تقدير موقف

مشروع دونالد ترمب للسلام في أوكرانيا.. إلى أين؟


  • 30 نوفمبر 2025

شارك الموضوع

بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية عام 2022، طرح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب تصورًا جديدًا ومثيرًا للجدل لإنهاء الصراع. جاءت المبادرة في صورة خطة سلام مسرّبة تضمنت تنازلات كبيرة من أوكرانيا مقابل ضمانات وحوافز من الولايات المتحدة لروسيا وأوكرانيا. يركز هذا التحليل على تفاصيل خطة ترمب المقترحة (خاصة ما يتعلق منها بقضايا الأراضي الأوكرانية والجيش الأوكراني ووضع أوكرانيا في الناتو والضمانات الأمنية)، ويستعرض أهداف ترمب من هذه الخطة داخليًا وخارجيًا، وتأثيرها المحتمل في مكانة واشنطن عالميًا. كما نناقش ردود فعل الأطراف الرئيسة في الكونغرس الأمريكي (الديمقراطيون والجمهوريون)، وفي أوكرانيا وروسيا، وعند قادة الاتحاد الأوروبي (خصوصًا فرنسا وألمانيا). وأخيرًا، نتناول أبرز الانتقادات والتحديات التي تواجه تنفيذ الخطة، ومنها: مدى واقعيتها عمليًا، وتأثيرها في سيادة أوكرانيا، وموقف الرأي العام الدولي منها.

بنود خطة ترمب للسلام في أوكرانيا

وفقًا لنص مسودة الاتفاق المكوّن من 28 بندًا (الذي أُعدّ بتنسيق بين مبعوث ترمب الخاص ونظيره الروسي) يمكن تلخيص أهم بنود الخطة على النحو التالي:

ترسيم الأراضي والسيادة: تنص الخطة على اعتراف فعلي بالسيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم، وكذلك مناطق لوغانسك ودونيتسك بكاملها في إقليم دونباس (حتى الأجزاء التي كانت لا تزال تحت سيطرة كييف). بالإضافة إلى ذلك، يُقترح تجميد خطوط التماس الحالية في مقاطعتي خيرسون وزابوريجيا بحيث تتقسم بين أوكرانيا وروسيا وفق الوضع الميداني الراهن. كما تُلزَم أوكرانيا بإخلاء قواتها من المواقع التي تسيطر عليها في أجزاء من دونيتسك، لتصبح تلك منطقة عازلة منزوعة السلاح (مع اعتبارها بحكم الأمر الواقع تحت النفوذ الروسي، وإن تعهّدت موسكو بعدم إدخال قواتها إليها). عمليًا، يعني ذلك إقرار أوكرانيا بخسارة مناطق واسعة لصالح روسيا، وتأجيل المطالبة بها، وهو تنازل بالغ الحساسية يتعارض مع الموقف الأوكراني المعلن بعدم التخلي عن أي جزء من أراضيها المحتلة.

الوضع العسكري الأوكراني: تدعو الخطة إلى تقليص حجم الجيش الأوكراني إلى 600 ألف جندي (من نحو 800 ألف حاليًا). الهدف المعلن هو طمأنة موسكو بأن أوكرانيا لن تشكل تهديدًا مستقبليًا، لكن ذلك أيضًا يحدّ من قدرة كييف الدفاعية الذاتية. كما تحظّر الخطة وجود قوات أجنبية (تابعة للناتو) على الأراضي الأوكرانية بعد الحرب. ببساطة، تريد موسكو -من خلال هذه البنود- أوكرانيا ضعيفة عسكريًا ومحايدة.

عضوية الناتو والضمانات الأمنية: تطالب الخطة أوكرانيا بإعلان نفسها دولة محايدة، من خلال تعديل دستورها للتخلي عن مسعى الانضمام إلى حلف الناتو. في المقابل، يتعهد الناتو بعدم منح أوكرانيا العضوية، أو نشر قواته فيها مستقبلًا، وبذلك تحصل روسيا على مبتغاها بمنع توسع الحلف شرقًا. وبدل مظلة الناتو، تُمنح أوكرانيا “ضمانات أمنية” من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ أي تعهّدًا جماعيًّا بالرد العسكري المنسق إذا تعرضت أوكرانيا لأي اعتداء روسي جديد. غير أن هذه الضمانات مشروطة أيضًا بسلوك أوكرانيا؛ فإذا بادرت كييف بأي هجوم غير مبرر داخل الأراضي الروسية، يمكن اعتبار الضمانات ملغاة. كما أنها ضمانات سياسية وليست معاهدة دفاع رسمية، مما يجعل الكثيرين يشككون في قوتها مقارنة بعضوية الناتو الكاملة.

الجوانب الاقتصادية وإعادة الإعمار: تقترح الخطة حزمة دعم اقتصادي كبير لأوكرانيا فور وقف القتال. سيُستخدم جزء من الأصول الروسية المجمدة (نحو 100 مليار دولار) لتمويل إعادة إعمار أوكرانيا، مع مساهمة موازية من دول أوروبية. إضافة إلى ذلك، ستقود الولايات المتحدة وحلفاء آخرون جهود إعادة بناء البنية التحتية الأوكرانية، وتطوير قطاعات مثل الطاقة والتكنولوجيا. في المقابل، سيُعاد دمج روسيا في الاقتصاد العالمي تدريجيًا، ورفع العقوبات الغربية عنها على مراحل، ودعوتها للعودة إلى مجموعة الثماني (بعد أن كانت مستبعدة منذ 2014). كما تتضمن الخطة إبرام شراكات اقتصادية طويلة الأمد بين واشنطن وموسكو في مجالات الاستثمار والطاقة والتكنولوجيا، في محاولة لجعل السلام ذا منفعة لجميع الأطراف.

ترتيبات سياسية وإنسانية: تدعو الخطة على الصعيد السياسي الداخلي إلى إجراء انتخابات أوكرانية عامة خلال 100 يوم من بدء سريان الاتفاق؛ لضخ شرعية جديدة في النظام السياسي الأوكراني بعد الحرب. كما تشمل تبادلًا شاملًا للأسرى والجثامين بين أوكرانيا وروسيا، وإعادة جميع المدنيين المبعدين (خاصة الأطفال) إلى وطنهم. بالإضافة إلى ذلك، تنص الخطة على منح عفو عام لكل الأطراف عن الأفعال المرتكبة خلال الحرب، أي عدم محاسبة أي شخص (ومنهم المسؤولون الروس) على ما جرى إبّان الصراع. وأخيرًا، تقترح إنشاء مجلس دولي للسلام برئاسة ترمب نفسه لمراقبة تنفيذ الاتفاق، وفرض عقوبات على أي مخالفة له.

باختصار، تعرض خطة ترمب صفقة شاملة تنهي الحرب عبر مقايضة تتنازل فيها أوكرانيا عن أراضٍ وطموحات أمنية مقابل حصولها على أمن بضمانة دولية غير رسمية ودعم اقتصادي كبير، وتحصل روسيا على اعتراف بمكاسبها، وضمان حياد أوكرانيا، ورفع العقوبات عنها. هذه المقاربة غير المسبوقة أثارت فور تسريبها عاصفة من الجدل بشأن عدالتها وإمكانية تنفيذها.

أهداف ترمب من الخطة.. الدوافع الداخلية والخارجية

داخليًا: السياسة الأمريكية لدى ترمب اعتبارات انتخابية وسياسية داخلية تدفعه نحو هذه الخطة. فهو لطالما انتقد الإنفاق الأمريكي الكبير على دعم أوكرانيا، ووعد بتجنب “حروب لا تنتهي”، وتركيز موارد الولايات المتحدة في الداخل. تقديمه حلًا سريعًا للحرب الأوكرانية يتيح له الادعاء بأنه وفّى بوعوده، ووفّر أموال الأمريكيين. كما أنه يرضي الجناح الشعبي في الولايات المتحدة الذي يرى في استمرار دعم أوكرانيا عبئًا متزايدًا. نجاح هذه الصفقة سيصوّر ترمب كـصانع سلام فعال مقارنةً بإدارة بايدن التي دعمت أوكرانيا عسكريًا، لكنها لم تحقق إنهاءً للصراع. كذلك يمنح ترمب ورقة قوية لحملته السياسية المقبلة بإظهار قدرته على تحقيق إنجازات عالمية كبرى.

خارجيًا: الاستراتيجية الدولية: يسعى ترمب أيضًا إلى إعادة رسم دور الولايات المتحدة العالمي من خلال هذه المبادرة، فهو يرى أن استرضاء روسيا جزئيًا وعقد صفقة معها قد يخدم المصلحة الأمريكية البعيدة المدى؛ لأن إنهاء حرب أوكرانيا يحرر واشنطن لتركيز جهودها على المنافس الأول الصين. كما أن التقارب مع موسكو (بما في ذلك رفع العقوبات)، والتعاون الاقتصادي معها، قد يضع إسفينًا بين روسيا والصين، أو يكسب ود الكرملين ويمنعه من الارتماء الكامل في أحضان بكين. فوق ذلك، نجاح ترمب في التفاوض على سلام كبير سيعزز صورته دوليًا بوصفه شخصية قوية قادرة على حل نزاع معقد بجرة قلم، مما يمكن أن يرفع رصيد الولايات المتحدة (ورصيده الشخصي) كطرف يصنع الحلول. ومع ذلك، تأتي هذه التحركات مع أخطار على مكانة واشنطن ؛فقد يُنظَر إليها على أنها تخلت عن مبادئ ثابتة (مثل رفض تغيير الحدود بالقوة) مقابل سلام سريع؛ ما قد يضر بصورتها بوصفها مدافعًا عن الديمقراطية والعدل الدولي. أيضًا، أثار التفرد الأمريكي في صياغة الاتفاق مع روسيا، دون تنسيق كامل مع الحلفاء الأوروبيين، توترًا ضمن المعسكر الغربي؛ إذ شعر الأوروبيون بأن مصالحهم وأمنهم عُرضة للمساومة من وراء ظهرهم. بعبارة أخرى، ترمب يهدف من خطته إلى تسجيل نجاح دبلوماسي كبير يخدم طموحاته الداخلية والخارجية، لكنه يغامر بمصالح التحالفات التقليدية، وبصورة الولايات المتحدة الأخلاقية على الساحة الدولية.

ردود فعل الأطراف الرئيسة

قوبلت خطة ترمب بانتقاد حاد من الديمقراطيين، وتفاوت في المواقف بين الجمهوريين. أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس عبّروا سريعًا عن رفضهم الخطة، معتبرين أنها استرضاء خطير لموسكو، وتخلٍّ عن أوكرانيا التي تقاتل دفاعًا عن سيادتها. وصفها بعضهم بأنها تنازل قسري تحت تهديد القوة، وحذّروا من أن القبول بتقسيم أوكرانيا سيشجّع روسيا على مزيد من العدوان في المستقبل. وتعهد نواب ديمقراطيون بالعمل على منع تمرير أي تمويل أو تشريع يدعم فرض اتفاق يكرّس مكاسب روسيا الإقليمية قسرًا على الأوكرانيين.

أما داخل الحزب الجمهوري، فقد أيد حلفاء ترمب والمقربون منه المبادرة بحماسة، واصفين إياها بأنها محاولة شجاعة لوقف نزيف الحرب، وحماية مصالح الولايات المتحدة. هؤلاء يجادلون بأن إطالة الحرب مكلف وخطير، وأن خطة ترمب تحقق السلام وتحفظ ماء الوجه للجميع. لكن في المقابل، برزت أصوات جمهورية معارضة أو متحفظة. كثير من الجمهوريين التقليديين الذين دعموا أوكرانيا (منهم أعضاء في لجان الشؤون الخارجية والدفاع) عبّروا عن قلقهم من الخطة. قال أحد النواب الجمهوريين البارزين إنه لن يؤيد أي اتفاق يُفرض على كييف بالإكراه، مشيرًا إلى أن التخلي عن حليف تحت الضغط يبعث برسالة ضعف، ويهدد مصداقية الولايات المتحدة. في المجمل، يواجه ترمب معارضة قوية في الكونغرس؛ فالديمقراطيون يجمعون على رفض الخطة من منطلق أخلاقي وإستراتيجي، وجزء مهم من الجمهوريين أيضًا غير مقتنع بها ويخشى تبعاتها. هذا الواقع قد يصعّب على الإدارة الحصول على الغطاء التشريعي والتمويلي اللازمين لتنفيذ الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بتخصيص الأموال، أو إقرار الترتيبات الأمنية التي تتطلب موافقة الكونغرس.

موقف الحكومة والشعب في أوكرانيا

فيما يتعلق بكييف، شكلت خطة ترمب تحديًا مصيريًا؛ فمن جهة، تعتمد أوكرانيا اعتمادًا شبه كامل على الدعم العسكري والمالي الأمريكي، ويدرك قادتها أن معارضة مبادرة واشنطن علنًا قد تؤدي إلى عواقب خطيرة (كخفض المساعدات). ومن جهة أخرى، تتضمن الخطة عناصر تراها أوكرانيا خطوطًا حمراء، مثل التنازل عن الأراضي، والتخلي عن حلم الانضمام إلى الناتو، وتقليص قوتها الدفاعية. وجد الرئيس فولوديمير زيلينسكي نفسه يسير على حبل مشدود. صرّح زيلينسكي أن اللحظة الحالية “إحدى أصعب اللحظات في تاريخنا”، وأن أوكرانيا قد تواجه خيارًا قاسيًا “بين خسارة الكرامة أو المخاطرة بخسارة الشريك الأساسي”، في إشارة إلى الاختيار بين قبول شروط مهينة أو فقدان دعم الولايات المتحدة. وشدد أنه لن يساوم على حرية بلاده وكرامتها، مؤكدًا أنه سيعمل على ضمان أن يكون أي سلام قادم “حقيقيًا وعادلًا”، وليس على حساب سيادة أوكرانيا.

اعتمدت الحكومة الأوكرانية نهجًا مزدوجًا في التعامل مع الخطة؛ الانفتاح على مبدأ التفاوض، مع الإصرار على تعديل البنود المجحفة، فقد أعلن زيلينسكي أن الخطة الأمريكية مجرد مسودة أولية قابلة للتغيير، وليست عرضًا نهائيًا مفروضًا، وأكد أن كييف ستقدم مقترحات مضادة لجعل الاتفاق “مقبولًا ومعقولًا”. وبالفعل، دخل المفاوضون الأوكرانيون في محادثات مكثفة مع فريق ترمب لمحاولة تخفيف الشروط. تشير التقارير إلى أنه أُدخلت تعديلات أولية على المسودة الأصلية، إذ عُلِّقَ البند المتعلق بمنع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وتأجل البتّ فيه، ووُضع شرط اقتصار أي نقاش بشأن الأراضي المحتلة على خطوط التماس الحالية، دون أي اعتراف بشرعية الضم الروسي. كذلك أصرت كييف على ضرورة إشراك الاتحاد الأوروبي في العملية التفاوضية، وقد لقي هذا المسعى دعمًا قويًا من فرنسا وألمانيا وبريطانيا التي شاركت لاحقًا في طرح مقترحات تعديل (لتقريب الخطة أكثر من الموقف الأوكراني).

داخليًا: يواجه زيلينسكي ضغطًا شعبيًا وسياسيًا كبيرًا؛ فالرأي العام الأوكراني الذي قدّم تضحيات جسيمة في الحرب يرفض بغالبيته أي تنازل إقليمي أو سيادي لموسكو. وقد أبدى معارضون وطنيون أوكرانيون صراحةً أن أي اتفاق يمنح روسيا ما لم تحصل عليه عسكريًا سيكون غير مقبول، وخيانة لدماء الشهداء؛ لذا يحاول زيلينسكي كسب الوقت والمناورة، فهو لا يرفض الخطة رفضًا قاطعًا (لكي لا يخسر دعم واشنطن)، وفي الوقت نفسه لا يوافق عليها إلا بشروط قابلة للتسويق داخليًا. باختصار، الموقف الأوكراني الرسمي هو الترحيب بأي جهد سلام، مع رفض أي مساس جوهري بالسيادة والوحدة الترابية، وهذا يفسر سعي كييف إلى تعديل معظم النقاط الخلافية قبل الوصول إلى توقيع محتمل.

موقف القيادة في الكرملين

لقيت خطة ترمب آذانًا مصغية وترحيبًا حذرًا في موسكو؛ فبعد شهور من اتهام الكرملين لواشنطن بأنها تقف عقبة أمام محادثات السلام، فوجئت روسيا على نحو إيجابي بأن الإدارة الأمريكية الجديدة تطرح مبادرة تلبي جزءًا كبيرًا من مطالبها. لقد سعت موسكو منذ البداية إلى تحييد أوكرانيا عسكريًا، ومنع انضمامها إلى الناتو، والاعتراف بضم القرم ودونباس،  وهذه النقاط تحديدًا ظهرت في صلب خطة ترمب؛ لذلك وصفها مسؤولون روس بأنها تطور مرحب به، وأشاد بها الرئيس فلاديمير بوتين بقوله إنها “قد تشكل أساسًا لتسوية نهائية”، مع إقراره بأن النص يحتاج إلى مناقشة مفصلة، ولم يُتَّفَق عليه بكل جزئياته بعد مع روسيا.

على الرغم من هذا الترحيب المبدئي على نحو غير علني، أبقت موسكو خياراتها مفتوحة، وأبدت رغبة في تحسين مكاسبها التفاوضية. أشار الكرملين إلى وجود بنود “مقبولة”، وأخرى “تحتاج إلى تعديل” من وجهة نظره؛ فمن المرجح أن تسعى روسيا مثلًا إلى إزالة أي غموض بشأن وضع المناطق المحتلة؛ إذ تريد اعترافًا أوضح بسيادتها على تلك المناطق، أو ترتيبات تحول دون عودة السيطرة الأوكرانية عليها مستقبلًا. وربما تعترض موسكو أيضًا على وجود ضمانات أمنية غربية قوية لأوكرانيا (حتى لو كانت خارج إطار الناتو)؛ لأنها لا ترغب بأن تلتزم دول الغرب رسميًا بحماية أوكرانيا. كذلك انتقدت موسكو بعض الطروحات الأوروبية البديلة، ووصفتها بأنها “منحازة” إلى كييف، و”غير بناءة”، في دلالة على تمسّكها بمعظم ما ورد في الخطة الأصلية.

بشكل عام، الموقف الروسي إيجابي بتحفظ.  ترى موسكو في نهج ترمب تحولًا جوهريًا في موقف واشنطن لصالحها؛ لذا تبدي استعدادًا للانخراط في بلورة الاتفاق، لكنها في الوقت نفسه لن تتنازل إلا بما لا يفسد عليها جوهر المكاسب.  من زاوية إستراتيجية، تشعر موسكو أنها انتقلت من موقع “المعزول تحت العقوبات” إلى موقع الشريك المطلوب لإحلال السلام، وهذا في ذاته يعد مكسبًا سياسيًا لها. ومع ذلك، يُدرك بوتين أن أي اتفاق سلام يجب أن يظهر أمام الداخل الروسي على أنه تحقيق لأهداف “العملية العسكرية الخاصة”؛ ولذلك سيحرص على أن تتضمن الصيغة النهائية أكبر قدر ممكن من الشروط المواتية لموسكو. إن انخراط روسيا البناء (أو عدمه) سيتوقف على مدى اقتناعها بأن الاتفاق يرسّخ نفوذها ومكاسبها، دون ترك ثغرات قد يستغلها الغرب أو أوكرانيا لاحقًا.

موقف قادة الاتحاد الأوروبي

في العواصم الأوروبية، كان وقع خطة ترمب في أوكرانيا مفاجئًا ومثيرًا للقلق.  الاتحاد الأوروبي -وخاصة فرنسا وألمانيا- دعم أوكرانيا بقوة سياسيًا وعسكريًا منذ بدء الحرب، واعتبر استقرار أوكرانيا جزءًا من أمن أوروبا؛ لذا عندما ظهرت تفاصيل خطة سلام صيغت بين واشنطن وموسكو بمنأى عن الأوروبيين، ساورتهم مخاوف عميقة حيالها.

على المستوى الرسمي، أبدى قادة أوروبا انفتاحًا حذرًا؛ فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس أكدا في تصريحات منفصلة ترحيبهما بأي مبادرة سلام، لكنهما شددا على أن أي اتفاق يجب أن يكون عادلًا ودائمًا.  وفي اتصال مشترك مع زيلينسكي، شدد ماكرون وميرتس على أن المصالح الأوكرانية الأساسية يجب احترامها، وألا يُفرض على كييف قبول ما لا تريده. باختصار، أوضح الأوروبيون أنهم لن يباركوا اتفاقًا يبدو وكأنه “سلام بالإكراه” بشروط روسية.

لم يكتف الأوروبيون بالتصريحات؛ بل تحركوا خلف الأضواء للتأثير في مسار الخطة؛ إذ سارع مسؤولون من فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى لقاء نظرائهم الأمريكيين والأوكرانيين، وتُدولت مسودة أوروبية مضادة من 28 بندًا (ردًا على الـ28 بندًا الأمريكية) تهدف إلى جعل الاتفاق أكثر توازنًا. من بين التعديلات الأوروبية المقترحة شطب أي مطلب بتنازل أوكرانيا عن أراض إضافية (حصر النقاش في الأراضي التي تحتلها روسيا حاليًا دون مطالبة أوكرانيا بانسحابات جديدة)، وتخفيف شرط تقليص الجيش (لمنح أوكرانيا مرونة كافية للدفاع عن نفسها)، وكذلك إلغاء فكرة منع أوكرانيا نهائيًا من ترتيبات أمنية مستقبلية (تأكيد حقها السيادي في اختيار تحالفاتها، ولو مع تعليق مسألة الناتو حاليًا). هذه التعديلات الأوروبية تهدف إلى جعل الخطة أكثر توازنًا وأقل انحيازًا إلى روسيا. وقد لقيت دعمًا ضمنيًا من غالبية دول الاتحاد الأوروبي، وإن كانت موسكو عبّرت عن امتعاضها منها.

خلاصة الموقف الأوروبي حذر واعتراض. نعم، تريد أوروبا نهاية للحرب، لكنها تريدها بشروط لا تقوّض أمن القارة، ولا تطيح بمبادئ السيادة.  الأوروبيون مستعدون لدعم عملية تفاوضية تقود إلى سلام معقول، لكنهم أوضحوا أنهم لن يشاركوا في فرض اتفاق إذعان على الأوكرانيين،  ومن المرجح أن يستمروا بالضغط سياسيًا -حتى عبر استمرار دعم أوكرانيا عسكريًا- لضمان ألا يُجبر زيلينسكي على توقيع ما يخالف مصالح بلاده الأساسية على المدى الطويل.

انتقادات وتحديات إزاء تنفيذ الخطة

منذ تسريبها، أثارت خطة ترمب سلسلة من الانتقادات والتساؤلات عن مدى قابليتها للتطبيق، وعدالة بنودها. فيما يلي أبرز التحديات التنفيذية والسياسية التي تواجه الخطة:

عدم واقعيتها ميدانيًا: يرى خبراء أن بعض البنود غير قابلة للتنفيذ عمليًا؛ فمثلًا، إنشاء منطقة عازلة في دونيتسك بانسحاب القوات الأوكرانية يثير أخطارًا أمنية جسيمة، إذ مَن سيضمن عدم استغلال روسيا لهذا الفراغ؟ كذلك، فرض حد أقصى على حجم الجيش الأوكراني يبدو أمرًا غير واقعي، فضلًا عن كونه ينتقص من حق أوكرانيا السيادي في الدفاع.

ضرب سيادة أوكرانيا: ينتقد كثيرون فكرة إلزام أوكرانيا بالحياد الدائم والتنازل عن أراضٍ بالقوة، معتبرين ذلك انتهاكًا لسيادتها، ومكافأة لروسيا على العدوان، ويحذرون من سابقة تشجع الآخرين على انتهاك حدود الدول بالقوة.

الموقف الدولي والضمانات: تفتقر الخطة إلى إجماع دولي داعم؛ فبخلاف التحفظ الأوروبي الصريح، تجد دول أخرى صعوبة في تأييد اتفاق يمنح روسيا مكاسب، ويعفو ضمنيًا عن تجاوزاتها. هذا الغياب للغطاء الدولي يهدد شرعية الاتفاق. كما أن الضمانات الأمنية المقدمة لأوكرانيا بديلةً عن عضوية الناتو تظل أضعف من التزام معاهدة رسمية، مما يثير شكوكًا بشأن فعاليتها إذا تغيّرت الظروف.

آليات التنفيذ: يلاحظ منتقدون غياب ترتيبات واضحة لضمان تنفيذ البنود؛ فمجلس السلام المقترح برئاسة ترمب ليس جهة دولية مجرّبة، وصلاحياته غير محددة. بدون آلية إنفاذ قوية (مثل إشراك الأمم المتحدة، أو تثبيت الاتفاق في قرار دولي ملزم) قد لا تتم مراقبة التزام الأطراف على نحو فعال. في ظل انعدام الثقة الحالي، يُخشى أن أي خرق طفيف أو خلاف في تفسير البنود يمكن أن يؤدي إلى انهيار الاتفاق سريعًا، كما حدث في تجارب سابقة.

التحديات السياسية -حتى لو وُقّع الاتفاق- قد تصطدم بعقبات داخلية في أوكرانيا وروسيا، فمن غير المضمون أن يوافق البرلمان الأوكراني أو الشعب على تنازلات تمسّ السيادة دون مقاومة سياسية. وفي موسكو، قد يعترض متشددون قوميون على أي جانب يرونه تنازلًا. باختصار، ستحتاج الخطة إلى قيادة حازمة في كييف وموسكو لتمريرها وتنفيذها، وإلى دعم شعبي، وهو أمر غير مؤكد بالنظر إلى حساسية التنازلات المطلوبة.

الخاتمة

ختامًا، يبرز مشروع السلام الذي اقترحه دونالد ترمب لأوكرانيا على أنه محاولة جريئة لإنهاء حرب طاحنة، لكنه يثير أسئلة صعبة عن الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق السلام. الخطة المطروحة تقدم إنهاءً سريعًا للقتال، لكنها تفعل ذلك من خلال تنازلات كبرى من الطرف الأوكراني، وضمانات مستقبلية قد تكون هشة. هذه المبادرة أثارت انتقادات واسعة من حلفاء واشنطن وخصومها، وانقسمت الآراء بين من يراها طريقًا واقعيًا للسلام ومن يراها سلامًا زائفًا مفروضًا بالقوة. في النهاية، نجاح هذه الخطة -إن تحقق- مرهون بقدرة ترمب وفريقه على تعديلها بما يكفي لطمأنة أوكرانيا وحلفائها، وتوفير ضمانات حقيقية لتنفيذها. أما إذا ظلت على صيغتها الحالية دون تحسين، فالأرجح أن تواجه مصير الرفض أو الفشل في التطبيق؛ وحينئذ ستستمر الحرب في أوكرانيا، وربما بشراسة أكبر بعد تعمّق انعدام الثقة. وهكذا، فإن مشروع ترمب للسلام يظل سيفًا ذا حدين؛ إما خطوة أولى نحو سلام قابل للحياة بشروط أكثر توازنًا، وإما محاولة غير موفقة قد تؤجل الصراع قليلًا، فيما تزرع عوامل تفجيره لاحقًا من جديد.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع