مقالات المركز

هل “حل الدولتين” خيار واقعي؟


  • 28 يوليو 2025

شارك الموضوع

يكتسب الحديث عن “حل الدولتين” هذه الأيام زخمًا قويًّا، ليس فقط بسبب المؤتمر الدولي الذي ترعاه المملكة العربية السعودية وفرنسا هذا الأسبوع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن أيضًا بسبب إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده سوف تعترف بالدولة الفلسطينية في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. ولا يقتصر الأمر على هذا، فهناك تحوّل في مواقف ألمانيا والمملكة المتحدة تجاه الاعتراف بدولة فلسطينية، حتى لو أرجأت كل من لندن وبرلين هذه الخطوة إلى حين وجود “حل شامل” للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويضاف إلى ذلك اعتراف دول كبيرة في الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين، منها إسبانيا وأيرلندا والنرويج، وقبل ذلك اعتراف اليونان والسويد، فضلًا عن تصويت 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قيام الدولة الفلسطينية في العاشر من مايو (أيار) 2024، وهو ما يعطي انطباعًا بأن قيام الدولة الفلسطينية أصبح “قاب قوسين أو أدنى”.

لكن التدقيق على أرض الواقع بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يقول إن ما جرى ويجري من أحداث وتفاعلات سياسية وعسكرية، وتغيُّر في موازين القوى بالمنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط، لا يصب في صالح قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية في المدى القريب، وذلك بسبب غياب أي ضغط حقيقي على إسرائيل لقبول “حل الدولتين”، بل على العكس من ذلك، فإن تل أبيب تشعر هذه الأيام بنشوة سياسية وعسكرية غير مسبوقة بناءً على النتائج التي حققتها في جبهات لبنان وسوريا وإيران واليمن، وهو ما دفع الكنيست -يوم الأربعاء الماضي- إلى تقديم توصية للحكومة الإسرائيلية “بضم” الضفة الغربية إلى الدولة العبرية، وهي توصية يعلم الجميع أن هناك توافقًا عليها ليس فقط بين النخبة والأحزاب الإسرائيلية في اليمين والوسط واليسار؛ بل في الولايات المتحدة الأمريكية، فأحد الوعود الأمريكية المؤجلة من الإدارة الجمهورية الحالية هو الاعتراف بضم إسرائيل للضفة الغربية على غرار اعتراف واشنطن في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ترمب بضم هضبة الجولان السورية إلى إسرائيل، والاعتراف بأن القدس بالكامل الشرقية والغربية عاصمة لإسرائيل، وكل هذا يدفع إلى طرح السؤال: ما الأهداف التي يمكن أن تتحقق من ضغط الدول العربية والإسلامية على الأوروبيين للاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967؟ وهل في ظل التفوق العسكري الإسرائيلي، والتماهي الكامل في الأدوات والأهداف بين واشنطن وتل أبيب، يمكن للمجتمع الدولي أن يدفع بقيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل؟ وما خيارات الفلسطينيين في ظل رفض حماس وإسرائيل والولايات المتحدة حل الدولتين؟

90 عامًا على طرح حل الدولتين

على مدار أكثر من تسعين عامًا جرى الحديث عن حل الدولتين منذ الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، عندما اقترح وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند إيرل بيل “حل الدولتين” لوقف الصراع بين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية في ذلك الوقت، وشكَّل مقترح بيل الأساس والإطار السياسي الذي قام عليه القرار 181 لعام 1948، أو ما يُطلق عليه “قرار التقسيم” الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وطُرحت الفكرة مرة أخرى ضمن القرار 242 بعد حرب 1967، وسيطرة إسرائيل على مزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. ويُحسب للرئيس الأمريكي من الحزب الديمقراطي بيل كلينتون -الذي قاد مفاوضات ماراثونية في طابا وشرم الشيخ- أنه أول رئيس أمريكي يتحدث عن “حل الدولتين” أمام وسائل الإعلام، مع أن “حل الدولتين” كان هو الركن الأساسي لمفاوضات مدريد عام 1991، ومفاوضات أوسلو في الثالث عشر من سبتمبر (أيلول) 1993. وكان العالم ينتظر قيام الدولة الفلسطينية عام 1999 وفق مقررات أوسلو، لكن وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة عام 1996 أجهض المفاوضات، وهو ما اعترف به نتنياهو مؤخرًا بتأكيده أنه من أَفشل “حل الدولتين” خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد مر “حل الدولتين” بكثير من المحطات، منها “لجنة وودهيد” عام 1938، التي حاولت أن تعيد فكرة التقسيم على أطراف المعادلة الثلاثة، وهم الفلسطينيون والإسرائيليون، والحكومة البريطانية. وقرار التقسيم (181)، وهو أول قرار أممي بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر يناير (كانون الثاني) 1947، ويقسم فلسطين التاريخية إلى ثلاثة أقسام: دولتين ومنطقة دولية؛ دولة فلسطينية تضم 11 ألف كيلومتر مربع، أي بنسبة 42.3% من إجمالي أرض فلسطين، وكانت تضم أراضي ومدنًا قريبة من غلاف غزة، مثل عكا، والجليل الغربي، وأشدود، وأجزاء من صحراء النقب، ودولة يهودية تضم 15 ألف كيلومتر مربع، بنسبة 57.7% من أراضي فلسطين التاريخية، في حين وُضعت مدينة القدس وحيفا وجميع الأراضي الفلسطينية المجاورة لهما تحت الوصاية الدولية. وصوتت 33 دولة لصالح القرار، في حين عارضته 13 دولة، وامتنعت 10 دول عن التصويت، ثم جاء القرار 242 لعام 1967، وصدر في الثاني والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) عن مجلس الأمن الدولي، ويدعو صراحةً إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الرابع من يونيو (حزيران) 1967. وفي عام 1988، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، ومع ذلك لم تقدِّم إسرائيل مقابل هذه الخطوة حتى الآن. وكانت اتفاقيات أوسلو في الثالث عشر من سبتمبر (أيلول) 1993 من أبرز المحطات التي تدعو إلى حل الدولتين، ونصت على قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل بحلول سنة 1999. ولتنفيذ حل الدولتين، شُكِّلَت “اللجنة الرباعية وخريطة الطريق” في الثلاثين من أبريل (نيسان) عام 2002 بمقترح من رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أثنار، وتضم روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ووُضعت خريطة طريق تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005، مقابل وقف الفلسطينيين الانتفاضة الثانية. وفي العام نفسه 2002، طرح العرب “المبادرة العربية” التي تقوم على “حل الدولتين”، ومبدأ “الأرض مقابل السلام”. ولتفعيل حل الدولتين، طرح الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن رؤية لمفاوضات الحل النهائي، وقيام دولة فلسطينية بجوار إسرائيل في “مؤتمر أنابوليس”، الذي استضاف فيه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وعددًا من الدول العربية في مقر البحرية الأمريكية في أنابوليس بولاية ماريلاند في السابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2007، وطالب المؤتمر بإقامة دولة فلسطينية بنهاية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس جورج بوش الابن قبل يناير (كانون الثاني) 2009.

معضلة نتنياهو

لكن على الجانب الآخر، ليس لدى إسرائيل أو نتنياهو رؤية أو إستراتيجية للتعامل مع التحديات التي يفرضها عليهم بقاء الفلسطينيين وصمودهم وثباتهم على أرضهم، فلا يمكن لتل أبيب أن تتجاهل تكلفة رفضها الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وهذه التحديات هي:

أولًا- التماثل الديموغرافي
رغم رفض إسرائيل الاعتراف بقيام دولة فلسطينية، فإن تل أبيب ليس لديها أي رؤية حقيقية -بخلاف رؤية اليمين المتطرف والأحزاب الدينية- للتعامل مع نحو ثمانية ملايين فلسطيني على أراضي فلسطين التاريخية، وهم 2.3 مليون فلسطيني داخل الخط الأخضر (حدود 1967)، ونحو 2.2 مليون في قطاع غزة، و3.4 مليون في الضفة الغربية، وهو ما يقول إن عدد الفلسطينيين يتساوى مع عدد الإسرائيليين، وربما أكثر. وإذا كانت إسرائيل لا تستطيع أن تتعامل مع 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، فكيف لها أن تتنكر لوجود 3.4 مليون فلسطيني في الضفة الغربية، و2.3 مليون آخرين داخل الخط الأخضر؟ فرفض اعتراف إسرائيل بحل الدولتين يضعها أمام السؤال الكبير: كيف ستتعامل مع ثمانية ملايين فلسطيني وخلفهم ملايين العرب، والمليارات من المسلمين والأحرار في العالم الذين يرفضون استمرار الاحتلال؟

ثانيًا- عدم الاعتراف بالخطوات الأحادية
لم تعترف سوى الولايات المتحدة بالخطوات الأحادية الإسرائيلية بشأن القدس، أو القرارات المتوقعة بشأن الضفة الغربية، فالدول الأوروبية الحليفة تاريخيًّا مع إسرائيل لم تدعم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، التي ينتمي 50% من سكانها إلى الشعب الفلسطيني، فكيف تكون القدس عاصمة أبدية لإسرائيل و50% من سكانها لا يعترفون بهذا الأمر؟

دعم رمزي

بدون ضغط حقيقي من الولايات المتحدة على إسرائيل للاعتراف بالدولة الفلسطينية، سوف تصبح جميع الجهود -رغم أهميتها الكبيرة- “جهودًا رمزية” تُحاصر إسرائيل قانونيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا، لكن لا تُجبرها على القبول بقيام الدولة الفلسطينية. وتواجه الجهود السعودية والفرنسية، ومعها جهود كل العرب والصين وروسيا، مجموعة من التحديات في سبيل قيام الدولة الفلسطينية، وهذه التحديات هي:

أولًا- موقف حماس وإسرائيل
ترفض إسرائيل وجود أي دولة فلسطينية إلى جوارها، وتقول إن أي دولة فلسطينية سوف تكون “دولة حماس”، وسوف تعمل مباشرةً على إزالة إسرائيل من الوجود. في السياق نفسه، ترفض حماس فكرة “حل الدولتين”، وتريد استعادة كل أراضي فلسطين التاريخية من رأس الناقورة شمالًا إلى رفح الفلسطينية جنوبًا، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن شرقًا. ومع أن حماس قالت في ميثاقها الجديد الذي أعلنته عام 2018 إنها تقبل بهدنة طويلة أو حل الدولتين، فإن التقديرات الإسرائيلية لموقف حماس بأنه موقف تكتيكي، وأن خطاب حماس الداخلي لعناصرها وبيئتها الشعبية هو أن تكون هناك دولة واحدة في أراضي فلسطين التاريخية، وهي فلسطين فقط دون أي وجود لإسرائيل.

ثانيًا- نتائج الحروب الإسرائيلية
ترى تل أبيب فيما تسميه انتصارات في جنوب لبنان وسوريا وإيران واليمن بأنها تدعم سيطرتها وبقاءها في كل فلسطين، وليس على حدود 1967 كما يطالب بذلك الفلسطينيون. وترى في السيطرة على مساحات واسعة من جنوب سوريا بأن ذلك يشكل حماية للضفة الغربية، ومنطقة الأغوار في شمال شرق الضفة الغربية؛ ولهذا لا يمكن لدولة تتوسع في الأراضي أن تترك 11 ألف كيلومتر مربع للفلسطينيين.

ثالثًا- الضفة الغربية
تعبر توصية الكنيست الإسرائيلي للحكومة بضم الضفة الغربية عما تخطط له تل أبيب، وهو إجهاض حل الدولتين؛ لأن ضم الضفة الغربية لإسرائيل يعني نهاية لحل الدولتين؛ لما تشكله الضفة الغربية من أهمية للدولة الفلسطينية، حيث تصل مساحة الضفة الغربية إلى نحو 5860 كيلومترًا مربعًا، وهي بذلك تشكل أكبر كتلة جغرافية للدولة الفلسطينية التي تضم الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة؛ ولهذا عملت إسرائيل كل شيء حتى لا تتخلى عن الضفة الغربية، منها السيطرة على نحو 62% من مساحتها، وزيادة عدد المستوطنين فيها إلى نحو 750 ألف مستوطن، وتسليح المستوطنين لقتل الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم، بما يجعل “يهودا والسامرة” -وهي التسمية الإسرائيلية للضفة الغربية- أراضي إسرائيلية، ويصعب التخلي عنها في أي مقاربة سياسية في المستقبل القريب.

دولة للجميع

في ظل الشكوك الكبيرة في قيام دولة فلسطينية، هناك من يطرح بديلًا يقوم على مبدأ الدولة الواحدة الديمقراطية التي تضم كلًا من الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن هذا السيناريو كان قائمًا قبل قيام دولة إسرائيل في مايو (أيار) 1948، وهو ما يقول إن دائرة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تزال بعيدة عن كل الحلول المطروحة في الوقت الحالي، ومنها حل الدولتين.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع