
في ديسمبر (كانون الأول) 2025، قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بجولة دبلوماسية مهمة شملت ثلاث دول: الأردن (15- 16 ديسمبر/ كانون الأول)، إثيوبيا (16- 17 ديسمبر/ كانون الأول)، وعمان (17- 18 ديسمبر/ كانون الأول). هذه الزيارة، التي جاءت في سياق التحولات الجيوسياسية السريعة والاضطرابات في طرق التجارة العالمية، خاصة في البحر الأحمر ومضيق هرمز، تعكس رؤية هندية متكاملة تربط بين غرب آسيا (الشرق الأوسط)، وإفريقيا، والمحيط الهندي كمسرح جيوسياسي واحد.
كما وصف وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار الشرق الأوسط بأنه “ممر حاسم” يربط إفريقيا بأوروبا، والمتوسط والإندو- باسيفيك، فإن هذه الجولة تجسد هذا النهج، حيث تتنوع الدول الثلاث في مواقعها الإستراتيجية: الأردن بوصفه حلقة وصل في غرب آسيا، وإثيوبيا بوصفها بوابة لإفريقيا، وعمان بوصفها حارسة لمضيق هرمز والمحيط الهندي الغربي.
تأتي هذه الزيارات في وقت يشهد فيه العالم توترات متزايدة؛ من حرب غزة إلى الاضطرابات في اليمن والسودان، مما أثر في مرور أكثر من 200 مليار دولار من التجارة الهندية سنويًا عبر البحر الأحمر. كما أنها تعزز طموح نيودلهي في قيادة “الجنوب العالمي”، خاصة مع انضمام إثيوبيا إلى مجموعة بريكس، وتأتي في ظل تنويع الهند لشراكاتها الاقتصادية بعيدًا عن الاعتمادات التقليدية، وسط ضغوط تجارية عالمية متجددة. هذه الجولة ليست مجرد زيارات ثنائية منفصلة؛ وإنما رسم لـ”مثلث نفوذ” يربط الخليج بغرب آسيا وإفريقيا.
كانت المحطة الأولى في عمان (الأردن)، حيث التقى مودي بالملك عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء جعفر حسن، وولي العهد الحسين بن عبد الله. هذه الزيارة، الأولى الكاملة لرئيس وزراء هندي منذ 37 عامًا (منذ زيارة راجيف غاندي عام 1988)، جاءت احتفالًا بمرور 75 عامًا على العلاقات الدبلوماسية. ركزت المحادثات على تعزيز التعاون في مجالات الطاقة المتجددة، وإدارة المياه، والتحول الرقمي، والتراث الثقافي، مع توقيع خمس مذكرات تفاهم في هذه المجالات، بالإضافة إلى اتفاق توءمة بين موقعي بترا وإلورا.
أكد الجانبان التزامهما المشترك بمكافحة الإرهاب، وحدّدا هدفًا لمضاعفة التجارة الثنائية من 2.3 مليار دولار (في 2024) إلى 5 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. كما أعرب الأردن عن نيته الانضمام إلى مبادرات هندية، مثل التحالف الدولي للطاقة الشمسية، والتحالف العالمي للوقود الحيوي، والتحالف للبنية التحتية المقاومة للكوارث. يُعد الأردن شريكًا معتدلًا ومستقرًا في منطقة مضطربة، مما يسمح للهند بالانخراط في غرب آسيا دون التورط في الصراعات الإقليمية. كما أن استقرار الأردن حاسم لأمن الطاقة الهندي، وحماية الجالية الهندية الكبيرة في المنطقة. في سياق التوترات الإقليمية بعد حرب غزة، أكدت الزيارة دور الأردن كعامل استقرار، مع تبادل الآراء بشأن السلام الإقليمي. هذا النهج يعكس سياسة “التفكير غربًا” التي أطلقتها الهند، والتي توسعت لتشمل دولًا خارج مجلس التعاون الخليجي، مثل الأردن ومصر.
انتقل مودي إلى أديس أبابا، في زيارة هي الأولى لرئيس وزراء هندي منذ 2011، والأولى الثنائية الكاملة. استقبله رئيس الوزراء آبي أحمد شخصيًا، وقاده في جولة غير مقررة إلى متحف العلوم وحديقة الصداقة، ثم قاده إلى المطار عند المغادرة، وهي إيماءات دبلوماسية نادرة تعكس الاحترام المتبادل. منح آبي أحمد مودي أعلى وسام إثيوبي مدني (النيشان العظيم لإثيوبيا)؛ تقديرًا لدوره في تعزيز الشراكة.
رفع الجانبان العلاقات إلى مستوى “شراكة إستراتيجية”، مع توقيع مذكرات تفاهم في مجالات البنية التحتية، والاقتصاد الرقمي، والزراعة، والاستثمار. ألقى مودي خطابًا أمام البرلمان الإثيوبي، مشددًا على أن “إثيوبيا تقع في مفترق طرق إفريقيا، والهند في قلب المحيط الهندي”، وأن البلدين شريكان طبيعيان في السلام الإقليمي، والأمن، والربط، وقد استخدم استعارة “عندما تتحد خيوط العنكبوت، يمكنها ربط أسد”؛ ليؤكد تضامن الجنوب العالمي.
إثيوبيا، مقر الاتحاد الإفريقي وثاني أكبر دولة إفريقية سكانًا، تمثل بوابة الهند إلى القارة. مع مرور أكثر من 200 مليار دولار من التجارة الهندية عبر البحر الأحمر، تهدد الاضطرابات في القرن الإفريقي المصالح الهندية مباشرة. تركز الهند على شراكات تنموية شفافة تركز على بناء القدرات دون فخ الديون، خلافًا للنموذج الصيني الذي وقعت فيه إثيوبيا سابقًا. استثمرت الشركات الهندية أكثر من 5 مليارات دولار في إثيوبيا، وخلقت أكثر من 75 ألف وظيفة. هذه الزيارة تعزز طموح الهند في قيادة الجنوب العالمي، خاصة مع رئاستها لـ”بريكس” في 2026.
اختتم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي جولته الدبلوماسية في مسقط، في زيارة رسمية استمرت يومين (17- 18 ديسمبر/ كانون الأول 2025)، احتفالًا بمرور 70 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الهند وعمان. هذه الزيارة، التي جاءت بدعوة من السلطان هيثم بن طارق، تمثل الزيارة الثانية لمودي إلى عمان، وتأتي عقب زيارة السلطان إلى الهند في ديسمبر (كانون الأول) 2023. استقبل مودي في مطار مسقط الدولي صاحب السمو السيد شهاب بن طارق آل سعيد، نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع، مع حفاوة رسمية شملت مراسم ترحيبية، وودّعه في نهاية الزيارة بالسمو نفسه، بإيماءة “ناماستي” الهندية التقليدية، تعبيرًا عن عمق الروابط الثقافية والشخصية.
كانت الزيارة غنية باللقاءات الرفيعة المستوى، حيث التقى مودي بالسلطان هيثم بن طارق في قصر البركة، وعقدا جلسة مباحثات ثنائية تلتها محادثات وفدية موسعة. أعرب الجانبان عن ارتياحهما إلى مستوى العلاقات الثنائية الممتازة، التي تشمل مجالات التجارة والاستثمار والدفاع والأمن والتكنولوجيا والتعليم والطاقة والفضاء والزراعة والثقافة والروابط بين الشعبين. وفي إحدى اللحظات البارزة، منح السلطان هيثم بن طارق مودي أعلى وسام مدني عماني (وسام عمان من الدرجة الأولى)؛ تقديرًا لإسهاماته الاستثنائية في تعزيز العلاقات الثنائية وقيادته العالمية الرؤيوية. يُعد هذا الوسام الـ29 في قائمة الجوائز الدولية المدنية التي يحصل عليها مودي، وخصصه لـ”دفء الشعبين الهندي والعماني ومحبتهما”.
ركزت الزيارة على تعزيز الشراكة الاقتصادية، حيث شهدت توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، التي وُصفت بأنها “معلم مهم” في العلاقات الاقتصادية الثنائية. وقع الاتفاقية وزير التجارة والصناعة الهندي بيوش غويال ونظيره العماني قيس بن محمد اليوسف، بحضور الزعيمين. توفر الاتفاقية وصولًا حرًا من الرسوم الجمركية لأكثر من 98% من الخطوط التعريفية العمانية، تغطي نحو 99.4% من قيمة الصادرات الهندية إلى عمان، في حين تقدم الهند تخفيضات تعريفية على نحو 78% من خطوطها التعريفية، تغطي 95% من الواردات من عمان. تستثنى من الاتفاقية منتجات حساسة، مثل الألبان، والذهب، والفضة، والأحذية من الجانب الهندي، مع التركيز على قطاعات مثل المنسوجات، والمجوهرات، والأحجار الكريمة، والمنتجات الهندسية، والأدوية، والمعالجة الغذائية، والطاقة المتجددة.
بلغ حجم التجارة الثنائية في السنة المالية 2024- 2025 نحو 10.6 مليار دولار (صادرات هندية 4.1 مليار دولار، واردات 6.5 مليار دولار)، مع عجز تجاري لصالح عمان بسبب الطاقة والأسمدة. من المتوقع أن تدفع الاتفاقية التجارة إلى 20 مليار دولار أو أكثر، مع فتح أبواب جديدة للاستثمارات، خاصة في رؤية عمان 2040 للتنويع الاقتصادي، ورؤية الهند للنمو المستدام. كما تشمل الاتفاقية تسهيلات للمهنيين الهنديين، مثل رفع حصة النقل داخل الشركات إلى 50%، وتمديد إقامة مقدمي الخدمات التعاقدية إلى عامين، ومنح 100% استثمارًا أجنبيًا مباشرًا للشركات الهندية في قطاعات الخدمات الرئيسة.
إلى جانب الـ(CEPA)، وقع الجانبان عدة مذكرات تفاهم ووثائق، منها:
هذه الاتفاقيات تعكس التركيز على التنويع الاقتصادي، والابتكار، والروابط الثقافية. في البعد الأمني البحري، تُعد عمان شريكًا استراتيجيًا موثوقًا للهند في الخليج، مع تعاون دفاعي عميق يعود إلى عقود. منحت عمان الهند وصولًا لوجستيًا إلى ميناء “دقم” الإستراتيجي منذ 2018، مما يتيح للبحرية الهندية إعادة التزود والصيانة، ويعزز الوجود الهندي في غرب المحيط الهندي. يدعم هذا الوصول رؤية “ساغار” (ماهاساغار) الهندية، وسياسة “الربط غربًا”، خاصة في مواجهة التحديات الأمنية، مثل الاضطرابات في مضيق هرمز والبحر الأحمر. خلال الزيارة، أكد الجانبان تعزيز التعاون في الأمن البحري، بما في ذلك التمارين المشتركة والتدريب، مع مشاركة أكثر من 6000 شركة هندية في عمان، وتحويلات مالية تصل إلى مليارات الدولارات سنويًا من الجالية الهندية الكبيرة.
تمثل هذه الجولة تحولًا في السياسة الخارجية الهندية نحو معاملة غرب آسيا وإفريقيا والمحيط الهندي بوصفها مناطق مترابطة. في ظل التوترات العالمية، من التعريفات الأمريكية المتجددة إلى الصراعات الإقليمية، تسعى الهند إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية والإستراتيجية. هذا النهج يركز على الاستقرار، والربط الاقتصادي، والأمن البحري، دون التورط في الصراعات الداخلية.
تعزز الزيارة دور الهند بوصفها قوة قيادية في الجنوب العالمي، من خلال مبادرات تنموية شفافة ومؤسسات دولية وإقليمية. كما أنها تعكس دبلوماسية شخصية فعالة، مع إيماءات مثل قيادة رئيس وزراء إثيوبيا لمودي، أو وداع ولي عهد الأردن له. رسمت جولة مودي “نسيج نفوذ جديد” يربط المناطق؛ مما يعزز مكانة الهند بوصفها لاعبًا متوازنًا في عالم متعدد الأقطاب، مع الحفاظ على استقلاليتها الإستراتيجية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير