تقدير موقف

مودي في إثيوبيا.. اختبار الحياد الإيجابي بين أديس أبابا والقاهرة


  • 11 ديسمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: ethiopianmonitor.com

في سياق الديناميكيات الجيوسياسية المتسارعة لعام 2025، تمثل زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى إثيوبيا من 15 إلى 18 ديسمبر (كانون الأول) لحظة فارقة في تاريخ العلاقات الهندية- الإثيوبية، وأوسع نطاق الدبلوماسية الهندية في إفريقيا. وفقًا لمصادر رسمية، سيشمل الجدول الزيارة الثلاثية لمودي إلى الأردن وإثيوبيا وعُمان، مع التركيز الرئيس على تعزيز الشراكات الإستراتيجية في الشرق الأوسط وإفريقيا. هذه الزيارة، التي تأتي بعد قمة مجموعة العشرين في غوهانسبرغ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، حيث التقى مودي بنظيره الإثيوبي آبي أحمد، تعكس التزام الهند بتعزيز دورها بوصفها قوة جنوبية عالمية، مع التركيز على النمو المستدام والشراكة تحت عنوان “الجنوب- جنوب”.
تاريخيًا، ترتبط الهند وإثيوبيا بعلاقات عميقة تعود إلى أكثر من ألفي عام، حيث شهدت إمبراطورية أكسوم التجارة في الحرير والتوابل مقابل الذهب والعاج. في العصر الحديث، خلال الحرب العالمية الثانية، أسهم الجنود الهنود (تحت راية بريطانيا والحلفاء) في تحرير إثيوبيا من الوجود الإيطالي عام 1941، وأصبحت إثيوبيا أول دولة من القرن الإفريقي تفتح سفارة في نيودلهي عام 1948. وفي ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، شكّل المعلمون الهنود العمود الفقري للنظام التعليمي الإثيوبي الحديث. حتى في الفترة من عام 1974 إلى عام 1991، التي شهدت توترًا في العلاقات، حافظت الهند على حضورها الثقافي والإنساني. وبعد 1991، عادت العلاقات إلى الازدهار بسرعة، لتصل إلى ذروة جديدة في عهد ناريندرا مودي. اليوم، مع اقتصاد إثيوبيا الناشئ كثالث أكبر اقتصاد في إفريقيا جنوب الصحراء، وانضمامها إلى مجموعة بريكس، تمثل هذه الزيارة فرصة لتعزيز التعاون في مجالات الطاقة المتجددة، والرقمنة، والدفاع.

منذ عام 2014، أعادت الهند صياغة سياستها الإفريقية جذريًا، متحولة من نهج تقليدي قائم على المساعدات إلى شراكة إستراتيجية شاملة. يُعد مودي أكثر رئيس وزراء هندي زار إفريقيا في التاريخ، حيث شملت جولاته أكثر من 20 دولة إفريقية. في عام 2025 وحده، افتتحت الهند 18 بعثة دبلوماسية جديدة في القارة، ليصل العدد الإجمالي إلى 47 سفارة وقنصلية. قمة الهند- إفريقيا الثالثة في نيودلهي عام 2015، التي شهدت حضور قادة 54 دولة إفريقية، شكلت نقطة تحول. تبعها دعم الهند لانضمام الاتحاد الإفريقي عضوًا دائمًا في مجموعة العشرين عام 2023، ثم انضمام إثيوبيا إلى بريكس عام 2024 بدعم هندي واضح. كل هذه الخطوات تعكس رؤية الهند لنظام عالمي تريد أن تؤدي فيه دورًا سياسيًا أكبر.

ارتفع حجم التبادل التجاري بين الهند وإثيوبيا من أقل من مليار دولار عام 2014 إلى نحو 3 مليارات دولار متوقعة عام 2025. إثيوبيا هي ثاني أكبر متلقٍ لخطوط الائتمان الهندية في إفريقيا، حيث مولت الهند مشروعات بنية تحتية كبرى في السكك الحديدية، ومصانع السكر، ونقل الطاقة الكهربائية. في السياق الإفريقي الأوسع، تجاوزت التجارة الهندية- الإفريقية حاجز 100 مليار دولار في السنة المالية 2024- 2025، وتسعى الهند إلى مضاعفتها إلى 200 مليار بحلول 2030. الشركات الهندية أصبحت لاعبًا رئيسًا في قطاعات الأدوية، والتكنولوجيا الزراعية، والطاقة المتجددة، والتصنيع الخفيف في إثيوبيا ودول أخرى.

تقع إثيوبيا في قلب قرن إفريقيا، وهي منطقة حيوية لأمن الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي. تسعى إثيوبيا إلى الوصول إلى ميناء بحري بعد فقدانها إريتريا عام 1993، مما يجعلها شريكًا للهند في مبادرة “ساغار” (الأمن والنمو للجميع في المنطقة). كما تشارك إثيوبيا في تمارين بحرية مشتركة مع الهند لمكافحة القرصنة والإرهاب البحري. على المستوى السياسي، تدعم إثيوبيا طموح الهند للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي المُصلَح، في حين تقدم الهند دعمًا تنمويًا غير مشروط يحترم سيادة الدول الإفريقية، وهو ما يُميّز النهج الهندي عن النهج الصيني أو الغربي في كثير من الأحيان.

من المتوقع أن تركز الزيارة على المجالات التالية:

  • توقيع اتفاقيات جديدة في التحول الرقمي
  • تعزيز التعاون الدفاعي والأمني، بما في ذلك التدريب ونقل التكنولوجيا.
  • إطلاق مشروعات مشتركة في الطاقة النظيفة والزراعة الذكية.
  • الإعداد لاستضافة إثيوبيا القمة الرابعة لمنتدى الهند- إفريقيا في المستقبل القريب.

سياسيًا، ستعزز الزيارة صورة الهند بوصفها شريكًا موثوقًا به وغير استغلالي، مما يقوي موقفها في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد. اقتصاديًا، ستفتح أبوابًا جديدة للشركات الهندية في السوق الإفريقية الموحدة. وإستراتيجيًا، ستعمق التعاون في أمن المحيط الهندي ومكافحة الإرهاب. رغم الإمكانات الكبيرة، تواجه العلاقات تحديات عدة، منها: المنافسة الشرسة من الصين، والاضطرابات الداخلية في إثيوبيا، وضعف آليات المتابعة للاتفاقيات الموقّعة سابقًا، والقيود المالية الهندية مقارنة بالقدرات الصينية. كما أن غياب إستراتيجية شاملة طويلة الأمد لإفريقيا في الخطاب السياسي الهندي الداخلي قد يحد من استدامة الزخم.

وعلى صعيد آخر، تأتي زيارة مودي إلى إثيوبيا في ظلّ التوتر المستمر بين إثيوبيا ومصر بشأن سدّ النهضة، ويُلاحَظ أن بعض الأطراف الإثيوبية تحاول تصوير أي تقارب هندي- إثيوبي على أنه دعم ضمني لموقف أديس أبابا في النزاع، بل يُروَّج أحيانًا لفكرة أن الهند يمكن أن تُستَخدَم ورقة موازنة جيوسياسية ضد القاهرة، لكن هذا التفسير يصطدم بحقائق ثابتة في السياسة الخارجية الهندية منذ عقود. فمنذ بداية أزمة سد النهضة عام 2011، حافظت نيودلهي على موقف محايد تمامًا، ومُعلَن بصراحة. في كل بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية الهندية تكرر الهند دعوتها إلى “حل تفاوضي سلمي بين الأطراف الثلاثة يحترم مصالح الجميع، ويستند إلى مبادئ القانون الدولي للأنهار العابرة للحدود”. ولم تُبدِ الهند في أي لحظة دعمًا لموقف إثيوبيا في ملء السد أو تشغيله من جانب واحد، كما لم تُبدِ أي انتقاد مباشر لموقف مصر. هذا الحياد ليس تكتيكيًا مؤقتًا؛ وإنما جزء من عقيدة إستراتيجية أعمق؛ لأن العلاقات الهندية- المصرية الإستراتيجية وصلت في السنوات الأخيرة إلى ذروة غير مسبوقة، فقد رفع البلدان علاقاتهما إلى مستوى “الشراكة الإستراتيجية” عام 2023، ووقّعا صفقات دفاعية كبرى تشمل تصنيع طائرات مقاتلة وصواريخ، وتدريبات مشتركة، فضلًا عن استثمارات هندية ضخمة في منطقة محور قناة السويس الاقتصادي. ومصر ليست مجرد شريك تجاري أو دفاعي؛ وإنما لاعب أساسي في أمن البحر الأحمر وقناة السويس، وهي ممر حيوي لـ12% من التجارة العالمية و30% من تجارة الهند مع أوروبا. أي انحياز هندي إلى إثيوبيا في ملف السد من شأنه أن يُعرّض هذه المصالح الحيوية للخطر، وهو ثمن لا يمكن لنيودلهي أن تدفعه.

كما أن مبدأ الهند الإستراتيجي ثابت في رفض الانخراط في محاور إقليمية متصارعة؛ ففي جنوب آسيا، ترفض الهند أن تكون جزءًا من محور أمريكي ضد الصين، وفي الوقت نفسه ترفض أن تكون جزءًا من محور صيني- روسي- باكستاني. وفي الشرق الأوسط، تحافظ على علاقات ممتازة مع إسرائيل والسعودية وإيران في آن واحد. وفي إفريقيا، تطبّق الإستراتيجية نفسها: شراكات تنموية مع الجميع دون الانحياز إلى طرف ضد آخر. هذا النهج هو ما جعل الهند تحظى بثقة معظم الدول الإفريقية، وهو ما يُميّزها عن الصين التي تُتهم أحيانًا بالتدخل السياسي عن طريق الديون، وعن الغرب الذي يُتهم بالتدخل عن طريق الشروط السياسية.

وتؤدي الذاكرة التاريخية المشتركة بين الهند ومصر دورًا سياسيًا لا يمكن إغفاله؛ فالعلاقات بين جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر كانت رمزًا للتضامن الجنوبي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، ومصر كانت من أوائل الدول التي دعمت الهند في الأمم المتحدة. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت مصر تطلع على سياسات منتدى I2U2 (الهند- إسرائيل- الإمارات- الولايات المتحدة)، وهي علاقات لا يمكن التفريط فيها من أجل مكاسب تكتيكية قصيرة الأمد مع إثيوبيا.

لذلك، مِن المتوقع أن تتخذ نيودلهي خلال زيارة مودي سلسلة من الإجراءات الدبلوماسية الدقيقة لإفراغ أي محاولة استغلال من مضمونها، مثل: إعادة التأكيد الصريح على الحياد في بيان مشترك أو مؤتمر صحفي نهائي، يُعبر أن الهند تدعم الحوار الإفريقي بقيادة الاتحاد الإفريقي لحل جميع القضايا العابرة للحدود، بما في ذلك إدارة الموارد المائية المشتركة، وتتجنّب أي ذكر مباشر أو غير مباشر لسد النهضة في الوثائق الموقّعة، والتركيز بدلًا من ذلك على مجالات لا علاقة لها بالمياه، مثل التحول الرقمي، والتعليم، والصحة، والدفاع غير المرتبط بالأسلحة الثقيلة. وإبراز المشاركة الهندية في مشروعات مائية في دول حوض النيل الأخرى (مثل مشروعات الري في كينيا) لتأكيد أن دعم الهند للتنمية المائية شامل وغير منحاز. ومن الممكن أن تنسق مع القاهرة من خلال القنوات الدبلوماسية لتوضيح طبيعة الزيارة، وتأكيد أنها لا تستهدف مصر، وهو أمر اعتادت الهند القيام به في حالات مماثلة (مثل زيارة مودي إلى السعودية عام 2016 رغم التوتر الهندي- الباكستاني).

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع