مقالات المركز

مشكلة الالتزام الموثوق وتجلياتها في مفاوضات إنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية


  • 16 سبتمبر 2025

شارك الموضوع

وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية خلال 24 ساعة في أثناء حملته الرئاسية، قبيل توليه لحكم الولايات المتحدة الأمريكية لفترة رئاسية ثانية[1]. ورغم مرور ثمانية أشهر على توليه المنصب لم تستطع إدارة ترمب أن توقف الحرب، بل اتسعت حدة العمليات العسكرية الروسية وكثافتها داخل الأراضي الأوكرانية، مع تفاوت في تقدير حجم هذا التوسع الروسي بين المراقبين[2].

ولا تنفي هذه الوقائع الجهود التفاوضية التي قامت بها الإدارة الأمريكية في محاولة إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، إذ شهد عام 2025 ثلاثة اجتماعات بين الطرفين، هي الأولى منذ عام 2022، أسفرت عن تبادل الأسرى، ولكنها لم توفق في وضع خطة لإنهاء الحرب للأسباب التي ستحاول الورقة بيانها بالتحليل.

فقد تجلت في هذه الحرب إحدى المشكلات التي تدرس نظريًّا، وتعرف في حقل النظم السياسية عادة باسم “مشكلة الالتزام الموثوق” credible commitment problem، إذ بها يمكن فهم الحوار بين روسيا والغرب ابتداء من وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة إلى اللحظة الراهنة، وإن كانت الدراسة ستقتصر على دراسة حالة المفاوضات الجارية بين الإدارة الروسية بقيادة بوتين والإدارة الأمريكية بقيادة ترمب. وتظهر هذه المشكلة بوضوح من خلال تقييم فلاديمير بوتين لنهج الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف مع الغرب، في الحصول على الضمانات اللازمة لمنع توسعهم غربًا، بالمثل الروسي “خدعوا أحمق بثلاثة أصابع”.[3] وفي جانب الغرب، على لسان رئيس الوزراء البريطاني ستارمر إلى ترمب محذرًا إياه من بوتين: “لا تثق ببوتين أبدًا”. وسنستعرض هذه المشكلة في ضوء منهج هيرشمان “الانسحاب- الحوار- التأييد” Exit-Voice-Loyalty، وهو منهج يُستخدم لحصر الخيارات التفاوضية للفاعلين، وفهم وتعيين الإستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها الأطراف المختلفة، ومحاولة الوصول إلى الاستجابة الأفضل لكل طرف، ومعرفة نقطة التوازن.

مشكلة الالتزام الموثوق credible commitment problem

تستخدم مشكلة الالتزام الموثوق لتعبر عن أزمة الثقة التي تتولد في أثناء الحوار بين طرفين غير متكافئين في علاقات القوة، نتيجة لغياب ضمانات تنفيذ الوعود المستقبلية[4]. وكما يظهر من تعريف المشكلة، فإن جوهرها يرجع إلى عنصرين:

  • الزمن، فما في مصلحة أحد الفاعلين اليوم قد لا يكون في مصلحته غدًا؛ ومن ثم خرق الاتفاق الأول.
  • علاقات القوة، صاحب الالتزام بالوعد هو الأقوى، وعليه تنفيذ الالتزمات لكن لا شيء يلزمه فعليًّا بتطبيق ما وعد به. ويتداخل العنصران فيما يتعلق بالالتزامات التي يكون أجل استيفائها بعد أمد طويل، تتغير معه موازين القوى بما قد يجعل الفاعل الأضعف عند الاتفاق يخرق هذا الاتفاق بألا يلتزم بعهوده بسبب الواقع الجديد، وما يمليه على الطرفين.

وقد بحث علماء السياسة عن حل لهذه المشكلة، وتوصل بعضهم إلى ثلاثة حلول ممكنة،[5] وهي:

  • العقود الملزمة

وهو بالتزام الطرفين توقيع عقد قانوني ملزم بينهما، ويقع مصدر الإلزام في الطرف الثالث المراقب الذي له القدرة على ممارسة السلطة على كليهما. ولاحظ علماء السياسة على هذا الحل أنه قد يصلح في إطار قطاع الأعمال داخل الدولة الواحدة بين الأفراد والشركات، مع إمكانية تجاوزه كذلك في بعض الحالات، لكنه أقل فاعلية في حالة النظم السياسية؛ لأنه عادةً ما تكون الجهة التي تفرض العقد (الدولة/ صاحب السلطان) هي نفسها الطرف الذي قد يخلّ بالوعد. وفي حالة العلاقات الدولية؛ بسبب الطبيعة الأناركية التي يتسم بها النظام العالمي.

  • التفاعلات المتكررة

وهي عن طريق الحاجة إلى استمرار التفاعلات في المستقبل بما يدفع الفاعل الذي يعطي العهود إلى الالتزام؛ لأنه إن لم يلتزم لن يقدم له الطرف الآخر خدماته، أو يتعامل معه في المستقبل. في حالتنا المتعلقة بالمفاوضات بين روسيا والغرب، يظهر تأثير إغفال هذا الأمر من جانب الدول الغربية تجاه وعودها بعدم التوسع شرقًا؛ ما خلق هذه المشكلة لدى المفاوض الروسي في أثناء المفاوضات الحالية.

  • المؤسسات التي تعيد توزيع القوة

يرجع هذا الحل إلى كون المشكلة أن من يَعِد يملك القوة، أما المستفيد فلا يملكها. فالحل يجب أن يكون خلق مؤسسات تعطي المستفيد القدرة على معاقبة الطرف الآخر. وفي حالة العلاقات الدولية، الدخول في أحلاف عسكرية تغير موازيين القوى، وتعلي تكلفة خرق العهود من جانب الطرف الأقوى، وهو في حالتنا ما حاولت أوكرانيا القيام به من خلال طلبها الانضمام إلى الناتو، وسعت الدولة الروسية إلى منعه بالعملية العسكرية الخاصة لتأثيره في مجمل العلاقات بين الدولتين.

وتتجلى هذه المشكلة في المفاوضات الجارية، لا في صورتها المجردة التي عرضناها، وإن كانت معقدة حتى في مثالها النظري، لكنها في حالة الحرب الروسية- الأوكرانية أشد تعقيدًا؛ نظرًا إلى سجل المفاوضات التاريخي السابق على هذه الجولة التفاوضية، التي رسخت جذور المشكلة، وراكمت شكوك كل طرف في الآخر.  ويمكن أن نستجلي جذور هذا الموقف لفلاديمير بوتين من خلال ما عبَّر عنه في  مؤتمر صحفي على هامش مشاركته في قمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في مدينة تيانجين الصينية، في نهاية أغسطس (آب) وبداية سبتمبر (أيلول) 2025، إذ فقال عن دوافع قيام هذه الحرب: “في عام 2014، جاء وزراء ثلاث دول أوروبية إلى كييف ووقعوا على وثيقة… ووفقًا لهذا الاتفاق، يتعين حل جميع النزاعات السياسية في الإطار الدستوري، سلميًّا وقانونيًّا.

وبعد يوم أو يومين فقط، حدث انقلاب دموي ووحشي. لم يفعل أي من هؤلاء الضامنين أي شيء لإعادة الوضع إلى الإطار القانوني. وهنا بدأ الصراع؛ لأنه بعد ذلك مباشرة بدأت الأحداث تتكشف في شبه جزيرة القرم، وشن نظام كييف عمليات عسكرية باستخدام المركبات المدرعة والطائرات ضد السكان المدنيين في تلك المناطق الأوكرانية التي لم توافق على الانقلاب، ثم قوّضوا جميع محاولاتنا لحل المسألة سلميًّا، ورفضوا علنًا تنفيذ اتفاقات مينسك”.

تظهر من هذا النص لفلاديمير بوتين حالة أخرى في تاريخ العلاقات بين روسيا والدول الغربية رسخت مشكلة الالتزام الموثوق. وعلى عكس الحالة الأولى التي كانت روسيا فيها أضعف بكثير من أن تتخذ خطوات ميدانية ترفع معها تكلفة انتهاك المواثيق التي تلتزم بها مع غيرها من الأطراف الدولية، نجد بوتين في هذه الحالة يلجأ إلى حلين من الحلول التي قدمها علماء السياسة للمشكلة، وهي الحاجة المستمرة إلى التفاعل الدولي مع روسيا بوصفها دولة ذات دور كبير في كثير من الأحداث الدولية في النظام العالمي، وتغير موازين القوى بما سمح لروسيا بالقيام بالعملية العسكرية الخاصة لتلبية ما تراه ضمانات أمنية، وترفع تكلفة خرق الاتفاقات الدولية معها.

وهو ما سنبحثه بتفصيل من خلال اقتراب هيرشمان؛ لنرى ممكنات حل هذه المشكلة لدى الأطراف المختلفة.

اقتراب هيرشمان لتفسير سلوك الفاعلين ومحاكاته: الانسحاب- الحوار- التأييد

في محاولة لفهم تعقيد الظاهرة الاجتماعية، وتفسير سلوك الفاعلين فيها، لجأ فريق من علماء السياسة إلى ما يسمى “نظرية الألعاب” Gamefication، وهي لديهم أداة لتحليل المواقف الإستراتيجية التي تعبر عن جوهر الظاهرة السياسية. ومن هذه الألعاب ما قدّمه عالم الاقتصاد السياسي الشهير ألبرت هيرشمان، في إطاره الكلاسيكي لتحليل سلوك الفاعلين في البيئات غير المرغوب فيها في نظرهم، وحصرها في ثلاثة خيارات يمكن للفاعل اتباعها في سبيل تحقيق أهدافه المرجوة[6]. وقد وضع هذا الاقتراب أساسًا لفهم سلوك الفاعلين في النظم السياسية، وسنحاول في هذه الدراسة تجريده ونقله إلى العلاقات الدولية. وهذه الخيارات هي الانسحاب (Exit)، أو الحوار (Voice)، أو التأييد (Loyalty).

  • الانسحاب (Exit): يعني أن تعترف بحدوث التغيّر السلبي في بيئتك، وتعدّل سلوكك بحيث تحقق أفضل نتيجة ممكنة ضمن الظروف الجديدة. على سبيل المثال، يضرب هيرشمان المثال بالآتي: إذا كان المواطن في ولاية في الولايات المتحدة لا يُسمح له فيها بحمل المسدسات، ينتقل إلى أخرى يُسمح له فيها بذلك. وعلى مستوى العلاقات الدولية يمكننا أن نضرب المثال التالي: إذا لم يناسب أحد الفاعلين سياسة منظمة دولية ما ينسحب منها. وفي حالتنا، إن قررت أوكرانيا تقديم طلب للانضمام إلى الناتو قد يكون من ضمن الخيارات التفاوضية داخل دائرة الانسحاب الهجوم العسكري، بغض النظر عن كونه أفضل الخيارات أو لا.
  • الصوت (Voice): يعني المفاوضات أو الاحتجاج أو الضغط السياسي (اللوبي)، أو اتخاذ إجراءات مباشرة أخرى بهدف إعادة البيئة إلى حالتها الأصلية. على سبيل المثال: إذا زادت الدولة معدل الضرائب، يمكنك الانضمام إلى احتجاج ضد الضرائب للضغط على الحكومة حتى تتراجع عن القرار. وبالمثل، في العلاقات الدولية، المفاوضات الدبلوماسية، واستخدام أوراق الضغط التفاوضية لتحسين الوضع بما يريده الفاعل.
  • الولاء (Loyalty): يعني أن يقبل الفاعل التغيّر السلبي في بيئته من دون أن يغيّر سلوكه. على سبيل المثال: إذا حكمت الدولة بحظر حمل الأسلحة، يتقبله ويحظر على نفسه استخدام الأسلحة. وفي العلاقات الدولية، تقبل الدولة بالوضع القائم، وإن كان لا يرضيها.

ويرجع التعقيد في هذا الإطار إلى كون اختيار الفاعلين لأي خيار من الثلاثة لاحقًا على تقييمه وتوقعه لما سيترتب على اتخاذه من جانب الطرف الآخر. وبعبارة أخرى، قدرة اللاعب على تحقيق هدفه في هذه اللعبة يعتمد على حسن توقعه لقرارات الفاعل الآخر.

وقدم هيرشمان حلًا أوليًّا للعبة من خلال افتراض عقلانية الفاعلين، أي قدرتهم على تحقيق أعظم قدر من المنفعة للاعب بقدر معلوماته. ولتطبيق هذا الحل يتطلب ابتداء فهم اصطلاح المنفعة لدى الفاعلين باقتراب ذاتي، لا موضوعي، بالإضافة إلى معرفة المعلومات التي لديهم، وبناء عليه توقع سلوك الأفراد. وهذا الاقتراب، وإن كان مفيدًا للمحلل وللفاعلين لفهم سلوك الأطراف الأخرى، يصعب معه معرفة حل اللعبة على نحو موضوعي، أي إمكانية الوصول إلى الخيار العقلاني الذي يمكن أن يحقق أقصى استفادة للاعب بغض النظر عن حدود معلوماته.

وقد حل هيرشمان هذه المشكلة على المستوى النظري من خلال تتبع آلية الاستقراء العكسي، وهي Backward induction، التي تتمثل في النظر من نهاية اللعبة إلى بدايتها؛ لمعرفة المسار الذي أدى إلى تحقيق الهدف دون أي قيود. ورغم جودة هذا الحل على المستوى النظري في حدود هذه اللعبة، فإن قيوده التحليلية عالية جدًّا. ففي حالة الصراعات التي لا تزال جارية، كحالة الحرب الروسية- الأوكرانية، لا يفيدنا هذا الحل، وتقتصر فاعليته الجزئية على فهم التفاعلات الدولية التي انتهت بالفعل. ولا تكون الاستفادة منها حتى في هذه الحالة إلا على نحو جزئي؛ نظرًا إلى تعقيد الأحداث، والصعوبة البالغة في الإحاطة بأبعاد الواقع الاجتماعي، وأوزان تأثير كل بعد من هذه الأبعاد.

ورغم هذه القيودة، تظل أهمية هذا الاقتراب في كونه يقدم لنا تفسيرًا لسلوك الفاعلين، ومحاولة لحصر الخيارات المتاحة لديهم، وتقييمها ذاتيًّا وموضوعيًّا؛ ومن ثم محاولة التنبؤ بسلوك الفاعلين على نحو يراعي -إلى حد ما- تعقيد الظاهرة الاجتماعية، وهو ما يقدم في شجرة/ مصفوفة اللعبة Game tree، أي التمثيل الكامل للاختيارات الممكنة، والفروع التي تتكون منها اللعبة، وهو ما نختبره في هذه الورقة من خلال عرض الموقف التفاوضي الذي بدأه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب خلال فترته الرئاسية الثانية؛ في محاولة لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية، والنظر فيما حققته المفاوضات حتى الآن، وما تعثرت بسببه، ومآلها المتوقع وفقًا لإطار هيرشمان.

تطورات المفاوضات لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية

قدّم فلاديمير بوتين تحديثًا شاملًا عن سياسة روسيا تجاه أوكرانيا في ظل المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية في مؤتمر صحفي على هامش مشاركته في قمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في مدينة تيانجين الصينية، نهاية أغسطس (آب) وبداية سبتمبر (أيلول) 2025، معبرًا عن وجود “بصيص أمل” في ظل الإدراة الأمريكية الحالية، ورغبتها الصادقة في إنهاء الحرب. ووضح لنا جليًا خياران من الخيارات الثلاثة عامةً في قوله: “ يبدو لي أنه إذا ساد المنطق السليم، فسيكون من الممكن الاتفاق على طريقة مقبولة لإنهاء هذا الصراع. هذا هو افتراضي”، وهي حالة الحوار. وأكمل: “وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيتعين علينا أن نتصدى لتحدياتنا بالوسائل العسكرية”، وهي حالة الانسحاب[7].

وتجري المفاوضات الحالية في ظل جلوس الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مع كلا الطرفين على حدة. وأسفرت هذه المفاوضات عمّا يلي:

أولًا- تراجع أمريكي عن طلب وقف إطلاق النار بوصفه متطلبًا لإجراء المفاوضات مع روسيا، وهو ما كان طلبًا لزلينسكي قبل مناقشة خطة السلام، وقد أبدى استعدادًا للتراجع عن هذا الطلب[8].

ثانيًا- طلب القادة الأوروبيين ضمانات أمنية تعكس المادة 5 من ميثاق حلف الناتو، وما تضمنه من التزمات الدفاع المشترك. ووافق ترمب على مبدأ الضمانات الأمنية، وأعرب عن موافقة بوتين عليه كذلك، لكن ليس بحضور عسكري للناتو.

ثالثًا- اتفاق عسكري محتمل بـ90 مليار دولار بين واشنطن وأوكرانيا[9].

رابعًا -والأهم- لم يتم مناقشة والوصول إلى اتفاق بشأن الأراضي التي ضمتها روسيا، وقد قدمت مقترحها بخصوص هذه الأراضي بأن تأخذ كل دونيتسك ولوغانسك، في مقابل تجميد الوضع في خيرسون وزابورجيا، وانسحاب من خاركيف وسومي. وقد رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي -على نحو قاطع- أي تنازل أحادي عن الأراضي الأوكرانية، مشددًا أن الأمر محظور دستوريًّا، وأن الأرض ليست للمساومة[10].

تصميم خيارات مصفوفة العوائد (EVL)

قبل البدء في تصميم جدول العوائد، لا بد من التعريف بالخيارات المتاحة لكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في ضوء تطورات الموقف كما سبق التقديم لها، مع الانتباه إلى أن الترجيح في مصفوفة العوائد يكون عادة إحصائيًّا وفقَا لحساب معين، لكن في هذه الورقة سيكون الترجيح كيفيًّا بدلًا عن الحساب الإحصائي.

1- خيارات روسيا

  • الانسحاب Exit: الانسحاب من المفاوضات، وتكثيف العمليات العسكرية، ومحاولة تحقيق مكاسب إستراتيجية في الميدان تجبر المفاوض على سرعة عقد اتفاق يراعي المطالب الروسية، أو فرض الأمر الواقع في أسوأ الأحوال، وهو ما تتجرع روسيا في مقابله خسائر بشرية ومالية كبيرة كذلك.
  • الحوار voice: الدخول في مسار تفاوضي مع واشنطن، ويتراوح مستوى التفاوض بداية من تسليم الأسرى إلى تسوية الصراع، ويهدف -من الجانب الروسي- إلى ثبيت مكاسب دونباس، والحصول على ضمانات حياد أوكرانيا بلا قوات غربية، وكسب شرعية بوساطة أمريكية.
  • التأييد Loyalty:

لم يقدم بوتين في خطابة في الصين أي خيار ثالث، لكنه دائمًا موجود -ولو كان غير مصرح به- ويتمثل في الحفاظ على قناة ترمب مفتوحة دون تنازلات كبرى، وإطالة زمن التفاوض مع خطاب إيجابي عن المفاوضات، وإرسال إشارات استعداد لقمة مستقبلية، لكن فقط بعد أجندة متفق عليها؛ بغرض كسب وقت لتحسين التموضع العسكري، ومنع فرض عقوبات فورية.

2-  خيارات الولايات المتحدة الأمريكية

  • الانسحاب Exit: الخروج من مسار الحوار، والانتقال إلى الضغط القسري عن طريق فرض عقوبات شديدة على روسيا، بالإضافة إلى دعم تسليح أوكرانيا بصفقات كبيرة تكبد الجانب الروسي خسائر كبيرة، وتنقل الجيش الأوكراني من الدفاع إلى مهاجمة العمق الروسي.
  • الحوار:Voice الدفع نحو اتفاق سلام، أو “تجميد” عن طريق التفاوض المباشر مع موسكو وكييف، برعاية أمريكية، من خلال محاولة ترتيب لقاء زيلينسكي- بوتين، وهو ما سيعزز صورة ترمب كصانع سلام، ويعيد دور الولايات المتحدة في إنهاء الصراعات الدولية. وقد ذكرت دراسة عن مؤسسة “راند” سبيلًا عمليًّا لتحقيق هذا الهدف من خلال دفع الأطراف إلى اتفاق إطاري به الأساس الذي سيبنى عليه في التسوية السياسية، وتصوير الوضع الذي سيكون عليه  الطرفان بعد تحقيق السلام لدفعهما إلى التحرك إليه.
  • التأييد Loyalty: إبقاء قناة التفاوض مفتوحة من دون فرض عقوبات جديدة، أو تحقيق نتائج ملموسة، والاكتفاء بالتصريحات؛ بما يمكن أن يؤدي إلى كسب وقت سياسي على الساحة الداخلية عن دور الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترمب، مع تحمل تكاليف عالية على مستوى الصورة الدبلوماسية لإدارته، وخسائر ميدانية للجانب الأوكراني، وتدهور للعلاقات مع الدول الأوروبية.

مصفوفة العوائد (EVL)

الصفوف = خيارات روسيا

 الأعمدة = خيارات الولايات المتحدة

كل خانة = (روسيا، الولايات المتحدة)

Exit (الولايات المتحدة)Voice (الولايات المتحدة)Loyalty (الولايات المتحدة)
Exit (روسيا)عقوبات اقتصادية على روسيا، ودعم عسكري لأوكرانيا+ تصعيد عسكري روسيتصعيد عسكري روسي تقابله دبلوماسية أمريكية وتلويح بالعقوباتمكسب روسي قصير/ خسارة صورة الولايات المتحدة
Voice (روسيا)تنازل روسي مقابل عقوبات أمريكية اتفاق محدود يؤدي إلى وقف مؤقت للحرب، ولا ينجح في إنهاء الصراع/ ضمانات أمنية بلا قوات ★حالة توازنتجميد يريح روسيا ويضعف إنجاز ترمب
Loyalty (روسيا)تجميد الحرب مقابل عقوبات اقتصاديةاتفاق على مكاسب صغيرة، كإخراج الأسرى، لا تؤدي إلى إنهاء الحربمد أمد الحرب لكسب كلا الطرفين الوقت

 

 الخيارات المثلى لكل طرف وحالة التوازن لكليهما (Equilibrium)

وفقًا لجدول المصفوفات فإنه لا تظهر أي تسوية قريبة من شأنها حل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا على الأمد الطويل[11]، وإن ظهر إمكان وقف الحرب والوصول إلى تسوية جزئية بين الطرفين. ووفقًا لجدول المصفوفات كذلك فإن الحالة الأمثل لروسيا هي في حالة الحوار الذي يقابله تأييد أمريكي، وفرضه على الجانب الأوكراني دون تصعيد، أو مناقشة للمتطلبات الروسية، وهو مستبعد بسبب قضية الأراضي التي تطلب روسيا ضمها، في حين أن أفضل حالة للولايات المتحدة الأمريكية هي نفسها حالة التوازن التي تحقق أكبر قدر من المكاسب لكلا الطرفين، وهي التي تقع عند (الحوار، الحوار)، إذ عندها تتوقف الحرب بوساطة أمريكية، وبتسوية مقبولة مرحليًّا لقضية الأراضي، وهو ما قد يكون في صورة تجميد الوضع، مع استمرار مفاوضات مكثقة بين الجانبين الروسي والأوكراني يستعدان خلالها عسكريًّا للقتال مرة أخرى، مع احتمال تأييد روسي لتغيير الداخل الأوكراني، كما ظهر من خلال تصريحات فلاديمير بوتين في الصين عن سقوط شرعية زيلينسكي. وحتى مع افتراض وقوع هذا الخيار فإن الحرب لن تنتهي؛ نظرًا إلى أن الشرائح الأوكرانية التي سترفض تلك التغييرات، ولو لم تستطع منعها، ستعمل على تغذية التيارات القومية، بما يؤدي إلى تجدد الصراع مرة أخرى.

وختامًا، فإن هذه الورقة حاولت إظهار تجليات “مشكلة الالتزام الموثوق” في حالة المفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء الصراع، وإن كانت تتخطاها، وظهر من خلالها تعقد المشكلة بالتطور الزماني لدى الفاعلين، مما يعثر معه إمكانية الوصول إلى حل مرسخ للسلام على نحو مستدام، وهو ما يرجع إلى تعقد الظاهرة الاجتماعية. وغني عن البيان قصور الترتيبات الدولية عن حل هذه الأزمات بما تمتلكه من أدوات حالية، بما يدفع الوحدات إلى تأمين نفسها من خلال زيادة مقدرات القوة من خلال تعزيز الشعور بالخطر الناتج عن أزمة “الالتزام الموثوق”، بما يجعل تنامي القوة مصاحبًا لتنامي عدوانية الفاعلين. ولعل ذلك ظهر -بوضوح- على ساحة الصراع الروسي- الأوكراني الذي كان من بواعث قيامه أزمة الثقة الروسية لدى الدول الغربية، ونراه يتنامى بازدياد كراهية الأوكرانيين للدولة الروسية، فكأن هذه المشكلة تخبر الفاعلين في الساحة الدولية بأنه ينبغي لهم الاستعداد للاحتمال الأسوأ من جانب الطرف الآخر، وعدم المبادرة إلى التصرف وفقًا لهذا الاحتمال، لكن المشكلة التي ستظل قائمة هي في التكلفة العالية التي سيتكبدها الفاعل في بعض خيارات الطرف الآخر، وإن كان مستعدًا لها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع