جغرافيا

من المدينة البيضاء إلى القطب الشمالي


  • 8 أغسطس 2024

شارك الموضوع

(1) بيلوغورود

في العام الثاني من الحرب الروسية الأوكرانية (2023) تكرر اسم مدينة بيلوغورود ضمن الأهداف التي وضعتها أوكرانيا للرد على روسيا.

هذه مدينة صغيرة لا يعرفها كثيرون، على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وتقع على مسافة قريبة من أهم مدن الشرق الأوكراني (خاركيف).

تذكرت هذه المدينة حين قمت برحلة إليها في شتاء عام 2015، انتقلت إليها عبر طائرة نقل ركاب صغيرة أقرب إلى ما يسمى “التاكسي الطائر”.

في الصورة المرفقة التالية تبدو المدينة وقتما أخذت صورة لها من الطائرة، بيضاء من تراكم الثلج عليها. لكن هذه الصورة ليست دليلًا على الاسم، فكل البلدات الروسية إذا صورناها من الطائرة من ارتفاع منخفض ستبدو على هذه الهيئة البيضاء.

الترجمة الحرفية لمعنى كلمة “بيلوغورود” مؤلفة من مقطعين، هما: “بيلو” بمعنى “أبيض”، و”غورود” بمعنى “مدينة”. والأبيض هنا يحمل المعنى الحرفي للون، ويحمل معنى الجمال والبهاء.

تقع “المدينة البيضاء” على نهر الدون شمالي الحدود مع أوكرانيا بنحو 30 كم فقط. كانت الحدود الغربية لروسيا جبهة هجوم شرس للقوات النازية الزاحفة على موسكو خلال الحرب العالمية الثانية، فدمرت أجزاء كبيرة من مدن كثيرة، من بينها بيلوغورود.

حين نزلت في مطار المدينة كانت درجة الحرارة دون الصفر بعشرين، واستقبلني في المطار ثلاثة من أهل المكان: الثلج، والصقيع، والرياح الشديدة.

مع أولى الجولات في المدينة ذات المناخ القاري الشديد البرودة، تذكرت عبارة سمعتها من سيدة روسية عام 1997، حين وصلت أول مرة إلى سانت بطرسبورغ. قالت لي السيدة الحكيمة وهي ترى تأثري الشديد بالبرد والصقيع: “هذه المدينة لم يكن من الواجب أن يعيش فيها بنو البشر… ولم يبقَ على قيد الحياة هنا سوى الأقوياء الذين نجوا من الفناء”.

في هذه العبارة إشارة إلى الحتم البيئي، أو ما يمكن تسميته الانتخاب الطبيعي الذي حدثنا عنه داروين.

في صبيحة اليوم التالي لوصولي إلى بيلوغورود وسعت دائرة التجوال، فلم أجد معنى للترجمة الحرفية عن “المدينة البيضاء” بقدر ما فهمت أن المقصود هو جمال المدينة.

أعادني معنى الاسم إلى مدينة الإسكندرية، التي كانت توصف بأنها مدينة بيضاء قبل ألف سنة؛ فحينما زار ابن جبير الأندلسي الإسكندرية سمَّاها “المدينة البيضاء”؛ لأن أهل الإسكندرية كانوا يبنون مساكنهم من حجر أبيض، ويطلون جدرانها باللون الأبيض، حتى إنه في الليالي القمرية يسير الناس في الليل دونما حاجة إلى مصابيح، بل إن الرحالة قالوا إنه بوسعك أن تضع الخيط في المخيط ليلًا في الإسكندرية من دون حاجة إلى مصابيح، من شدة بياض بيوت المدينة.

 في اليوم التالي زرت جامعة بيلوغورود، ومن الطابق العلوي للمبنى الإداري لرئيس الجامعة أخذت الصورة المرفقة، ناظرًا إلى ثلاثية النهر، والغابة، والهندسة المعمارية على ضفاف نهر الدون (الذي سيصب لاحقًا عبر أوكرانيا في البحر الأسود) وقد تجمدت مياهه.

على مرتفع صغير من المدينة رأيت تمثالًا لقديس يرفع صليبًا يبارك المدينة، ويحرس أهلها.

هذا بالطبع تمثال صغير مقارنة بالنسخة الأكبر من تمثال ريو دي جانيرو في البرازيل، حيث جُسِّدَ السيد المسيح الذي يشرف على جبل جرانيتي، يبارك المدينة وأهلها.

تشترك بيلوغورود مع أعراف المدن المسيحية التي تسعى إلى التمسك بما يسمى “القديس الحارس” (كانت مصر أقدم حضارة في العالم تؤسس هذا التقليد منذ العصر الفرعوني، فكلمة مصر “المحروسة” مشتقة لدى البعض من التسمية المصرية القديمة “الأرض التي يحرسها الإله بتاح”).

 

(2) مورمانسك

غير مصدق نفسي، في عام 2016، وفي شهر رمضان الكريم، وثّقتُ لحظة نادرة لطالما قرأت عنها في كتب عجائب الجغرافيا والفلك.

أنا عادة لا أطيق حمل ساعة يد؛ لأنني في بلاد النيل أستطيع أن أخبرك بالتوقيت الصحيح في أي ساعة من نهار أو ليل دونما حاجة إلى ما يقيد معصمي.

لكن الصورة المرفقة كانت تستوجب توثيق اللحظة، الساعة الآن تقترب من منتصف الليل، والشمس لا تزال ساطعة في الأفق، وتبدو قرصًا منيرًا تنزل بين عمارتين كبيرتين في مدينة “مورمانسك” داخل الدائرة القطبية التي تجمع روسيا بكل من فنلندا والنرويج.

سأعترف لك منذ البداية أنني لم أصبر في رمضان تلك السنة حتى لحظة غروب الشمس هذه التي ستحدث في منتصف الليل لكي أتناول إفطاري، وبعدها بعدة دقائق تشرق شمس يوم جديد، فأشقى بصيام نهار طويل سرمدي.

صحيح أنني جئت “مورمانسك” قادمًا من موسكو في زيارة عابرة لمدة أربعة أيام، مستكشفًا هذه المدينة، لكنني حتى في موسكو كنت آخذ بالفتوى الشهيرة لمسلمي المناطق الشمالية، وكنت أفطر وفق توقيت أقرب بلد إسلامي.

تبيح الفتوى الشهيرة المعروفة لمسلمي البلاد القطبية بالإفطار وفقًا لأقرب بلد إسلامي حتى السابعة مساء بدلًا من الشقاء حتى ساعة متأخرة من الليل.

المدهش أن مسلمي هذه المناطق قبل الفتوى التي صدرت منذ القرن التاسع عشر- والتي صدرت من مصر، وأباحت لهم الإفطار وفق توقيت الدولة العثمانية آنذاك- كانوا يصومون ما بين 20 و22 ساعة في اليوم في بعض السنوات. هل تصدق هذا؟ أي إيمان من حديد؟ أي عزيمة من فولاذ؟

السؤال الذي سيخطر على بالك هو: كيف وصل الإسلام إلى هذه البلاد على حدود المنطقة القطبية الشمالية؟

الحقيقة أن القصة تعود إلى العهد القيصري، حين أرسلت موسكو بعض مسلمي آسيا الوسطى وتترستان للعمل في المناطق الحديثة التعمير في القطب الشمالي، ومن بينها هذه المنطقة التي أزورها في “مورمانسك”.

لماذا تبقى الشمس إلى منتصف الليل؟ دعني أغامر وأجرب تبسيط معلومة معقدة في كلمات بسيطة:

الأرض ليست كروية كما ندرس لطلابنا؛ بل هي أقرب إلى شكل بيضوي، عريضة من المنتصف، ومستدقة من الطرفين عند القطبين الشمالي والجنوبي.

نعلم أن الأرض تدور حول نفسها بمحور مائل قبالة الشمس في دائرة واسعة تسمح لنصف الأرض بأن يقابل الشمس (النهار)، في حين لا يرى النصف الآخر الشمس (الليل)؛ ومن ثم تتعاقب دورة الليل والنهار .

في فصل الصيف الشمالي، كلما اتجهنا شمالًا بعيدًا عن خط الاستواء تصغر دوائر العرض في الشكل الكروي أو البيضوي للأرض، حتى إذا وصلنا إلى المنطقة القطبية صارت الدائرة صغيرة جدًّا، إلى درجة أن الأرض حينما تدور حول نفسها بمحور مائل قبالة الشمس لا يختبئ منها أي شطر، فتبقى الشمس ظاهرة في الأفق في نهار متصل يصل في بعض الأحيان- كما في أقصى شمال النرويج- إلى 90 يومًا نهارًا متصلًا بلا ليل.

ولمن يبلغ نقطة القطب الشمالي من مستكشفين، أو علماء، أو عسكريين في بلاد الشمال، يمكنهم أن يروا شمسًا لا تغيب 6 أشهر متتالية.

ويحدث العكس تمامًا بحلول الصيف الجنوبي حينما تدور الأرض قبالة الشمس مواجهة إياها بنصفها الجنوبي، فتكون المناطق القطبية الشمالية بعيدة جدًّا عن الشمس، فيحل فيها ليل دائم لا يرى الشمس، وسنحتاج الفتوى نفسها هنا أيضا كي نحدد ساعات صوم وفق أقرب بلد إسلامي لكيلا يجد المسلم النهار قصيرًا جدًّا لا يزيد على بضع ساعات لا تليق بفقه الصيام الإسلامي.

ها هي السطور تنتهي قبل أن أكتب نفحة عن مدينة “مورمانسك” التي انتزعها الروس هنا من بين جليد وبحر وجبل ليجعلوا منها قلعة صناعية، ومقرًا للأسطول النووي، وقاعدة للنقل البحري عبر القطب الشمالي، ويجعلوا منها منطقة محظورة على الغرباء.

لم أكتب شيئًا عن “مورمانسك” التي تقف على مرمى حجر من حدود النرويج، ومرمى حجرين من حدود فنلندا، “مورمانسك” التي عرفنا منها ومن فنلندا في القرن التاسع عشر أن المسلمين الذين جاءوا هنا لديهم حالة خاصة جدًّا؛ وهي الصيام حتى “شمس منتصف الليل”!

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع