طرح البعض في الولايات المتحدة أسئلة كثيرة عن مستقبل العلاقات الروسية الصينية، وهل التقارب والدفء الجديد في العلاقات بين واشنطن وموسكو يمكن أن يكون على حساب العلاقات الروسية الصينية؟ وزاد على كل ذلك دعوة كثير من مراكز الأبحاث الأمريكية الرئيس دونالد ترمب إلى التحلي بالصبر في التعامل مع روسيا، وعدم تفويت الفرصة لإبعاد روسيا وفصلها إستراتيجيًّا عن الصين. وكتب كثير من منظري السياسة الأمريكية مقالات تشرح خطأ واشنطن في ولاية ترمب الأولى عندما وضعت كلاً من روسيا والصين معًا في “سلة الأعداء”، وذلك في الإستراتيجية التي طرحها البيت الأبيض في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2017، حيث وصفت روسيا والصين معًا بأنهما “المنافستان الإستراتيجيتان” للولايات المتحدة على الساحة الدولية. وكان الأجدر -من وجهة نظر هؤلاء الباحثين- عدم تحفيز روسيا والصين على التقارب معًا.
اليوم، مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وفتح مسارات مختلفة لتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، يعود السؤال من جديد في واشنطن: هل ينجح ترمب في وقف الزخم والقوة المتنامية في العلاقات الروسية الصينية؟ وهل وقف الحرب الروسية الأوكرانية يقرب موسكو من واشنطن أم يدفعها أكثر إلى أحضان بكين؟ ويتذكر هؤلاء أيام كيسنجر الذي نجح في تحسين العلاقات الأمريكية مع كل من الاتحاد السوفيتي والصين، لكنه في الوقت نفسه كان بارعًا في تعميق الخلافات والفجوات والشكوك بين الصين والاتحاد السوفيتي.
أفضل رد على هذه التساؤلات الأمريكية هو مخرجات القمة الروسية الصينية التي جاءت على هامش الاحتفالات الروسية بعيد النصر في العاصمة موسكو في مايو (أيار) الجاري، والتي جمعت بين الرئيسين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، واتفق الزعيمان الروسي والصيني على مصفوفة من القيم والمصالح تصب كلها في تعزيز الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الدولتين، لتغطي جميع المجالات السياسية والاقتصادية، وهذا يؤكد أن التقارب الروسي الصيني ليس “ردة فعل” على سلوك واشنطن تجاه البلدين، أو مجرد “نزوة طارئة” في علاقاتهما، وهو ما يؤكده التطابق الكامل بين موسكو وبكين في أكثر من ستة ملفات، وهي:
أولًا- شراكة القيم
المؤكد أن المصالح التي تجمع بين روسيا والصين كبيرة ومتشعبة، لكن الأهم أن هناك قيمًا ومبادئ مشتركة تضمن وتحصن العلاقات الروسية الصينية على المدى البعيد والإستراتيجي. ومن هذه القيم رفض كل من الصين وروسيا تدخل أي دولة أخرى -وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكية- في الشؤون الداخلية لروسيا والصين، فالمعروف أن الهدف الأمريكي بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي هو تفكيك الاتحاد الروسي، وأن السبيل الوحيد لإضعاف روسيا هو دعم النزاعات الانفصالية لدى بعض الجمهوريات والجماعات الروسية من خلال توظيف ورقة الإرهاب المحلي، أو الجماعات الإرهابية العابرة للحدود.
نفس السيناريو والتدخلات الأمريكية والغربية في الشأن الداخلي الصيني، حيث تدعم الولايات المتحدة والغرب الطموحات الانفصالية لتايوان رغم الالتزام العلني بمبدأ “الصين الواحدة”، وعلاقات واشنطن بالمجموعات الانفصالية في شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ معروفة للجميع. ومن هذا المنطلق، تتفق روسيا والصين على رفض التدخلات الغربية في شؤونهما الداخلية، أو حتى في الشأن الداخلي لأي دولة أخرى في العالم. وترفض كل من بكين وموسكو فرض أي نمط سياسي أو تنموي من الخارج على دولة أو شعب؛ لأن من حق الدول والشعوب اختيار نموذجها السياسي والاقتصادي دون إملاءات، أو ضغوط، أو ابتزاز من الخارج، مع ضرورة الحفاظ على السيادة والسلامة الإقليمية لكل دولة. وتتطابق وجهات النظر الصينية والروسية في رفض أي عقوبات على الأفراد أو الشركات الصينية والروسية بوصفها عقوبات غير قانونية لم يفرضها مجلس الأمن؛ بل هي عقوبات سياسية جاءت فقط من الولايات المتحدة والدول التي تدور في فلكها.
ثانيًا- رفض الاحتواء المزدوج
تقوم الحسابات الصينية والروسية على أن الولايات المتحدة تنفذ سياسة “الاحتواء المزدوج” لكل من بكين وموسكو من خلال خلق بيئة سياسية وأمنية عدائية تحيط بالأراضي الروسية والصينية، فالاستثمار الدبلوماسي والعسكري الأمريكي خلال العقد والنصف الأخيرين يتمثل في تعميق الخلافات الجيوسياسية بين روسيا وجيرانها الأوروبيين. وفعلت واشنطن كل ما لديها من أجل تعميق الخلافات بين الصين من جانب، واليابان وكوريا الجنوبية ودول بحر الصين الجنوبي وأستراليا ونيوزيلندا والهند من جانب آخر. وهي محاكاة لإستراتيجيات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي كان يرى في الخلافات بين الاتحاد السوفيتي السابق والصين بمنزلة المسار الوحيد لبقاء الهيمنة الأمريكية في القارة الآسيوية. وتدرك الصين وروسيا خطورة سياسة “الاحتواء المزدوج”، ولهذا يعملان معًا من أجل إجهاض وإفشال أي محاولة لاحتواء أحدهما أو كليهما من جانب واشنطن.
ولهذا زادت التجارة بين روسيا والصين من نحو 130 مليار دولار نهاية عام 2021 إلى نحو 240 مليار دولار عام 2024. وينتظر البلدان مشروعات اقتصادية واعدة، مثل تنفيذ خط نقل الغاز الروسي إلى الصين “قوة سيبيريا 2″، الذي سينقل نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز إلى الصين سنويًّا. كما وُقِّعت في الآونة الأخيرة عشرات الاتفاقيات ليس فقط بين الحكومتين الصينية والروسية، بل بين المقاطعات الروسية ونظيرتها الصينية، وهو ما يكشف عن عمق التعاون الاقتصادي، ودعم كلا البلدين للآخر، فبينما دمرت أوروبا خطوط الغاز الروسي، مثل “نورد ستريم 1 و2″، كانت روسيا والصين تتفقان على بناء خط “قوة سيبيريا 2″، إلى جانب الخط الذي ينقل الغاز حاليًا من روسيا إلى الصين تحت اسم “قوة سيبيريا 1”. وبينما تحوّل أوروبا عائدات الأموال الروسية لدعم المجهود الحربي لأوكرانيا، تثمن موسكو الصادرات التكنولوجية الصينية إلى روسيا، وهو ما يكشف مستوى الثقة الكبير في العلاقة التي تجمع بين روسيا والصين، خاصةً أن روسيا والصين اتفقتا على مشروع اقتصادي إستراتيجي كبير، هو تنفيذ “الممر الاقتصادي” بين روسيا ومنغوليا والصين. وهناك اتفاق كامل على تعزيز التعامل بين البنوك، وتوسيع التسويات بالعملات الوطنية، ورفض فرض الرسوم الجمركية التي تحد من سيولة البضائع وحركتها حول العالم.
ثالثًا- التحالفات العسكرية
هناك توافق كامل في رؤية الصين وروسيا للتحالفات السياسية والعسكرية الغربية، فكلتاهما تراها موجهة حصريًّا ضد روسيا والصين؛ ولهذا تعارض الصين قيام حلف شمال الأطلسي “الناتو” بالعمل في الجانب الآسيوي. كذلك ترفض بكين وموسكو كل الأهداف الخاصة بتحالف “أوكوس” الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والذي يركز عمله في منطقة الإندو- باسيفيك. وأيضًا ترفض روسيا والصين تحالفات مثل “كواد الرباعي”، الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من الهند واليابان وأستراليا، ويرفضان كذلك عمل تحالف “العيون الخمس”، الذي يضم كندا ونيوزيلندا وبريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة ضد روسيا والصين. وهناك شعور مشترك بالخطر لدى موسكو وبكين من توسع الأصول والقواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية لبريطانيا والولايات المتحدة في أستراليا.
رابعًا- رفض التوسع النووي
تتبنى الصين بالشراكة مع روسيا موقفًا صارمًا بشأن نشر أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيميائية والنووية. وترى كل من روسيا والصين أن الولايات المتحدة انسحبت من كل الاتفاقيات التي تقيد الانتشار النووي حتى تسمح لنفسها بنشر الرؤوس النووية بالقرب من الأراضي الصينية والروسية، خاصةً بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية “منع إنتاج ونشر الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي يمكن أن تحمل رؤوسًا نووية”، المعروفة باتفاقية “آي إن إف”، في الثاني من أغسطس (آب) 2019، وعدم تجديد اتفاقية “نيو ستارت” الخاصة بالصواريخ النووية بعيدة المدى، التي ينتهي العمل بها في فبراير (شباط) المقبل بعد أن جُدّدت 5 سنوات فقط بدلًا من 10 سنوات في بداية ولاية الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن. وتقوم الحسابات الصينية والروسية على أن الولايات المتحدة الأمريكية سمحت لنفسها بنشر الصواريخ المتوسطة والقصيرة التي يمكن أن تحمل رؤوسًا نووية في آسيا بالقرب من الأراضي الصينية والروسية.
خامسًا- القبة الذهبية
لا تتوقف المساحة المشتركة والتنسيق بين روسيا والصين على كل الملفات والقضايا السابقة، بل ترفضان المشروع الأمريكي الجديد الذي تطلق عليه واشنطن “القبة الحديدية”، أو “القبة الذهبية”؛ لأن فشل هذا المشروع في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان دفع الإدارة الأمريكية الحالية إلى التفكير في نشر صواريخ تقليدية ونووية في الفضاء لتشكل قبة حماية للأراضي الأمريكية، واعتراض أي صواريخ تتجه نحو البر الأمريكي، وهذا يتنافى -من وجهة نظر بكين وموسكو- مع مبدأ “عدم عسكرة الفضاء” المتفق عليه في الأمم المتحدة والقوانين الدولية؛ ولهذا تنظر الصين وروسيا -بعين واحدة وقراءة مشتركة- إلى قضية نشر الأسلحة في الفضاء، وهو الرفض الكامل لعسكرة الفضاء، سواء بنشر أسلحة تقليدية، أو نووية.
سادسًا- آسيا الوسطى
هناك إدراك روسي صيني مشترك بأن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تحاول الإضرار بالمصالح الروسية الصينية في منطقة آسيا الوسطى، خاصة ما يتعلق بجنوب القوقاز ودول الفضاء السوفيتي السابق. ومن يدقق فيما يجري يتأكد له أن روسيا والصين تعملان معًا لتعزيز السلام والاستقرار، ومحاربة التنظيمات الإرهابية في تلك المنطقة الحيوية من العالم، خاصةً أن تلك المنطقة متاخمة على نحو مباشر للأراضي الصينية والروسية، وتتعرض لضغوط غير مسبوقة للتحول نحو الولاء الكامل للغرب والولايات المتحدة.
القراءة الصحيحة لطبيعة العلاقات الروسية الصينية تقول إنها أصبحت ذات معنى ومغزى إستراتيجي قائم على مبادئ وقيم ومصالح حقيقية تربط وتعزز العلاقات بين موسكو وبكين عقودًا مقبلة؛ ولهذا فإن الرهان الأمريكي بفصل روسيا عن الصين لا يمكن أن يتوافق مع الحجم الكبير للمصالح السياسية والعسكرية والتكنولوجية التي باتت تربط بالفعل بين موسكو وبكين.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.