
تعاصر دول آسيا الوسطى اليوم مرحلة انتقالية دقيقة في معادلة الطاقة العالمية، إذ تتحول من كونها ممرًا للنفط والغاز، أو مصدرًا للمواد الخام فحسب، إلى فاعل ناشئ يسعى إلى بناء بنية تحتية مستقلة للطاقة النووية، هذا التحول، الذي بدأ تدريجيًّا منذ العقد الماضي، وتكثف بعد عام 2022، في ظل أزمات الطاقة العالمية، يعكس إدراكًا متزايدًا لدى دول المنطقة بأن استدامة نموها الاقتصادي وتوازنها السياسي لا يمكن ضمانه إلا من خلال تنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك إدخال النووي ضمن مزيجها الوطني، فمع تصاعد الضغوط البيئية والاقتصادية الناتجة عن الاعتماد المفرط على الفحم والغاز، وارتفاع الطلب الداخلي على الكهرباء بنسبة تتجاوز 40% في بعض الدول خلال العقد الأخير، باتت الطاقة النووية تُقدم في الخطاب الرسمي لدول آسيا الوسطى باعتبارها خيار المستقبل لتحقيق أمن الطاقة، وتقليل الانبعاثات، والارتقاء بالقدرات التقنية الوطنية.
غير أن هذا التحول لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الجيوسياسي الأوسع، حيث تشكل آسيا الوسطى اليوم ساحة تنافس مركب بين قوى إقليمية ودولية تسعى جميعها إلى تأمين موطئ قدم في مشروعات البنية النووية الناشئة، إذ تتجاوز أهمية التحول النووي في آسيا الوسطى البُعد الطاقوي لتصبح أداة لإعادة تموضع دول المنطقة ضمن النظام الإقليمي الأوراسي المتغير، فباتت المنطقة مسرحًا لتقاطع ثلاثة أنماط نفوذ؛ الروسي القائم على التحكم التقني، والصيني المبني على التمويل والبنية التحتية، والغربي المعتمد على المعايير والتنظيم والدعم المؤسسي؛ ما يجعل كل مشروع نووي جديد يحمل دلالات تتجاوز كفاءته التقنية، ليصبح مؤشرًا على اتجاهات الاصطفاف السياسي والاقتصادي للدولة المضيفة.
تنتقل دول آسيا الوسطى تدريجيًّا من مصدر خام لليورانيوم إلى مستخدم للطاقة النووية كمصدر أساسي مستقبلي للطاقة الكهربائية والصناعية، وتعد كازاخستان محور المشهد النووي في آسيا الوسطى، ليس فقط لامتلاكها أكبر احتياطيات اليورانيوم عالميًّا؛ بل لأنها الدولة الوحيدة في الإقليم التي تمتلك قاعدة علمية وصناعية متقدمة تؤهلها للتحرك نحو إنتاج الطاقة النووية على نطاق تجاري، فبعد عقود من الحساسية الشعبية تجاه أي مشروع نووي بسبب إرث موقع “سيميبالاتينسك” لتجارب الاتحاد السوفيتي، نجحت الحكومة منذ عام 2022 في إعادة صياغة خطابها الداخلي عبر تأطير الطاقة النووية كضرورة أمنية واقتصادية، وحسمت أستانا الخطوات التنفيذية الأولى لاختيار موقع محطة نووية قرب بحيرة بالخاباش (Ulken) بطاقة مبدئية تصل إلى 2.4 جيجاوات، حيث تتنافس أربع شركات دولية كبرى، أبرزها شركة روساتوم الروسية، وCNNC الصينية، وEDF الفرنسية، وKHNP الكورية الجنوبية، على قيادة المشروع.
تسعى كازاخستان إلى تحقيق ثلاثة أهداف متزامنة من التوجه إلى الطاقة النووية؛ تأمين احتياجاتها من الكهرباء في ظل تزايد الطلب الصناعي، وتنويع مزيج الطاقة لتقليل الاعتماد على الفحم، واستثمار مكانتها كمصدر لليورانيوم عبر توطين جزء من سلسلة القيمة المضافة، لكن التحدي الأبرز يتمثل في بناء ثقة المجتمع الكازاخي، خاصة في مناطق المشروع، إلى جانب تجنب الأخطار البيئية المحتملة. كما يتعين على الدولة تطوير الإطار الرقابي المحلي بما يتوافق مع معايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ تجنبًا لتكرار أخطاء الإدارة السوفيتية السابقة.
تمثل أوزبكستان -من جانبها- الوجه الأكثر ديناميكية في التحول النووي الإقليمي، فمنذ 2018، وضعت طشقند برنامجًا شاملًا لتطوير قدرات الطاقة النووية المدنية بالشراكة مع روسيا، وتحول هذا البرنامج إلى تنفيذ فعلي في السنوات الأخيرة، من خلال بناء محطة نووية في إقليم جيزاخ، ويتوقع أن تضم وحدات مفاعل روسي من طراز RITM-200N بطاقة إجمالية تتجاوز 1.2 جيجاوات. اللافت في النموذج الأوزبكي هو اعتماده على المفاعلات المعيارية الصغيرة، التي توفر مرونة تشغيلية، وكلفة إنشاء أقل، وإمكانية توسيع تدريجي للشبكة دون الحاجة إلى بنية تحتية ضخمة. يعكس هذا الخيار إدراكًا إستراتيجيًّا لطبيعة الاقتصاد الأوزبكي الذي يواجه ضغطًا على شبكاته الكهربائية في فترات الذروة، ويعاني تزايد الطلب الصناعي مع محدودية في قدرات التخزين والنقل.
بدأ تنفيذ أعمال البنية التحتية الأساسية ومرافق الدعم الهندسي عام 2024، بالتوازي مع برامج لتدريب الكوادر المحلية في الجامعات الأوزبكية، بالتعاون مع شركة روسآتوم الروسية، وفي الوقت نفسه، تتفاوض طشقند مع أطراف غربية وكورية للحصول على تكنولوجيا إضافية أو تمويل تكميلي، ما يشير إلى رغبتها في تنويع الشراكات، وتجنب الاعتماد الأحادي على موسكو.
ومع أن قرغيزستان لم تدخل بعد مرحلة تنفيذية في برامج الطاقة النووية، فإن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا في الخطاب السياسي بشأن هذا الملف، فبعد معاناة البلاد نقصًا حادًّا في الكهرباء خلال الشتاء بسبب اعتمادها الكبير على الطاقة الكهرومائية، بدأ الحديث رسميًّا عن إدخال مفاعلات صغيرة متنقلة لتوفير طاقة مستقرة للمدن الصناعية والمناطق النائية؛ لذا أجرت الحكومة القرغيزية في عام 2024 مباحثات استكشافية مع روسيا والصين بشأن جدوى استقدام وحدات نووية صغيرة، كما وقعت مذكرة تفاهم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتطوير الإطار التنظيمي للقطاع النووي المدني، غير أن غياب التمويل والبنية التحتية المناسبة، إضافة إلى ضعف الجهاز الرقابي الوطني، يظل عقبة أساسية أمام الانتقال من مرحلة الفكرة إلى التنفيذ.
فيما تواجه طاجيكستان معضلة الطاقة دوريًّا رغم وفرة مواردها المائية، فالانقطاعات الكهربائية في الشتاء، والتقلبات في مستويات مخزون السدود، تدفعها تدريجيًّا إلى التفكير في مصادر بديلة. وفي السنوات الأخيرة، بدأت دوشنبه حوارات تقنية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومع شركات روسية وصينية لدراسة إمكانية إدخال وحدات نووية صغيرة في المستقبل، خاصة للمناطق الصناعية الجديدة حول العاصمة. ومع أن طاجيكستان تدرك محدودية قدرتها الحالية على تحمل تكلفة مشروعات نووية كبيرة، فإنها تنظر إلى النووي بوصفه خيارًا إستراتيجيًّا مستقبليًّا لتعزيز استقلالها الطاقوي، كما أن قربها الجغرافي من ممرات التجارة الصينية- الآسيوية يمنحها فرصة للاستفادة من التمويل الصيني في حالة تحول النووي إلى جزء من مبادرة الحزام والطريق في قطاع الطاقة النظيفة.
وعلى عكس ما سبق، فإن تركمنستان -صاحبة أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في المنطقة- تتخذ موقفًا أكثر تحفظًا تجاه الطاقة النووية، إذ تفضل حتى الآن الاعتماد على الغاز بوصفه مصدرًا وفيرًا ورخيصًا لتوليد الكهرباء والتصدير، ومع ذلك، شهد عام 2025 تزايد التواصل بين عشق آباد والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك توقيع برنامج تعاون فني جديد (2025- 2029) يهدف إلى تطوير قدرات علمية وبحثية في مجالات الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، كالطب والصناعة، وربما تمهيدًا لبرنامج طاقة مدنية لاحق، إذ تتسم السياسة التركمانية بالحذر المفرط والسرية في الملفات الإستراتيجية؛ لذا من الصعب التنبؤ بإطلاق برنامج نووي فعلي قريبًا، غير أن الضغوط البيئية على استهلاك الغاز محليًّا، وتنامي الطلب الداخلي، قد يدفعان البلاد إلى دراسة خيار مفاعلات صغيرة مغلقة لإمداد المناطق الصناعية الساحلية بطاقة نظيفة ومستقرة، دون استنزاف كميات إضافية من الغاز المعد للتصدير.
يمثل الاتجاه نحو الطاقة النووية انعكاسًا لرغبة بلدان آسيا الوسطى في تحقيق استقلال طاقوي نسبي بعد عقود من الاعتماد على الغاز والمياه العابرة للحدود؛ لذا تتضح أبرز دوافع الجمهوريات الخمس -رغم تباينها- فيما يلي:
تتجه دول آسيا الوسطى -على نحو متزايد- إلى إدراج الطاقة النووية ضمن إستراتيجياتها القومية الطويلة المدى، ليس فقط بوصفها وسيلة لتأمين إمدادات الكهرباء؛ بل أداة لإعادة صياغة موقعها الجيوسياسي في النظام الإقليمي الأوراسي، حيث يمثل تطوير البنية النووية في الإقليم خطوة لتثبيت استقراره، وربطه مؤسسيًّا بمجال النفوذ الروسي من خلال التكنولوجيا والوقود والتدريب، لكن هذا التوجه يحمل بعدًا مضادًا للتبعية الطاقوية الأحادية، إذ يمنح بلدان آسيا الوسطى أدوات جديدة للمناورة في علاقاتها مع روسيا والصين والغرب على حدٍّ سواء.
عمليًّا، بدأت المنطقة بتجاوز مرحلة الاعتماد السلبي على صادرات الطاقة الأولية من الغاز والفحم إلى مرحلة التحول التقني، حيث تسعى كازاخستان وأوزبكستان -على سبيل المثال- إلى بناء قدرة وطنية في مجالات تصميم المفاعلات الصغيرة، ودورات الوقود، وإدارة النفايات النووي. يُعيد هذا التطور تموضع آسيا الوسطى من كونها ممرًّا للطاقة إلى منتج تكنولوجي ناشئ، ما قد يغير بنية القوة الاقتصادية داخل الإقليم نفسه، حيث قد تحمل المرحلة المقبلة ملامح تنافس خفي بين موسكو وبكين في المجال النووي الإقليمي، فبينما تمتلك روسيا -من خلال شركة روسآتوم- التفوق التكنولوجي والخبرة التاريخية في تشغيل المفاعلات، وإمداد الوقود، فإن الصين تقدم بدائل مالية وهندسية أكثر مرونة من خلال شركات مثل CNNC وSPIC، مستفيدة من ربط مشروعات الطاقة النووية بمبادرة الحزام والطريق، ومؤسسات التمويل الآسيوية.
وبينما تنظر موسكو إلى النووي في آسيا الوسطى بوصفه أداة سيادية تمنع تمدد النفوذ الغربي في البنية التحتية الإستراتيجية، فروسيا لا تكتفي بتوريد التكنولوجيا؛ بل تعمل على احتكار الاعتماد التقني من خلال عقود طويلة الأمد لإمداد الوقود ومعالجة النفايات، وهو ما يضمن بقاء نفوذها عقودًا طويلة. في المقابل، توظف الصين مقاربة الشراكة التنموية التي تتيح للدول المعنية تمويلًا يسيرًا، ومشاركة محلية أعلى؛ ما يجعلها خيارًا جاذبًا سياسيًّا، وإن لم تماثل روسيا في الخبرة التقنية، حيث تهيمن موسكو على المشروعات القائمة، خاصةً في كازاخستان وأوزبكستان، فيما تتوسع الصين تدريجيًّا في مشروعات الأبحاث والبنية التحتية المستقبلية في قرغيزستان وطاجيكستان في إطار مزيج من التعاون والمنافسة المقننة.
ومن منظور غربي، تمثل آسيا الوسطى منطقة حيوية لإعادة تشكيل توازنات الطاقة العالمية في ظل أزمة المناخ، وارتفاع الطلب على مصادر نظيفة؛ لذلك تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى دخول المشهد النووي الإقليمي من خلال ثلاث بوابات؛ التمويل الأخضر، والشفافية التنظيمية، والتكنولوجيا البديلة المنخفضة الانبعاثات، فقد أطلقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاتحاد الأوروبي منذ عام 2023 برامج لدعم أوزبكستان وكازاخستان في تطوير أطر السلامة النووية وتدريب الكوادر الفنية، كما بدأت شركات أوروبية، مثل EDF وWestinghouse، في مفاوضات مبدئية لتقديم حلول بديلة للمفاعلات الروسية، إذ إن دعم برامج الطاقة النووية في آسيا الوسطى يمكن أن يحد من اعتماد أوروبا على واردات الغاز من روسيا من خلال خلق سوق طاقة أوراسية نظيفة تتكامل مع خطوط الطاقة العابرة للقوقاز، لكن مع هذا الانخراط، تواجه القوى الغربية عقبة جوهرية تتمثل في ضعف قدرتها على منافسة التمويل الروسي- الصيني المرن، إضافة إلى الحذر السياسي في دول الإقليم من تكرار تجارب الضغط السياسي الغربي في ملفات الحوكمة وحقوق الإنسان؛ ومن ثم سيظل النفوذ الغربي محدودًا في الإطار التنظيمي والتقني، دون سيطرة مباشرة على المشروعات الكبرى في المدى المنظور.
بالنظر إلى مستقبل الأمن الإقليمي، يثير التوسع النووي المدني مجموعة من التساؤلات المتعلقة بالسلامة، والأمن المادي للمواد الانشطارية، واحتمالات الاستخدام المزدوج، فقد يخلق الانتشار السريع للمفاعلات الصغيرة (SMRs) في بيئة مؤسسية هشة ثغرات أمنية يمكن استغلالها من قبل القوى الإقليمية والدولية، كما أن إدخال النووي إلى آسيا الوسطى سيؤدي إلى تحول إستراتيجي في هيكل الاعتماد الإقليمي، إذ ستصبح الطاقة -لا الشراكة الدفاعية- هي الأداة الرئيسة لضمان النفوذ، فضلًا عن أن إدماج الطاقة النووية في مشروعات البنية التحتية العابرة، مثل ممر الشمال- الجنوب، والحزام والطريق، سيحول الإقليم إلى عقدة إستراتيجية تجمع بين موارد الوقود النووي، والمعرفة التقنية، والأسواق الإقليمية.
يكشف هذا أن التنافس على المشروعات النووية في آسيا الوسطى لا يعكس فقط صراعًا بين القوى الكبرى؛ بل يحمل كذلك بعدًا إقليميًّا متزايدًا، فالدول الخمس تنظر إلى الطاقة النووية على أنها أداة لإعادة بناء توازن القوى داخل المنطقة، حيث تسعى كازاخستان وأوزبكستان إلى ترسيخ أنفسهما بوصفهما مراكز طاقة إقليمية، في حين تخشى الدول الأصغر، مثل قرغيزستان وطاجيكستان، من هيمنة الثنائي النووي الجديد؛ لذا تسعيان إلى الاستفادة من برامج التعاون الفني، دون الانخراط المباشر في بناء مفاعلات مكلفة.
مع أن المشهد النووي في آسيا الوسطى يتبلور على نحو غير متزامن بين الدول الخمس، فإنه يعكس اتجاهًا إقليميًّا مشتركًا نحو إعادة تعريف مفهوم أمن الطاقة؛ فبينما تمضي كازاخستان وأوزبكستان نحو التنفيذ العملي، لا تزال بقية الدول تكتفي بالتخطيط والتشاور. يحمل هذا التحول أبعادًا تتجاوز الطاقة إلى بناء نفوذ تكنولوجي جديد في قلب أوراسيا، ليصبح النووي أحد مكونات الاستقلال الإستراتيجي لدول المنطقة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام اعتمادات جديدة على شركاء خارجيين طويلة الأمد؛ ومن ثم يبدو مستقبل الطاقة النووية في آسيا الوسطى مشوبًا بالمفارقات؛ فمن جهة يمثل أداة للتحرر الطاقوي والسياسي، ومن جهة أخرى قد يؤسس لتبعية تقنية وهيكلية جديدة تجاه مراكز القوى الكبرى، وفي ظل تصاعد المنافسة الروسية- الصينية، وتزايد الحضور الغربي في الجوانب التنظيمية، ستتحول المنطقة إلى مختبر جيوسياسي للطاقة النووية المدنية، وبناءً على هذا، سيتوقف مستقبل الطاقة النووية في آسيا الوسطى على قدرة بلدانها على تحقيق توازن بين ضرورات التنمية واستقلال القرار، وعلى كيفية إدارة علاقاتها المتشابكة مع موسكو وبكين وبروكسل وواشنطن، فإذا نجحت الجمهوريات الخمس في تحويل الطاقة النووية إلى ركيزة للسيادة، لا وسيلة للتبعية، فستكون أمام مرحلة جديدة من التموضع الأوراسي المستقل الذي يعيد تعريف علاقة المنطقة بالعالم.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير