنه وجه تحذيرًا إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ بأن واشنطن ستقصف بكين إذا غزت الصين تايوان.
هذه التصريحات، مع أنها -كما يفترض- قديمة نسبيًّا، وإن جاءت في لقاء مغلق مع ممولين لحملة ترمب الانتخابية حينذاك، فإنها أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية الروسية والأمريكية على حد سواء، فضلًا عن إثارتها زوبعة إعلامية، خاصةً أنها تصادف توقيتًا بالغ الحساسية في الحرب المشتعلة في أوكرانيا، وكذلك في التوتر مع بكين بشأن ملف تايوان.
وبما أننا لا نستطيع الجزم بحقيقتها وصحتها، خاصةً في زمننا “المبرور” بالذكاء الاصطناعي وتلفيقاته، فإنها تستدعي قراءة تحليلية هادئة، تستند إلى معلومات يُعتمد عليها، وتبتعد عن الانفعال، أو الاصطفاف.
إذا سلمنا أن ترمب أصدر بالفعل هذه التصريحات، أو التهديدات، لبوتين وشي، وهو ما لا أستطيع تصديقه من معرفتي بنفسية بوتين وترمب، وحتى شي -الذي ساقني القدر للقائه والحديث المباشر معه مرتين خلال عدد من السنوات، وعلى الأقل استطعت لمس شيء من شخصيته خلال هذا الاتصال الفيزيائي المباشر- لكن إذا سلمنا من باب أن كل شيء جائز في هذا الزمن، فالتفسير الوحيد لديّ أن ترمب كان يراهن بذلك على “ردع نفسي” قائم على خطاب صادم، لكنه غير قابل -بأي حال- للتنفيذ الفعلي في ميزان التوازنات النووية القائمة، وقد يكون اعتمد على عنصر المفاجأة اللفظي، لا على خطة فعلية، بالتأكيد.
بعد انتشار التسجيل، كان لا بد بالطبع أن يأتي رد روسي للتعليق عليه، ومن واقع ما تابعته حتى لحظة كتابة هذه السطور، اقتصر هذا الرد على عنصرين، وهما التشكيك في صدقه، والتقديرات الباردة بشأنه.
فالسيناتور المنتشر إعلاميًّا، ورجل الاستخبارات السابق، فلاديمير جباروف، نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الاتحاد (الغرفة الأعلى للبرلمان) اعتبر أن التسجيل قد يكون أُنتج باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وقدم حجته في هذا الافتراض أن ترمب -على الرغم من خطاباته النارية- يدرك تمامًا وزن روسيا والصين بوصفهما قوتين عظميين؛ ما يعني أنه جباروف لا يرجح أن يصدر عنه هذا التهديد في لقاءات شخصية مع قادة كبار مثل بوتين وشي.
من الواضح بالطبع من تصريحات المسؤول الروسي أنه لا يصدق أن يسمح رئيسه أن يوجه إليه أي شخص -ولو كان ترمب- هذا التهديد، وبذلك هو يوجه اتهامًا لقوى غربية متواطئة مع “سي إن إن” استخدمت هذا التسجيل “المزور” -في رأيه- من أجل محاولة دق إسفين، وإشعال التوتر مجددًا بين موسكو وبكين وواشنطن؛ من أجل عرقلة أي مسار إستراتيجي لتوازن القوى.
الكرملين -من واقع متابعتي لتصريحاته- كان حذرًا في التعليق، فالمتحدث باسمه، دميتري بيسكوف، اكتفى بالقول إن التصريحات الأمريكية “تتسم بالتناقض الشديد”، وإن الكرملين يراقب الموقف بـ”قدر كبير الحذر”.
وحذر الكرملين -في رأيي- يعود إلى عدم ثقته بكل ما يصدر عن ترمب، وعدم انسجام هذه التصريحات مع الفعل على الأرض، وتناقضها المستمر، فترمب بعد مكالمته الهاتفية مع زيلينسكي عاد وأعلن استئناف تقديم الدعم الأمريكي للدفاعات الجوية الأوكرانية، لكن مع ذلك تشير تقارير غربية أوردتها الإيكونوميست، وإن بي سي، وبوليتيكو، أن المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا لا تزال في مرحلة مراجعة يجريها البنتاغون لأسباب لوجستية مرتبطة بنقص المخزونات الأمريكية بعد الحرب الإسرائيلية- الإيرانية.
فضلًا عن ذلك -وهذه معلومة مؤكدة- لا يزال التسليح الأمريكي الحالي لكييف يعتمد على الحزم التي أقرها بايدن، ولم يعلن ترمب -حتى الآن- إقراراه حزمًا جديدة، بل اقتصرت كل قراراته على إتمام ما سبق، وهذا بالطبع يثير الجدل أوكرانيًّا وأوروبيًّا بشأن مدى استدامة هذا الدعم.
لذلك، إذا عدنا من تحليل واقع الفعل إلى الحديث عن طبيعة الخطاب الترمبي، فسنرى أن هذا الخطاب يتسم -منذ حملته الأولى- بالنبرة الصدامية العالية الصوت، وهذا بالطبع يخلق مناخًا من التصعيد الإعلامي، لكنه لا يفضي بالضرورة إلى تحولات إستراتيجية فعلية؛ ولذلك يبدو تهديده بقصف موسكو وبكين -إن صح أنه صدر عنه- في رأيي، أقرب إلى “مسرحية الردع”، دون أن يكون ترمب اعتنق أو تبنى عقيدة صدام مباشر مع بوتين وشي؛ ولذلك بدا الرد الروسي -كما رأيتُه، وكما جرت العادة- ذا طبيعة براغماتية محسوبة؛ فعلى الرغم من حدة مضمون التصريحات، امتنع الكرملين وامتنعت موسكو عن التصعيد اللفظي المضاد، واختارت مقاربة ونهج التشكيك، وربط التسجيل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، أو التلاعب الأمريكي.
هذا الموقف يُظهر -في رأيي- حرص بوتين، وحرص الكرملين على عدم الانجرار وراء معارك كلامية وإعلامية صاخبة، والالتزام بـ”الدبلوماسية المتروية”، خاصةً في ظل غياب حزم عقوبات أمريكية على روسيا حتى الآن، على الرغم من التلويح المتكرر بفرضها.
ومن هذا كله بإمكاني استنتاج أن التهديد الترمباوي -وأكرر إن كان صدر، أو صدر بالألفاظ نفسها التي في التسريب- لا يحمل قيمة تنفيذية واضحة؛ بل هو أقرب إلى التعبير عن إستراتيجية “خدوهم بالصوت ليغلبوكم” منه إلى تهديد عسكري فعلي.
وأستنتج أيضًا أن رد موسكو يشير إلى إدراك بوتين والكرملين ضرورة أن يلجأ ترمب إلى هذه الألاعيب لاقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي، التي ستجري العام المقبل، وهناك حاجة إلى حملة انتخابية دعائية للحزب وترمب، تظهره على أنه الزعيم الذي يرعب بوتين وشي.
ولإدراكها هشاشة الخطاب الانتخابي الأمريكي، خاصةً في مرحلة الحملات الشبيهة بحملة التجديد النصفي، تتعامل مع هذه التسريبات وهذه التصريحات ببرود.
أضف إلى ذلك أن التشكيك الروسي في صحة التسجيل، يعبر عن نهج وتوجه روسي أكبر يسعى إلى مواجهة الآلة الاعلامية الجبارة للغرب، ومواجهة الحملات الإعلامية الغربية عن طريق تفكيك ما تراه موسكو أدواتها، وليس عن طريق مجاراتها في التصعيد، كما كانت تقع في الفخ سابقًا.
ومع ذلك، أستنتج كذلك أن الغموض المستمر بشأن سياسة ترمب تجاه أوكرانيا يعزز انعدام الثقة به وبواشنطن، ليس فقط من جانب بوتين وموسكو، بل كذلك حتى لدى كييف نفسها، التي لم تفهم ولا تفهم بعد ما مصير الدعم الأمريكي الإستراتيجي الذي كانت تحصل عليه على نحو غير مشروط خلال السنوات الثلاث الماضية من الحرب.
ولكل ما سبق، أعتقد أنه من الضروري على المهتمين بمتابعة الصراع الأوكراني، في ظل السيولة الخطابية الأمريكية، والتصعيد الإعلامي الذي لا يمكن الإمساك بأطره، من الضروري -في رأيي- صياغة المواقف الإستراتيجية وبناؤها على نحو مستقل، يعتمد ويستند إلى الوقائع الميدانية، والتحركات الفعلية، لا إلى محتويات تسجيلات مشبوهة، أو شعارات حملات انتخابية، مع ضرورة تطوير أدوات التحليل الإعلامي للتعامل مع الظاهرة الجديدة، وأقصد بها ما يمكن تسميته بظاهرة “الردع المفبرك” في عصر الذكاء الاصطناعي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.