قامت القوة الغربية، وبخاصة الأمريكية، على ثلاثة أركان، وهي: الآلة العسكرية والحربية، والآلة الاستشراقية، والآلة الإعلامية. وهذه الآلات الثلاث عملت ويعمل بعضها مع بعض في انسجام وتكامل وتنسيق، ولا يمكن أن تدخل إحداها معركة دون البقية، وكانت أغلب معارك هذه القوة الغربية تحسم بواسطة الآلة الإعلامية؛ وذلك لقدرتها على صناعة الرأي العام العالمي، وتوجيهه والضغط به، فتراها تهدم مسلمات، وتقيم أخرى، وتنشئ بَدَهيات، وتلغي أخرى.
ومن أدل الأشياء على عمل هذه الآلة الإعلامية الغربية، وأكثرها إظهارًا لتأثيرها، هو الدور الذي أدّته في الحرب الباردة، فرغم تقدم الاتحاد السوفيتي في سباق التسلح (الآلة العسكرية)، وتفوقه في ميدان الاستخبارات والجاسوسية (وهو شق من الآلة الاستشراقية)، فإنه كان ضعيفًا على مستوى الآلة الإعلامية وصناعة الرأي العام؛ وهنا يبرز دور هذه الآلة الإعلامية الغربية وصناعتها السينمائية، التي بذلت جهدها، وعملت عملها في حشد الجماهير، وتكوين الرأي العام، والترويج لنمط العيش الأمريكي، وقيم الحياة الغربية، فأصبحت الشعوب تأبى على حكوماتها الانضمام إلى المعسكر الشرقي، لما تأثرت به تلكم الشعوب من مظاهر الحياة الغربية، ونمط العيش الأمريكي، الذي أسهمت في انتشاره وإذاعته بين الناس الآلة الإعلامية الغربية، والصناعة الهوليودية، ليبدأ الاتحاد السوفيتي كل حين يخسر شيئًا من مواليه، وقسطًا من أراضيه، إلى أن انهار مع توالي الأيام، وتعاقب الليل والنهار، وبقي على هذه الحال إلى أن تفكك وانهار.
لم ترث روسيا من الاتحاد السوفيتي قوته العسكرية والاستخباراتية فقط؛ بل ورثت أيضًا تلك الصورة النمطية التي عملت الآلة الإعلامية الغربية على الترويج لها، والقائمة على حقيقة أن الاتحاد السوفيتي هو أول من اعترف بدولة إسرائيل، والترويج الإعلامي الذي تم لهذا الأمر جعل الرأي العام الشعبي، في الدول العربية والإسلامية، ينفر من الاتحاد السوفيتي، وحاملة إرثه روسيا، ويبتعد عنها؛ وذلك أن القضية الفلسطينية، عند العرب والمسلمين، كانت ولا تزال تنزل عندهم منزلة العين التي ينظرون بها إلى العالم، وميزانهم في القبول والإعراض، و مقياسهم في الأخذ والرد، مع أن موقف السوفيت قديمًا لم يكن بتلك الصورة النمطية التي عملت الآلة الإعلامية الغربية على تثبيتها في العقول، وترسيخها في الأذهان.
وفي لقاء تليفزيوني أجري قبل سنوات، في برنامج “شؤون الساعة”، الذي يقدمه محمود رضا نصر الله، استضاف فيه المستشرق السوفيتي “يفغيني بريماكوف”؛ أحد قداح زناد الفكر الإستراتيجي، وهو العقل المدبر لخطة روسيا لكسر الهيمنة الغربية فيما يعرف بمثلث بريماكوف، الذي شغل بعد ذلك منصبي رئيس وزراء روسيا من عام 1998 إلى عام 1999، ووزير الشؤون الخارجية من عام 1996 إلى عام 1998.
وحين سئل بريماكوف عن مسألة الاعتراف السوفيتي بدولة إسرائيل، قال: “نعم، هذا ما حصل في التاريخ، هذا واقع، لكن الاتحاد السوفيتي كان في البداية يدعو إلى أن تكون دولة ذات قوميتين، كان يدعو إلى أن تكون دولة واحدة عربية وعبرية، ولما شاهدنا أن هذا لا يجوز، دعمنا قرار التقسيم، وكان العالم قد اعترف آنذاك بإسرائيل، ما عدا العالم العربي والإسلامي، ولكن موقفنا وحيد المدلول، وكان عندنا مثلًا صداقة كبيرة مع ياسر عرفات، رئيس المنظمة الفلسطينية، لماذا لدينا علاقات رائعة مع أبو مازن، رئيس السلطة الفلسطينية؟ لماذا لدينا علاقات طيبة جدًّا مع خالد مشعل، ويزورنا في موسكو؟”.
هذا الموقف تمت توريته من طرف الآلة الإعلامية الغربية، والعمل على إخفائه، وتسليط الضوء على شيء واحد وبيانه للناس في صورة مشوهة، وبطريقة مخلة، وهو أن الاتحاد السوفيتي أول من اعترف بإسرائيل، وأنه هو، ومن بعده روسيا حاملة ثقله التاريخي، الداعم الأول لدولة إسرائيل، حتى حين فقد الروس حلفاءهم في المنطقة، واستحكمت القبضة الأمريكية عليها، وأصبحت الفاعل الوحيد فيها، أبقت العمل على توطيد تلك الصورة النمطية في نفوس الرأي العام العربي والإسلامي.
جاءت عملية “طوفان الأقصى”، التي قد تكون أخذت ذلك الاهتمام العالمي وسلبته من العملية العسكرية الروسية، ولكنها في الوقت نفسه قدمت للروس خدمة كبيرة؛ وذلك أنها أعطتهم فسحة للإبانة عن موقفهم من القضية الفلسطينية أمام الأمتين العربية والإسلامية، ولإجلاء تلك الصورة النمطية التي التصقت بهم عبر سنوات طويلة متطاولة، وقد تجلى موقفهم في رفض الكرملين اعتبار حماس حركة إرهابية، وإنما حركة تحررية.
وهكذا ظهر للرأي العام العربي والإسلامي شيء من التوجه الروسي، وأسفر عن الموقف الحقيقي لروسيا من القضية الفلسطينية، وهذا سيخدم روسيا أكثر في حربها مع الغرب؛ وذلك أن الذي سينهي الحرب الروسية الغربية، ويدفعها إلى طاولة المفاوضات، ليس ساحة المعركة؛ بل قدرة كل طرف على كسب العالم العربي والإسلامي والإفريقي، وذلك أن الغرب يرغب في كسب مواقف الدول العربية والإفريقية؛ لأجل عزل روسيا عالميًّا، وحتى تكون للعقوبات العسكرية أثر قوي في اقتصادها، فتحشر في الزاوية، ولا يكون أمامها حل إلا الخنوع والذهاب إلى المفاوضات وهي في حالة من الذل والخضوع، راضية بما يفيء عليها به الغرب.
ولكن إذا تمكنت روسيا وآلتها الدبلوماسية من جلب الدول العربية والإسلامية والإفريقية إليها، وكسب ثقتها، وبناء علاقات جيدة معها، فإن هذا سيجعل روسيا في فسحة من الظروف الاقتصادية، ستتمكن معها من إطالة زمن الحرب، واستنزاف الغرب، فيضطر الغرب بعد ذلك إلى البحث عن طاولة المفاوضات، والرضى بكل الشروط الروسية.
ودور الرأي العام الشعبي في العالمين العربي والإسلامي له تأثير في صناعة القرار السياسي، ولو بعد حين، فمهما شاغبت الحكومات شعوبها، وسارت على خلاف رغباتها، فإنها لا تملك في النهاية إلا موافقة المزاج الشعبي العام، وعدم معارضته، ولنا في أحداث غزة خير دليل، فقد أسهم التحرك الشعبي في توقيف عملية التطبيع، ولا أظن أنه بعد كل هذا الذي يحدث، سيكون يسيرًا على أي دولة أو حكومة العودة إلى التطبيع، أو الإبقاء عليه.
لقد قدمت أحداث غزة خدمة لروسيا، ولكنها غير كافية، فإذا كان صناع القرار الروسي عازمين على العودة بقوة، والظهور بمظهر قطب، فيجب العمل على تقوية الآلة الإعلامية، وتطويرها، خاصة الموجهة إلى الرأي العام العربي والإسلامي، وأن تكون لهذه الآلة القدرة، ليس فقط على الإبانة عن المواقف الروسية؛ بل حتى كشف صناعة الرأي العام الموجهة ضد روسيا، وبيان زيفها وبطلانها، ووجه الحقيقة منها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.