مع قرار المحكمة الدستورية -بالإجماع- تأييد عزل الرئيس “يون سوك يول”، يُمكن أخيرًا ملء الفراغ السياسي الخطير في كوريا الجنوبية بزعيم جديد. وسيكون “لي جاي ميونغ”، حامل لواء الليبرالية، المرشح الأبرز، حيث سيُقرر المحافظون اختيار منافس (أو منافسين) في الانتخابات المبكرة المُقرر إجراؤها بعد شهرين من الآن. لكن الأحداث التي تلت إعلان “يون” للأحكام العرفية أواخر العام الماضي، والاحتجاجات العنيفة المؤيدة والمعارضة له، كشفت عن الانقسام العميق في الجسم السياسي الكوري الجنوبي. ولا يمكن تفسير هذا الانقسام بمصطلحات تقليدية، مثل الليبرالية مقابل المحافظة، ولكن التاريخ خير دليل من السياسة على هذا الصدع في السياسة الكورية الجنوبية.
ضخّم أنصار الرئيس المعزول مزاعم بشأن مؤامرة مدعومة من كوريا الشمالية والصين، نفذتها “قوى معادية للدولة” خائنة في كوريا الجنوبية، وأصرّوا على أن المخربين الشيوعيين سرقوا الانتخابات التشريعية عام ٢٠٢٤ (التي خسرها حزب الرئيس خسارة فادحة)، ولم يروا أي غضاضة في إرسال “يون” جنودًا لمداهمة اللجنة الوطنية للانتخابات. ما الخيار الذي كان أمام الرئيس في محاربة “الدكتاتورية التشريعية” المتمثلة في أغلبية غير شرعية في الجمعية الوطنية؟ في نظر معجبيه، كان “يون” يحاول استعادة القانون، والنظام، و”الديمقراطية الحرة”، حتى لو تطلب ذلك منه مؤقتًا ممارسة سلطات طوارئ تُعادل الدكتاتورية.
تتجاوز الفجوة بين المدافعين عن الرئيس ومعارضيه التمييز التقليدي بين المحافظين والليبراليين. في الواقع، يتمتع الناخبون الكوريون الجنوبيون بإجماع كبير بشأن مجموعة من القضايا السياسية التي تُميز اليمين عن اليسار في معظم البلدان. يدعم الليبراليون الكوريون عمومًا الإنفاق الدفاعي الضخم، في حين يُريد المحافظون مدارس ومستشفيات وبنية تحتية عامة مُمولة جيدًا. ويتفق كلا الحزبين على التجنيد الإجباري، والرعاية الصحية الشاملة. ويسود دعم التحالف مع الولايات المتحدة والحذر من الصين بين كلا الحزبين، ومع ذلك لا يرغب أي منهما في صراع أمريكي صيني، كما يقول المثل الكوري: “عندما تتقاتل الحيتان، يُقتل الروبيان”.
لا شك أن هناك اختلافات جوهرية بين الليبراليين التقليديين والمحافظين في السياسة الداخلية والشؤون الخارجية، لكنها لا تتوافق مع التنافر الذي أظهرته الأحداث التي شهدتها البلاد، فالتاريخ، وليس السياسة، هو ما يفسر هذا الانقسام. بالنسبة لليبراليين، نكأ إعلان “يون” الأحكام العرفية جراح التاريخ الحديث لكوريا الجنوبية، وفتح أمره إغلاق المجلس التشريعي، وحظر الأنشطة السياسية، وفرض الرقابة على وسائل الإعلام، بوابةً إلى حقبة طويلة من الاستبداد تعود إلى بدايات جمهورية كوريا حيث انتُخب الرئيس الأول “سينغمان ري”، عام 1948، عندما كانت البلاد تحت الحكم العسكري الأمريكي، وتشبث بالسلطة من خلال التلاعب بمظهر الديمقراطية الانتخابية خلال خمسينيات القرن الماضي، ثم جاء الجنرال “بارك تشونغ هي”، الذي نفذ انقلابًا عام 1961، وحكم البلاد بقبضة من حديد عقدين من الزمن حتى اغتيل على يد رئيس مخابراته. وبلغ عصر الدكتاتورية العسكرية ذروته مع الجنرال “تشون دو هوان”، الذي استولى على السلطة في انقلاب عام 1979، ومارسها بوحشية حتى الثورة الديمقراطية عام 1987.
في مفارقة مؤلمة، بعد أيام قليلة من إعلان الأحكام العرفية في سيول، سافر الروائي “هان كانغ” إلى ستوكهولم لتسلم جائزة نوبل في الأدب. من بين الكتب التي أشادت بها لجنة نوبل رواية “أعمال إنسانية”، وهي مرثية للمذبحة التي نُفذت بأمر من الرئيس “تشون” في مايو (أيّار) 1980 في مدينة غوانغجو. يعيد الكتاب تصوير العنف الوحشي والعميق الذي مارسه الجنود ضد مواطنيهم، وكثير منهم طلاب. تنقل الرواية ذكرى أرواح الموتى وشهود العيان الأحياء والناجين. ومن الصور المتكررة في الرواية عاملتان شابتان، يراهما أحد الأشخاص وهما ترفعان لافتة بيضاء بفخر خارج نافذة حافلة وهما تغنيان أغاني احتجاجية، ثم يراهما شخص آخر ميتتين على العشب على جانب الطريق. كُتبت على اللافتة المتناثرة على جثتيهما عبارة: “أوقفوا الأحكام العرفية”.
لذا في الليلة التي أعلن فيها “يون” الأحكام العرفية، أصبح تاريخ كوريا الجنوبية الحافل بالحكم العسكري والقمع السياسي، وتعليق الحريات المدنية باسم حماية الديمقراطية من التخريب، تاريخًا ملموسًا. رأى عشرات الآلاف الذين خرجوا في مسيرات مطالبين بعزله، وملايين آخرون ممن شاركوه الشعور بالغضب والإذلال، في حيلة الرئيس استحضارًا لشياطين كان من المفترض طردها قبل أربعة عقود. يتشارك معظم الكوريين الجنوبيين مع “هان كانغ” في فهم ماضيهم في الحرب الباردة بوصفه نضالًا من جانب المواطنين لتحقيق مبادئ الديمقراطية المنصوص عليها في الدستور، ولكن انتهكها رئيس تلو الآخر، حتى عُقدت أخيرًا انتخابات حرة ونزيهة في عام 1987. ولكن في حين يشعر “الليبراليون” بالرعب من احتمال العودة إلى الاستبداد الذي كان سائدًا في الحرب الباردة، فإن المدافعين “المحافظين” عن الرئيس مدفوعون بالخوف من شبح الحرب الباردة: الشيوعية.
في هذه الرواية التاريخية المنقسمة، كان الرؤساء “سينغمان ري”، و”بارك تشونغ هي”، و”تشون دو هوان” أبطالًا، لا مستبدين- و”يون” من النوع نفسه. كان هؤلاء الرجال قادةً صارمين في أوقات عصيبة، يبذلون قصارى جهدهم لحماية كوريا الجنوبية من الغزو والتخريب والإكراه على يد جار شمولي. ضمن “ري” نجاة كوريا الجنوبية من الحرب الكورية، وضمن تحالفًا مع الولايات المتحدة عام 1953. نجا “بارك” من محاولات اغتيال وتسلل من جانب قوات الكوماندوز الكورية الشمالية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، في حين صمد “تشون” في وجه كوريا الشمالية عندما لجأت إلى هجمات إرهابية، مثل تفجير رانغون عام 1984، ما يعني أن كوريا الجنوبية تحتاج إلى قادة يقظين، وأحيانًا لا يرحمون، يبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على البلاد آمنة من الأعداء الشيوعيين، وأعداء الداخل الذين ينفذون أوامرهم. وفي هذه النسخة من الماضي، المرتبطة بحركة اليمين الجديد في كوريا الجنوبية، تجد البلاد نفسها دائمًا على خط المواجهة في محور الأنظمة الاستبدادية، في مواجهة كوريا الشمالية المعادية المسلحة نوويًّا، والمتحالفة عسكريًّا مع روسيا، والمدعومة دبلوماسيًّا من الصين الغنية والقوية.
أخيرًا، يمثل قرار المحكمة الدستورية تأييد عزل الرئيس “يون سوك يول” انتصارًا واضحًا للثقة على الخوف، ولكن مع اقتراب موعد الانتخابات المبكرة، وتولي رئيس جديد منصبه، سيظل الكوريون الجنوبيون منقسمين بشأن تفسيرات الماضي التي تُفضي إلى رؤى متعارضة للمستقبل، حيث تدور معركة بين الخوف من التخريب الشيوعي والثقة بالديمقراطية الدستورية، وسوف يتطلب الأمر جهدًا كبيرًا من الليبراليين والمحافظين على حد سواء؛ لضمان عدم تحول الاستقطاب الشديد الذي ظهر في الأشهر الأخيرة إلى الوضع الطبيعي الجديد في السياسة الكورية؛ مما يجعل البلد دائمًا في حالة اضطراب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.