أبحاث ودراسات

مصر والسعودية.. الشراكة الإستراتيجية بين التعاون والتحديات


  • 10 يوليو 2025

شارك الموضوع

تُعد العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية من أبرز العلاقات الثنائية في العالم العربي، حيث تجمع بين البلدين روابط تاريخية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية عميقة. يتمتع كلا البلدين بمكانة إستراتيجية تجعلهما قوتين محوريتين في المنطقة؛ مصر بتاريخها الحضاري العريق، وكثافتها السكانية، وموقعها الجغرافي، والسعودية بثقلها الاقتصادي، وقوتها النفطية، ومكانتها الدينية. على مدار عقود، شهدت العلاقات بين البلدين مراحل من التعاون الوثيق والتنافس الحاد، تخللتها أزمات وتقلبات، لكنها ظلت في مجملها ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي. في الوقت الحاضر، تواجه العلاقات تحديات جديدة تتطلب حوارًا بناءً وضبطًا دقيقًا للحفاظ على الشراكة الإستراتيجية. تهدف هذه الدراسة إلى استعراض تاريخ العلاقات، وتحليل أنماط التعاون والتنافس، ومناقشة الأزمات الحالية، واستكشاف سبل تعزيز الحوار.

الجذور التاريخية للعلاقات المصرية- السعودية

تعود الجذور الأولى للعلاقات الرسمية بين مصر والمملكة العربية السعودية إلى عشرينيات القرن العشرين، وهي فترة شهدت صعود قوتين متمايزتين في المنطقة. كانت مصر، تحت الحكم الملكي بقيادة الملك فؤاد الأول، تسعى إلى تعزيز دورها بوصفها مركزًا سياسيًّا وثقافيًّا في العالم العربي، في حين كانت السعودية، تحت قيادة الملك عبد العزيز آل سعود، في طور توحيد أراضيها، وتأسيس الدولة السعودية الحديثة. في هذا السياق، وقّع البلدان معاهدة الصداقة عام 1926، وهي الوثيقة الأولى التي نظمت العلاقات الثنائية. ركزت المعاهدة على تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي، مع التركيز على احترام السيادة المتبادلة. عكست هذه المعاهدة رغبة مشتركة في مواجهة التحديات الإقليمية، خاصة في ظل النفوذ الاستعماري البريطاني الذي كان يهيمن على المنطقة. دعمت السعودية مطالب مصر الوطنية للاستقلال، في حين سعت مصر إلى بناء علاقات وثيقة مع دول الجزيرة العربية، معتبرة إياها جزءًا من العمق الإستراتيجي العربي. كما شكّلت الحركات الوطنية العربية، التي بدأت تتبلور في تلك الفترة، أرضية مشتركة للتقارب، حيث تبنى البلدان رؤية مبكرة للتضامن العربي.

خلال الثلاثينيات، تعززت العلاقات بين البلدين بفضل الروابط الدينية والسياسية. كانت السعودية، بصفتها مهد الحرمين الشريفين، تتمتع بمكانة دينية مرموقة؛ مما جعلها محط اهتمام مصر، التي كانت تحتضن الأزهر الشريف، مركز العلم الإسلامي. أسهم هذا التقارب الديني في تعزيز التواصل بين النخب الدينية والسياسية في البلدين. وسياسيًّا، شهدت هذه الفترة تعاونًا في مواجهة التحديات الإقليمية، خاصة مع تصاعد التوترات في فلسطين نتيجة الهجرة الصهيونية. دعم البلدان القضية الفلسطينية، وشاركا في المؤتمرات العربية التي عُقدت لمناقشة هذه القضية.

شهدت الأربعينيات ذروة التقارب المصري- السعودي، حيث أرسى لقاء الملك عبد العزيز بالملك فاروق عام 1945 أسسًا متينة للتعاون. عُقد هذا اللقاء في قناة السويس، وهو يُعد نقطة تحول في العلاقات، إذ أكد البلدان التزامهما بتعزيز التضامن العربي في مواجهة التحديات الاستعمارية والصهيونية. كان هذا اللقاء بمنزلة إعلان شراكة إستراتيجية، حيث اتفق الطرفان على ضرورة إنشاء إطار عربي موحد. تُوّج هذا التعاون بتأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، التي كانت مصر والسعودية من أبرز مؤسسيها. اضطلعت الجامعة بدور محوري في تنسيق المواقف العربية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ودعم حركات التحرر الوطني. كما شهدت هذه الفترة تبادل زيارات رفيعة المستوى، حيث زارت وفود سعودية القاهرة، واستقبلت الرياض مسؤولين مصريين، مما عزز الثقة المتبادلة. مع بداية الخمسينيات، شهدت العلاقات تطورات جديدة في ظل التحولات السياسية الكبرى. في عام 1952، أطاحت ثورة يوليو (تموز) بالنظام الملكي في مصر، وتولى الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب، ثم جمال عبد الناصر، قيادة البلاد. تبنت مصر سياسة قومية عربية طموحة، داعية إلى الوحدة العربية ومقاومة النفوذ الغربي. في المقابل، حافظت السعودية على نهج محافظ يركز على استقرار النظام الملكي، وتعزيز العلاقات مع الغرب.

رغم هذا الاختلاف الأيديولوجي، شهدت الفترة الأولى من الخمسينيات تعاونًا ملحوظًا. في عام 1955، وقّع البلدان اتفاقية دفاع مشترك، تهدف إلى حماية الأمن القومي العربي في مواجهة التهديدات الخارجية، خاصة بعد تأسيس حلف بغداد الذي قادته بريطانيا والولايات المتحدة. كما دعمت السعودية مصر خلال أزمة تأميم قناة السويس عام 1956، حيث أدانت العدوان الثلاثي على مصر. ومع ذلك، بدأت التوترات تظهر في أواخر الخمسينيات، مع تصاعد الخلافات الأيديولوجية. تبنت مصر سياسة تصدير الأفكار القومية؛ مما أثار قلق السعودية التي رأت في ذلك تهديدًا لاستقرار الأنظمة الملكية في المنطقة. كما أدت الخلافات بشأن إدارة القضايا الإقليمية، مثل الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، إلى تباعد مؤقت في المواقف.

التعاون والتنافس في ظل التحولات الإقليمية

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شهد العالم العربي تحولات سياسية واجتماعية عميقة، مدفوعة بموجات الاستقلال الوطني وصعود الأيديولوجيات القومية. كانت مصر -بقيادة جمال عبد الناصر بعد ثورة يوليو (تموز) 1952- رائدة هذه الحركة، حيث تبنت سياسة قومية عربية تهدف إلى توحيد العرب، ومقاومة النفوذ الاستعماري. في المقابل، حافظت المملكة العربية السعودية -تحت قيادة الملك سعود بن عبد العزيز- على نهج محافظ يركز على استقرار النظام الملكي، وتعزيز العلاقات مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة. هذا التباين في الرؤى وضع البلدين على مسارات متباينة، لكنه لم يمنع لحظات التعاون في مواجهة التحديات المشتركة.

أثرت الحرب الباردة تأثيرًا كبيرًا في العلاقات المصرية- السعودية. سعت مصر إلى تبني سياسة الحياد الإيجابي؛ مما جعلها تقترب من الاتحاد السوفيتي في بعض الأحيان، خاصة بعد دعمه في أزمة السويس عام 1956. على النقيض، رأت السعودية في الولايات المتحدة حليفًا إستراتيجيًّا لمواجهة المد الشيوعي. هذه الانقسامات الدولية عكست نفسها إقليميًّا، حيث أصبحت مصر رمزًا للقومية الثورية، في حين مثلت السعودية الاستقرار المحافظ. ومع ذلك، ظل البلدان يشتركان في أهداف إستراتيجية، مثل دعم القضية الفلسطينية، وحماية الأمن العربي؛ مما مهد الطريق لتعاون مؤقت في قضايا محددة.

رغم الخلافات الأيديولوجية، شهدت الخمسينيات لحظات تعاون بارزة بين مصر والسعودية، خاصة في مواجهة التحديات الإقليمية. كانت القضية الفلسطينية إحدى أبرز القضايا التي وحدت البلدين. بعد نكبة 1948، دعمت مصر والسعودية المقاومة الفلسطينية، سواء من خلال تقديم المساعدات المالية، أو الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية. شارك البلدان في مؤتمرات القمة العربية التي عُقدت تحت مظلة جامعة الدول العربية، حيث أكدا ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. كما تجلى التعاون في مواجهة النفوذ الإسرائيلي. عندما أعلنت إسرائيل مشروع تحويل مياه نهر الأردن في منتصف الخمسينيات، عملت مصر والسعودية معًا لدعم الأردن وسوريا في مواجهة هذا التحدي. قدمت السعودية مساعدات مالية لتعزيز البنية التحتية في الدول العربية المجاورة، في حين اضطلعت مصر بدور دبلوماسي في حشد الدعم الدولي. هذا التعاون عزز فكرة التضامن العربي، رغم التوترات الأيديولوجية.

تُعد أزمة السويس عام 1956 نقطة تحول في العلاقات المصرية- السعودية، حيث بلغ التعاون بين البلدين ذروته. عندما أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، ردت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بهجوم عسكري مشترك. وقفت السعودية بقوة إلى جانب مصر، معتبرة التأميم خطوة لاستعادة السيادة العربية. أصدرت الرياض بيانات رسمية تدين العدوان، ودعت إلى الوحدة العربية في مواجهة التحديات الاستعمارية.

مع نهاية الخمسينيات، بدأت الخلافات الأيديولوجية تلقي بظلالها على العلاقات. تبنت مصر سياسة تصدير الأفكار القومية، داعية إلى إسقاط الأنظمة الملكية وإقامة أنظمة جمهورية. هذا النهج أثار قلق السعودية، التي رأت فيه تهديدًا مباشرًا لاستقرار نظامها الملكي. تفاقم التوتر مع إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة، وهي خطوة رأتها الرياض محاولة لفرض الهيمنة المصرية على العالم العربي. كما أدت سياسة مصر في دعم حركات التحرر في المنطقة، مثل دعم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، إلى توترات مع السعودية، التي فضلت نهجًا أكثر حذرًا تجاه القوى الغربية. رأت الرياض أن السياسات الناصرية الثورية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، مما دفعها إلى تعزيز تحالفاتها مع دول محافظة أخرى، مثل الأردن، والعراق الملكي.

هذا التنافس الأيديولوجي تجلى أيضًا في الإعلام، حيث أصبحت وسائل الإعلام المصرية، مثل إذاعة “صوت العرب”، منصة لنشر الأفكار القومية؛ مما أثار استياء السعودية. ردت الرياض بتمويل وسائل إعلام موالية لها لمواجهة النفوذ المصري. هذه الحرب الإعلامية عكست عمق الخلافات، لكنها لم تؤد إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، حيث حافظ البلدان على قنوات تواصل مفتوحة. بلغ التنافس بين مصر والسعودية ذروته خلال حرب اليمن (1962-1967)، التي أصبحت رمزًا للصراع بين القومية الثورية والمحافظة الملكية. في عام 1962، أطاحت ثورة عسكرية بالنظام الملكي في اليمن، وأعلنت قيام الجمهورية اليمنية. سارعت مصر إلى دعم الجمهوريين، حيث أرسلت قوات عسكرية كبيرة لدعم النظام الجديد، معتبرة ذلك جزءًا من مشروعها القومي. في المقابل، دعمت السعودية الملكيين، بقيادة الإمام محمد البدر، من خلال تقديم السلاح والتمويل والملاذ الآمن.

تحولت حرب اليمن إلى صراع بالوكالة بين مصر والسعودية؛ مما أدى إلى توترات دبلوماسية حادة. رأت مصر أن دعم السعودية للملكيين محاولة لإجهاض الثورات العربية، في حين اعتبرت الرياض التدخل المصري تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خاصة أن اليمن يشكل عمقًا استراتيجيًّا للمملكة. تصاعدت حدة التوترات مع تبادل الاتهامات في المحافل العربية، حيث اتهمت مصر السعودية بدعم “الرجعية”، في حين اتهمت الرياض القاهرة بالسعي إلى الهيمنة الإقليمية. أثرت الحرب في الاقتصادين المصري والسعودي. استنزفت مصر مواردها المالية والبشرية في الحرب، حيث أرسلت عشرات الآلاف من الجنود؛ مما زاد الضغوط الاقتصادية على البلاد. في المقابل، تكبدت السعودية تكاليف مالية كبيرة لدعم الملكيين، لكنها استفادت من مواردها النفطية المتزايدة. رغم هذه الخسائر، لم تصل العلاقات إلى نقطة القطيعة الكاملة، حيث حافظ البلدان على حوار دبلوماسي محدود.

جاءت نكسة يونيو (حزيران) 1967 لتعيد تشكيل ديناميكيات العلاقات المصرية- السعودية. بعد الهزيمة العربية أمام إسرائيل، أدرك البلدان ضرورة تجاوز الخلافات لمواجهة التحدي المشترك. عُقدت قمة الخرطوم في أغسطس (آب) 1967، وكانت نقطة تحول في العلاقات. اتفق البلدان على تسوية الصراع في اليمن، حيث وافقت مصر على سحب قواتها تدريجيًّا، في حين تعهدت السعودية بوقف دعم الملكيين. كما قدمت السعودية مساعدات مالية لمصر لدعم إعادة بناء قواتها المسلحة بعد النكسة. وعكست قمة الخرطوم رغبة مشتركة في استعادة التضامن العربي، حيث أصدرت قرارات شهيرة عُرفت بـ”اللاءات الثلاث”: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل. كانت هذه القرارات بمنزلة تأكيد للتعاون المصري- السعودي في مواجهة التحديات الإقليمية. عززت القمة أيضًا دور السعودية بوصفها قوة اقتصادية داعمة للدول العربية، حيث تعهدت بتقديم مساعدات سنوية لمصر والأردن.

التقارب المصري- السعودي في عهد السادات ومبارك

تشكل فترتا حكم أنور السادات (1970- 1981) وحسني مبارك (1981- 2011) مرحلة ذهبية في العلاقات المصرية- السعودية، حيث شهدت تقاربًا إستراتيجيًّا غير مسبوق. بعد عقدين من التنافس الأيديولوجي في عهد جمال عبد الناصر، جاءت هاتان الفترتان لتعيدا تشكيل العلاقات بين القاهرة والرياض، مدفوعةً بتحولات سياسية وإقليمية، وبرؤية مشتركة لمواجهة التحديات الإقليمية. اتسمت هذه المرحلة بتعاون وثيق في المجالات السياسية، والاقتصادية، والأمنية، رغم بعض التوترات الناجمة عن قرارات سياسية مثيرة للجدل، مثل اتفاقية كامب ديفيد.

بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، واجه العالم العربي تحديات وجودية، شملت احتلال إسرائيل لأراضٍ عربية، وتصاعد النفوذ الإيراني بعد الثورة الإسلامية عام 1979، فضلًا عن تداعيات الحرب الباردة. كانت مصر، التي عانت خسائر فادحة في النكسة، بحاجة إلى إعادة بناء قوتها العسكرية والاقتصادية، في حين كانت السعودية -بفضل طفرة النفط في السبعينيات- تبرز بوصفها قوة اقتصادية وسياسية إقليمية. هذا السياق مهد الطريق لتقارب إستراتيجي، حيث أدرك البلدان أهمية التعاون لمواجهة التحديات المشتركة.

في عهد السادات، تحركت مصر نحو سياسة خارجية أكثر براغماتية، مبتعدةً عن الأيديولوجيا القومية الثورية لعهد ناصر. سعت القاهرة إلى استعادة سيناء، وتحقيق استقرار اقتصادي؛ مما جعلها بحاجة إلى دعم دول الخليج، وخاصة السعودية. في المقابل، رأت الرياض في مصر -بجيشها القوي وثقلها الدبلوماسي- شريكًا لا غنى عنه لتعزيز الاستقرار الإقليمي. هذه الرؤية المشتركة شكلت أساس التقارب في السبعينيات، الذي استمر وتعزز في عهد مبارك.

مع تولي أنور السادات الرئاسة عام 1970، بدأت العلاقات المصرية- السعودية تشهد تحولًا إيجابيًّا. كان السادات يدرك أهمية الدعم السعودي لتحقيق أهدافه الإستراتيجية، خاصة استعادة الأراضي المحتلة. في المقابل، رأت السعودية -بقيادة الملك فيصل- في مصر قوة عسكرية وسياسية قادرة على مواجهة إسرائيل، وتحقيق توازن إقليمي. هذا التقارب تجلى بوضوح خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، التي شكلت نقطة تحول في العلاقات.

قبل الحرب، زار السادات السعودية عدة مرات، حيث نسق مع القيادة السعودية لضمان الدعم السياسي والاقتصادي. خلال الحرب، قدمت السعودية مساعدات مالية لتغطية تكاليف العمليات العسكرية المصرية، كما استخدمت سلاح النفط أداةَ ضغطٍ على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل. أعلنت الرياض، بالتنسيق مع دول أوبك، حظرًا نفطيًّا عام 1973؛ مما تسبب في أزمة طاقة عالمية، وزاد الضغط على الولايات المتحدة وأوروبا لدفع إسرائيل نحو مفاوضات سلام. هذا الدعم عزز الثقة المتبادلة بين البلدين، وأظهر قدرتهما على العمل كشركاء إستراتيجيين.

رغم التقارب الوثيق، واجهت العلاقات تحديًا كبيرًا مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ومن بعدها معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979. قرر السادات السعي إلى السلام مع إسرائيل لاستعادة سيناء، وتخفيف الضغوط الاقتصادية على مصر، وهي خطوة أثارت غضبًا واسعًا في العالم العربي. اعتبرت السعودية الاتفاقية تراجعًا عن التضامن العربي، خاصة أنها لم تتضمن حلًا شاملًا للقضية الفلسطينية، وهو ما كان أولوية للرياض. وردًا على الاتفاقية، قطعت السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر عام 1979، ودعمت قرار جامعة الدول العربية بتجميد عضوية مصر ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس. كما علقت الرياض مساعداتها الاقتصادية لمصر؛ مما زاد الضغوط المالية على القاهرة. هذه الأزمة كشفت عن حدود التقارب، حيث أعطت السعودية الأولوية للوحدة العربية على العلاقة الثنائية مع مصر.

ومع ذلك، لم تكن القطيعة شاملة؛ إذ حافظ البلدان على قنوات تواصل غير رسمية، حيث أدركت السعودية أهمية مصر بوصفها قوة إقليمية. كما أن التهديدات الإقليمية الجديدة، مثل الثورة الإيرانية عام 1979، وتصاعد النفوذ السوفيتي في المنطقة، دفعت الرياض إلى إعادة تقييم موقفها. بحلول أوائل الثمانينيات، بدأت بوادر التهدئة تظهر، خاصة بعد اغتيال السادات عام 1981، وتولي حسني مبارك الرئاسة.

مع تولي حسني مبارك الرئاسة عام 1981، بدأت مصر مرحلة جديدة من السياسة الخارجية تركز على إعادة دمجها في العالم العربي. تبنى مبارك نهجًا براغماتيًّا، مع الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، لكنه أكد التزامه بالقضايا العربية، خاصة القضية الفلسطينية. هذا النهج لاقى ترحيباً من السعودية، التي كانت تسعى إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي في مواجهة التحديات الجديدة. في عام 1987، استؤنفت العلاقات الدبلوماسية بين مصر والسعودية، في خطوة عكست رغبة البلدين في تجاوز تداعيات كامب ديفيد. لعبت السعودية دوراً محورياً في إعادة مصر إلى جامعة الدول العربية، حيث دعمت عودة القاهرة إلى الجامعة عام 1989، وإعادة مقر الجامعة إلى العاصمة المصرية عام 1990. هذه الخطوات عززت الثقة المتبادلة، ومهدت الطريق لشراكة إستراتيجية طويلة الأمد.

شهدت فترة حكم مبارك تعاونًا وثيقًا بين مصر والسعودية في مواجهة التحديات الإقليمية. كانت أزمة غزو العراق للكويت عام 1990 نقطة تحول رئيسة. وقف البلدان معًا في وجه الغزو، وشاركا في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت في عملية “عاصفة الصحراء” عام 1991. أرسلت مصر قوات عسكرية كبيرة، في حين قدمت السعودية دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا، إضافة إلى استضافة القوات الدولية على أراضيها. هذا التعاون عزز مكانة البلدين بوصفهما قوتين محوريتين في المنطقة، وأظهر قدرتهما على التنسيق في أوقات الأزمات. كما تعاون البلدان في مواجهة النفوذ الإيراني، الذي تصاعد بعد الثورة الإسلامية. رأت مصر والسعودية في إيران تهديدًا للاستقرار الإقليمي، خاصة مع دعم طهران جماعات مسلحة في لبنان والخليج. دعمت مصر مبادرة السلام العربية التي اقترحتها السعودية عام 1982، والتي دعت إلى حل شامل للصراع العربي- الإسرائيلي، مما عكس تقاربًا في الرؤى السياسية.

اقتصاديًّا، شهدت فترة مبارك طفرة في العلاقات الثنائية. أصبحت السعودية من أكبر المستثمرين في مصر، حيث ضخت مليارات الدولارات في قطاعات السياحة، والعقارات، والصناعة. بحلول التسعينيات، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو (3) مليارات دولار سنويًّا، مع توقيع كثير من الاتفاقيات التجارية. كما استفادت مصر من تدفق العمالة المصرية إلى السعودية، حيث شكلت الجالية المصرية، التي تجاوزت مليوني شخص آنذاك، جسرًا إنسانيًّا وثقافيًّا بين البلدين. أمنيًّا، تعاون البلدان في مكافحة الإرهاب، خاصة مع تصاعد تهديد الجماعات المتطرفة في التسعينيات. تبادلت مصر والسعودية المعلومات الاستخباراتية، ونسقتا في مواجهة الجماعات التي استهدفت الأنظمة العربية. كما شاركتا في تدريبات عسكرية مشتركة، مما عزز التنسيق العسكري. هذا التعاون الأمني كان حاسمًا في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل الاضطرابات التي شهدتها المنطقة.

التعاون الاستراتيجي المصري- السعودي في عهد السيسي

منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر عام 2014، شهدت العلاقات المصرية- السعودية مرحلة جديدة من التعاون الإستراتيجي، تميزت بتعزيز التنسيق في المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية. جاء هذا التقارب في سياق إقليمي مضطرب، شهد صعود تحديات أمنية، مثل الإرهاب والتدخلات الإقليمية، إلى جانب أزمات اقتصادية حادة في مصر. كانت السعودية، بقوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي، شريكا رئيسًا لدعم استقرار مصر، في حين مثلت مصر، بثقلها العسكري والدبلوماسي، دعامة لتحقيق أهداف السعودية الإقليمية.

جاءت فترة حكم السيسي في أعقاب اضطرابات الربيع العربي، التي أثرت في الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة. في مصر، أدت ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 إلى عزل الرئيس محمد مرسي؛ مما أثار انقسامًا داخليًّا وإقليميًّا. في هذا السياق، برزت السعودية داعمًا رئيسًا للنظام الجديد في مصر، معتبرة استقرار القاهرة أولوية إستراتيجية لمنع انتشار الفوضى في المنطقة. كما واجهت المنطقة تهديدات جديدة، مثل تنامي نفوذ تنظيم داعش، والتدخلات الإيرانية في اليمن وسوريا؛ مما دفع البلدين إلى تعزيز التنسيق لمواجهة هذه التحديات.

اقتصاديًّا، كانت مصر تعاني أزمة مالية حادة، مع تراجع احتياطي النقد الأجنبي، وارتفاع معدلات التضخم. في المقابل، كانت السعودية، رغم التقلبات في أسعار النفط، تملك موارد مالية كبيرة، مما جعلها شريكًا حيويًّا لدعم الاقتصاد المصري. هذا السياق الإقليمي والاقتصادي شكل أرضية لتعاون إستراتيجي غير مسبوق، تمحور حول تحقيق الاستقرار السياسي والأمني، ودعم التنمية الاقتصادية.

منذ اللحظات الأولى لتولي السيسي السلطة، أظهرت السعودية دعمًا سياسيًّا قويًّا للنظام الجديد. في عام 2014، أعلنت الرياض -بالاشتراك مع الإمارات العربية المتحدة والكويت- حزمة مساعدات اقتصادية لمصر بقيمة تزيد على (20) مليار دولار، شملت قروضًا ميسرة ومنحًا مباشرة. كان هذا الدعم رسالة سياسية واضحة بأن السعودية تقف إلى جانب مصر في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. على الصعيد الإقليمي، نسق البلدان مواقفهما بشأن كثير من القضايا الحساسة. في اليمن، دعمت مصر عملية “عاصفة الحزم” التي قادتها السعودية عام 2015 ضد جماعة الحوثيين المدعومة من إيران. شاركت مصر بقوات بحرية في تأمين مضيق باب المندب، وعبّرت عن دعمها السياسي لاستعادة الشرعية في اليمن. هذا التنسيق عكس رؤية مشتركة لمواجهة النفوذ الإيراني، الذي اعتبره البلدان تهديدًا للأمن القومي العربي.

في ليبيا، اتفق البلدان على دعم حكومة الشرعية بقيادة المشير خليفة حفتر، بهدف تحقيق الاستقرار، ومنع انتشار الجماعات الإرهابية. شاركت مصر والسعودية في دعم المبادرات الدولية، مثل اتفاق الصخيرات عام 2015، وسعتا إلى تعزيز الحلول السياسية التي تحافظ على وحدة ليبيا. كما دعمتا جهود الأمم المتحدة لتسوية الأزمة، مع التركيز على مكافحة الإرهاب، ومنع تدفق الأسلحة إلى الجماعات المسلحة. وفي السودان، اضطلع البلدان بدور بارز في دعم الانتقال السياسي بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019. ساهمت السعودية ومصر في تمويل برامج التنمية في السودان، ودعمتا تشكيل حكومة مدنية- عسكرية لضمان الاستقرار. هذا التنسيق عزّز مكانة البلدين بوصفهما قوتين إقليميتين قادرتين على التأثير في مسار الأحداث في المنطقة.

دبلوماسيًّا، شهدت الفترة زيارات متبادلة رفيعة المستوى. زار السيسي السعودية عدة مرات، في حين استقبلت مصر الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير محمد بن سلمان في زيارات تاريخية. أسفرت هذه الزيارات عن توقيع عشرات الاتفاقيات في مجالات الطاقة، والتجارة، والدفاع؛ مما عزز الشراكة الإستراتيجية. ولكن بالرغم من التعاون الوثيق، واجهت العلاقات بعض التحديات. على الصعيد الاقتصادي، أثارت شروط السعودية لتقديم المساعدات، مثل المطالبة بإصلاحات اقتصادية، بعض الجدل في مصر. سياسيًّا، تباينت وجهات النظر أحيانًا بشأن إدارة الأزمات، مثل الحرب في غزة عام 2023.

التباين في الرؤى السياسية المصرية- السعودية

تشهد العلاقات المصرية- السعودية -رغم عمقها التاريخي وأهميتها الإستراتيجية- فترة من التوترات والأزمات في السنوات الأخيرة، خاصة منذ عام 2023. هذه الأزمات، التي تتعدد أسبابها بين السياسية والاقتصادية والإعلامية، تعكس تعقيدات المصالح المتباينة بين البلدين في سياق إقليمي مضطرب. على الرغم من التصريحات الرسمية التي تؤكد متانة العلاقات، فإن الخلافات الظاهرة والمستترة تشير إلى تحديات تهدد استدامة الشراكة الإستراتيجية.

الخلاف بشأن إدارة الملف الفلسطيني

أحد أبرز مظاهر التوتر السياسي الحالي يتمثل في التباين في المواقف تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، خاصة بعد تصاعد الأحداث في غزة عام 2023. تبنت مصر نهجًا يركز على الوساطة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، مع الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية عن طريق معبر رفح. هذا النهج يعكس دور مصر التقليدي بوصفها وسيطًا إقليميًّا، مع الحرص على الحفاظ على استقرار الحدود مع غزة. في المقابل، اتخذت السعودية موقفًا يركز على المبادرات الدبلوماسية الطويلة الأجل، مثل دعم حل الدولتين، مع إعلانها أنها لن تطبّع العلاقات مع إسرائيل دون قيام دولة فلسطينية مستقلة.

هذا التباين أثار توترات ضمنية، حيث رأت بعض الأوساط المصرية أن السعودية تسعى إلى تعزيز دورها الدبلوماسي على حساب الوساطة المصرية. على الجانب الآخر، رأت أصوات سعودية أن تركيز مصر على الوساطة قد يعزز نفوذ حركات مثل حماس، مما يتعارض مع رؤية الرياض للحد من نفوذ الإسلام السياسي في المنطقة. هذه الخلافات -مع أنها لم تصل إلى مستوى التصعيد العلني- ألقت بظلالها على التنسيق المشترك في المحافل الدولية.

الخلاف بشأن إثيوبيا وسد النهضة

أحد الملفات التي أسهمت في التوترات الحالية هو الموقف من أزمة سد النهضة الإثيوبي. ترى مصر هذا الملف قضية أمن قومي، حيث تهدد التغيرات في تدفق مياه النيل بتداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة. تبنت القاهرة نهجًا صلبًا في المفاوضات مع إثيوبيا، مع التهديد بخيارات عسكرية إذا لزم الأمر. في المقابل، اتخذت السعودية موقفًا أكثر حيادية، حيث تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع إثيوبيا كجزء من إستراتيجيتها لتوسيع النفوذ في القرن الإفريقي.

هذا الحياد أثار استياء مصر، التي توقعت دعمًا سعوديًّا أكثر وضوحًا في مواجهة إثيوبيا. على سبيل المثال، عندما استضافت السعودية وفودًا إثيوبية رفيعة المستوى عام 2024، رأت أوساط مصرية أن هذه الخطوة تتعارض مع التضامن العربي المنشود. في المقابل، أكدت الرياض أن علاقاتها مع إثيوبيا تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي، وليست موجهة ضد مصر. هذا الخلاف كشف عن تفاوت في الأولويات الإستراتيجية بين البلدين.

التحول في سياسة المساعدات السعودية

أحد أبرز العوامل التي أثارت التوترات الاقتصادية هو تحول السعودية من تقديم مساعدات مالية غير مشروطة إلى ربط الدعم بإصلاحات اقتصادية جذرية في مصر. في يناير (كانون الثاني) 2023، أثار تصريح وزير المالية السعودي محمد الجدعان، خلال منتدى دافوس، جدلًا واسعًا عندما أشار إلى ضرورة إجراء الدول المستفيدة من المساعدات إصلاحات هيكلية. رأت أوساط مصرية أن هذا التصريح موجه مباشرة إلى القاهرة، خاصة في ظل اعتماد مصر على الودائع السعودية لدعم احتياطيها من العملات الأجنبية.

هذا التحول عكس إستراتيجية سعودية جديدة تركز على الاستثمارات الطويلة الأجل بدلًا من المنح المباشرة. على سبيل المثال، ربطت الرياض استمرار دعمها المالي بتخصيص أصول مصرية، مثل شركات حكومية، للاستثمار السعودي. هذه الشروط أثارت حساسيات في مصر، حيث رآها البعض تمس السيادة الاقتصادية. في المقابل، أكدت السعودية أن هدفها هو ضمان استدامة الاقتصاد المصري، وليس فرض هيمنة.

شهدت الفترة الأخيرة تنافسًا غير معلن بين مصر والسعودية لجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة من الولايات المتحدة وأوروبا. تسعى مصر إلى تعزيز موقعها بوصفها وجهة استثمارية في قطاعات مثل الطاقة المتجددة واللوجستيات، في حين تركز السعودية على مشروعات ضخمة، مثل “نيوم”، ضمن رؤية 2030. هذا التنافس أدى إلى توترات ضمنية، حيث رأت مصر أن السعودية تستفيد من مواردها المالية الضخمة لجذب المستثمرين على حساب القاهرة.

الخلاف بشأن السياسة تجاه سوريا بقيادة أحمد الشرع

اتخذت مصر موقفًا حذرًا تجاه النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، مدفوعةً بمخاوف أمنية وسياسية؛ أولًا: تخشى القاهرة أن تصبح سوريا ملاذًا لجماعات إسلامية متشددة، خاصة أن الشرع كان قائدًا لجبهة النصرة، المصنفة منظمة إرهابية. ترى مصر أن صعود قادة ذوي خلفيات جهادية قد يشجع “العائدين من سوريا” على تهديد الأمن المصري، على غرار تجارب سابقة في أفغانستان والشيشان. ثانيًا: ترى مصر أن دعم الشرع قد يعزز نفوذ التيارات الإسلامية في المنطقة، مما يتعارض مع سياستها في مواجهة جماعات مثل الإخوان المسلمين. في ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثارت صورة تجمع الشرع مع محمود فتحي، وهو مصري مطلوب أمنيًّا، جدلًا واسعًا في مصر، حيث رأت أوساط إعلامية أنها دليل على ارتباط النظام السوري الجديد بجماعات متطرفة. ثالثًا: تفضل مصر نهجًا يركز على دعم الحلول السياسية في سوريا من خلال الأمم المتحدة، بدلًا من الاعتراف بحكومة الشرع دون ضمانات دولية. حتى يوليو (تموز) 2025، لم ترسل القاهرة وفودًا رسمية إلى دمشق، واكتفت ببيانات تدعو إلى “إدارة منتخبة” تحترم التعددية السورية.

على النقيض، تبنت السعودية نهجًا منفتحًا تجاه حكومة الشرع، معتبرةً أن سقوط نظام الأسد يمثل فرصة لإضعاف النفوذ الإيراني في سوريا. في فبراير (شباط) 2025، استقبلت الرياض وفدًا سوريًّا برئاسة الشرع، في زيارة وصفت بـ”التاريخية”، تضمنت مناقشات بشأن الاستثمار في إعادة الإعمار، وتعزيز الأمن الإقليمي. أعرب الشرع عن رغبته في التعاون مع السعودية، مشيرًا إلى أن الرياض يمكن أن تؤدي دورًا رئيسًا في تنمية سوريا اقتصاديًّا. رأت السعودية في الشرع قائدًا براغماتيًّا، خاصة بعد إعلانه حل الفصائل المسلحة ودمجها في الجيش السوري، وتعيين شخصيات فنية، مثل ميساء صابرين، في مناصب اقتصادية. كما دعمت الرياض جهود رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، معتبرةً أن استقرار دمشق يخدم أمن المنطقة. هذا الانفتاح أثار استياء مصر، التي رأت أن السعودية تتسرع في دعم نظام لم تثبت شرعيته بعد.

اختلاف آليات التعامل مع إيران

تعتمد مصر سياسة خارجية تركز على تجنب الصدام المباشر مع إيران، مع الحفاظ على قنوات حوار محدودة. ترى القاهرة أن التصعيد مع طهران قد يزيد عدم الاستقرار في المنطقة، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الداخلية التي تواجهها. على سبيل المثال، سعت مصر إلى أداء دور الوسيط في الأزمة بين إيران وإسرائيل عام 2025، مفضلةً الدعوة إلى ضبط النفس من جميع الأطراف. هذا النهج أثار استياء السعودية، التي رأت أن مصر تتجنب اتخاذ موقف واضح، خاصة في ظل التقارب السعودي- الإيراني الذي كان يهدف إلى تحييد طهران بدلًا من مواجهتها مباشرة. رأت الرياض أن مصر تستفيد من الحياد لتعزيز دورها بوصفها وسيطًا إقليميًّا، مما قد يقلل نفوذ السعودية في القضايا الإقليمية.

على عكس مصر، تبنت السعودية نهجًا براغماتيًّا يجمع بين التقارب الدبلوماسي مع إيران، ومواصلة مواجهة نفوذها في المنطقة. على سبيل المثال، دعمت الرياض جهود إعادة الإعمار في سوريا تحت قيادة أحمد الشرع، معتبرةً أن إبعاد سوريا عن النفوذ الإيراني يمثل ضربة إستراتيجية لطهران. في مقابلة مع قناة العربية عام 2025، أشار الشرع إلى إمكانية التعاون الاقتصادي مع السعودية، مما عزز آمال الرياض في بناء سوريا جديدة بعيدة عن محور إيران. هذا النهج أثار مخاوف مصر، التي رأت أن التقارب السعودي مع إيران قد يمنح طهران مساحة أكبر للتوسع في المنطقة. عبرت أوساط دبلوماسية مصرية عن استيائها من عدم إشراك القاهرة في المناقشات المتعلقة بالتقارب، معتبرةً أن هذا الإقصاء يضعف التنسيق العربي في مواجهة التحديات الإقليمية.

ضرورة الحوار وضبط العلاقات المصرية- السعودية

تشهد المنطقة العربية تحولات جيوسياسية متسارعة، مثل صعود قوى إقليمية جديدة، وتزايد التدخلات الدولية في الشؤون العربية، وتفاقم التحديات الأمنية. في هذا السياق، يصبح الحوار بين مصر والسعودية ضروريًّا لتوحيد الرؤى، وتجنب الانقسامات التي قد تستغلها قوى خارجية. على سبيل المثال، تتطلب قضايا مثل إعادة الإعمار في العراق، أو مواجهة التغلغل التركي في شمال إفريقيا، تنسيقًا وثيقًا بين القاهرة والرياض، لضمان تمثيل المصالح العربية بقوة.

تواجه مصر والسعودية تحديات اقتصادية متشابهة، مثل الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط (في حالة السعودية) أو وقف الاعتماد على المساعدات الخارجية (في حالة مصر). الحوار الاقتصادي المستدام يمكن أن يساعد على إنشاء شراكات مبتكرة، مثل تطوير صناعات تكنولوجية مشتركة، أو إنشاء سلاسل إمداد إقليمية. بدون حوار منظم، قد تتفاقم التوترات الناجمة عن التنافس على الموارد أو الأسواق؛ مما يضعف الاقتصادين. وتتزايد تهديدات الأمن الإقليمي، مثل انتشار شبكات تهريب الأسلحة عبر الحدود، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، مثل الطائرات المسيرة، في الهجمات الإرهابية. هذه التحديات تتطلب تعاونًا أمنيًّا متطورًا بين مصر والسعودية، يشمل تبادل التكنولوجيا الدفاعية، وتنسيق العمليات الميدانية. الحوار الأمني يمكن أن يضمن مواجهة هذه التهديدات بكفاءة، مع الحفاظ على السيادة الوطنية لكلا البلدين.

آليات مقترحة للحوار وضبط العلاقات

تطوير قنوات دبلوماسية غير تقليدية

إلى جانب القنوات الدبلوماسية الرسمية، يمكن تطوير قنوات غير تقليدية، مثل حوارات النخب الأكاديمية والفكرية. على سبيل المثال، يمكن تنظيم منتدى سنوي يجمع باحثين ومفكرين من مصر والسعودية لمناقشة قضايا مثل التنمية المستدامة، أو تأثير التكنولوجيا ف الأمن القومي. هذه الحوارات يمكن أن تولد أفكارًا مبتكرة، وتسهم في بناء توافق فكري يدعم السياسات الرسمية. ولضمان استمرارية الحوار، يمكن إنشاء مجلس إستراتيجي مشترك يضم ممثلين من الجهات السياسية، والاقتصادية، والأمنية في البلدين. يعقد هذا المجلس اجتماعات ربع سنوية لمناقشة القضايا الثنائية والإقليمية.

بناء إطار إعلامي مشترك

لضبط الخطاب الإعلامي، يمكن إنشاء مجلس إعلامي مشترك يضم ممثلين من وسائل الإعلام الرسمية والخاصة في البلدين. يتولى هذا المجلس وضع مدونة سلوك إعلامي تحظر التصريحات التحريضية، وتشجع على إنتاج محتوى يبرز الإنجازات المشتركة.

تعزيز الحوار الشعبي والثقافي

على المستوى الشعبي، يمكن تنظيم فعاليات ثقافية دورية، مثل مهرجان سينمائي مصري- سعودي، أو معرض للتراث يعرض إبداعات أبناء البلدين. كما يمكن إطلاق برامج تبادل طلابي أو أنشطة تثقيفية تاريخية بين الجامعات المصرية والسعودية؛ لتعزيز التفاهم بين الأجيال الشابة.

إنشاء منصة اقتصادية مشتركة

اقتصاديًّا، يمكن إنشاء منصة استثمارية مشتركة تركز على المشروعات ذات الأولوية، مثل تطوير الذكاء الاصطناعي، أو إنشاء مراكز لوجستية إقليمية. هذه المنصة يمكن أن تشمل شركات خاصة من البلدين، مع دعم حكومي يوفر حوافز ضريبية وتسهيلات قانونية.

ختامًا، تؤكد التحديات الإقليمية والعالمية الحالية ضرورة الحوار، وضبط العلاقات المصرية- السعودية؛ لضمان استدامة الشراكة الإستراتيجية بين البلدين. من خلال إنشاء آليات حوار شاملة، تشمل المجالات السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والثقافية، يمكن لمصر والسعودية تجاوز التوترات، وبناء مستقبل مشترك يعزز الاستقرار الإقليمي، وهذا يتطلب التزامًا مشتركًا بالشفافية، والاحترام المتبادل، والتركيز على المصالح الطويلة الأمد. في عالم متغير، لا يظل التعاون بين القاهرة والرياض خيارًا فحسب؛ بل ضرورة حتمية لقيادة العالم العربي نحو مستقبل أكثر أمنًا وازدهارًا.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع