شهدت العاصمة الروسية موسكو فجر الخميس 22 مايو (أيار) 2025 واحدة من أكثر الهجمات الجوية جرأة خلال الأسابيع الأخيرة، وأعلنت وزارة الدفاع الروسية -حتى لحظة كتابة هذه السطور- اعتراض وإسقاط ما يزيد على 30 مسيرة أوكرانية فوق أجواء العاصمة وضواحيها، بخلاف ما يزيد على مئة مسيرة فوق عدد آخر من المقاطعات الروسية.
استهداف العاصمة بالتحديد لا يسعنا وصفه إلا بأنه محاولة متكررة لزعزعة الاستقرار داخل العمق الروسي، فهذه العملية الجديدة تأتي في سياق تصعيد لافت للهجمات بالطائرات المسيرة، التي باتت تشكل إحدى أدوات الاستنزاف الأساسية، خاصةً للدفاعات الجوية، في الحرب الروسية- الأوكرانية، وذلك في ضوء التوسع المستمر في ميدان العمليات ليشمل مناطق ما بعد أو ما وراء الجبهة التقليدية.
الهجمات الحالية لا يمكن قراءتها بالطبع بمعزل عن تسلسل ضربات سابقة، أبرزها كانت تلك التي استهدفت العاصمة موسكو في 11 مارس (آذار) الماضي بأكثر من 90 مسيرة، وخلفت خسائر بشرية ومادية للمرة الأولى داخل موسكو منذ بداية النزاع.
الهجوم الأخير أقل عددًا نعم من حيث عدد المسيرات المستخدمة، لكنه أخطر من حيث التوقيت؛ لأنه يأتي في لحظة يعلن فيها الجيش الروسي تحقيق مكاسب ميدانية نوعية في جبهات خاركوف ودونيتسك، ويسعى إلى إقامة منطقة عازلة في سومي؛ وهنا تبدو الرسالة الأوكرانية واضحة من وراء الهجوم، وهي أنه لا أمان حتى في موسكو، والعمق الإستراتيجي الروسي لم يعد بعيدًا عن مسرح المواجهة. والأهم -في رأيي- أن نمط الهجمات بالمسيرات يكشف تحولًا تكتيكيًّا، فهذه المسيرات لا تستخدم للتخريب، فهي لا تخلف دمارًا كبيرًا في الواقع، لكنها باتت عنصرًا للتأثير النفسي والإعلامي، وأضع عدة خطوط تحت كلمة “الإعلامي”، فضلًا عن التأثير السياسي؛ ففي كل مرة تُضرب فيها العاصمة موسكو وتتعطل مطاراتها، يُعاد إنتاج خطاب الشك في فاعلية الدفاعات الجوية، ويفتح الباب مجددًا أمام تساؤلات الداخل الروسي عن كفاءة الدولة في حماية مراكزها الحيوية.
بالطبع هذا التصعيد يخدم في الوقت نفسه أجندتين متقابلتين؛ الأولى هي أجندة كييف، التي تحاول بذلك تعويض الخسائر الميدانية والتمهيد لموقف تفاوضي أقوى أمام ترمب والغرب، والثانية هي أجندة موسكو، التي تتخذ من هذه الهجمات فرصة لتبرير مزيد من الحشد العسكري، وربما اتخاذ قرارات توسعية في العمليات الجوية والصاروخية ضد البنية التحتية الأوكرانية.
ومن وجهة نظري -بصفتي مراقبًا مقيمًا في موسكو- أستطيع القول إن الهجمات المتكررة بالمسيرات الأوكرانية على موسكو لم تعد مجرد استثناء؛ بل أصبحت جزءًا من نمط حربي جديد، يدمج بين التكنولوجيا غير التقليدية والحرب النفسية، والصراع الحالي يظهر لنا يومًا بعد يوم أن خرائط المواجهة لا ترسم على الجبهة البرية فقط؛ بل فوق سماء المدن الرئيسة.
وفي سياق الحرب النفسية، تأتي زيارة بوتين يوم 20 مايو (أيار) 2025 إلى كورسك بعد فترة قصيرة من إعلان تحرير أراضيها من التوغلات الأوكرانية. فهذه الزيارة المفاجئة وغير المعلنة سلفًا، جاءت -في رأيي- لتكريس صورة القائد المنتصر، في منطقة شكلت تحولًا غير مسبوق في سياق الحرب، بعد اختراق أوكراني كبير وغير مسبوق في 6 أغسطس (آب) 2024، وهو أول خرق أجنبي فعلي للأراضي الروسية منذ عام 1945، بعد انتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
وأهمية معركة كورسك للروس، ولبوتين شخصيًّا، أنها ترتبط بالرمزية التاريخية العميقة في الذاكرة الروسية، بوصفها ساحة معارك مصيرية في الحرب الوطنية العظمى، وأقصد تحديدًا معركة كورسك 1943؛ مما يجعل زيارتها في هذه اللحظة تصعيدًا رمزيًّا، ورسالة سياسية إلى الداخل والخارج.
ويمكن قراءة تزامن استهداف موسكو بالمسيرات، ما أدى إلى إغلاق أحد مطاراتها الرئيسة، وهو مطار دوموديدوفا، مع توقيت زيارة بوتين إلى كورسك للاحتفاء بنصر مرحلي، في سياق تصعيدي، حيث ترى موسكو -رسميًّا- أن هذه الهجمات تمثل شكلًا من أشكال التحريض الغربي الممنهج، فهي ترى أن الأوكران لا يستطيعون بأنفسهم وبقدراتهم تحديد إحداثيات الاستهداف، وتربط كذلك بين تصعيد المسيرات وعمليات التسليح الغربية المستمرة لأوكرانيا، خاصةً من بريطانيا والولايات المتحدة، على الرغم من تصريحات ترمب وإدارته بشأن الحل السلمي، والهدنة، ووقف الحرب.
ومع ذلك، بإمكاننا رصد بعض التغير في المواقف الغربية فيما يتعلق بالدعم لأوكرانيا، فقد بدأت تتضح في أوروبا بوادر التململ من طول أمد الحرب، وهناك مطالب داخلية أوروبية بإعادة تقييم الدعم العسكري غير المشروط لكييف. أما واشنطن، ورغم استمرار تقديم المساعدات العسكرية والمالية لكييف، وآخرها حزمة أبريل (نيسان)، فإن تصريحات الإدارة الأمريكية، وخاصةً ماركو روبيو، تظهر ميلًا أكبر إلى ضرورة دخول أوكرانيا في مسار تفاوضي، ولو كان طويل المدى. وهذا الموقف الأمريكي مرده -في رأيي- إدراك واشنطن -تحت قيادة ترمب- أن تحقيق نصر عسكري حاسم ضد روسيا هو أمر مستبعد في المدى المنظور ومكلف كلما طال أمد الحرب.
لذلك يضع الوضع الحالي المفاوضات المحتملة أمام مفارقة صعبة؛ فموسكو ترفض أي تفاوض لا يأخذ في الحسبان الحقائق الجديدة على الأرض، وأوكرانيا على لسان زيلينسكي لا تمل من التكرار في العلن (بالطبع لا نعلم ما يقال في السر) أن السلام ممكن فقط باستعادة كل الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، على الأقل بعد عام 2022؛ لذلك فإن تصاعد الهجمات بالمسيرات، وضرب العمق الروسي، لا يبدو أنه يقنع موسكو بالتراجع؛ بل بالعكس، يمنحها تبريرًا لتوسيع العمل العسكري، ويفرض ضغوطًا على الطرف الأوكراني لاستنزاف موارده الدفاعية.
وإذا تحدثت من منظور التحليل السياسي، فيمكنني افتراض استئناف المفاوضات بين الروس والأوكران عبر قنوات رسمية مباشرة، أو بوساطات ثالثة (كتركيا أو الصين)، لكن هذه العودة إلى التفاوض تظل مرهونة بإعادة ضبط ميزان القوى، لا بالتصعيد الإعلامي أو الرمزي فقط.
وفي الختام، يمكن القول إن الهجمات بالمسيرات على موسكو، وزيارة بوتين إلى كورسك، تظهران -بوضوح- أن الحرب لم تعد مجرد مواجهة ميدانية على الجبهات، بل باتت حرب رموز ومعنويات وضغوط سياسية متبادلة.
كما تؤكد هذه التطورات أن روسيا -وفق منطقها الرسمي- لم تُحرَج أمنيًّا بهذه الضربات؛ بل وجدت فيها فرصة لتعزيز الخطاب التعبوي، وتصعيد عمليات الجيش الروسي في العمق الأوكراني؛ ومن ثم تتحول الحرب -تدريجيًّا، في هذه المرحلة- من “معركة حدود” إلى “معركة إرادات”، وستظل مفتوحة على جميع الاحتمالات، ما لم تتدخل جهة فاعلة، والأهم، قادرة، على إعادة رسم قواعد الاشتباك، وشروط التسوية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.