مقالات المركز

مستقبل العلاقات الروسية التركية بعد سقوط نظام الأسد


  • 20 يناير 2025

شارك الموضوع

شهدت العلاقات الروسية- التركية تحولات جوهرية على مدى العقود الماضية، حيث تراوحت بين الصراع والتعاون، مدفوعة بعوامل جيوسياسية وإستراتيجية متغيرة. ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، شكل الصراع في سوريا نقطة خلاف رئيسة بين موسكو وأنقرة، حيث دعمت روسيا نظام الرئيس بشار الأسد، في حين قدمت تركيا دعمًا واسعًا لفصائل المعارضة السورية، لكن سقوط نظام الأسد في عام 2024 مثّل تحولًا إستراتيجيًّا قد يترك تداعيات عميقة على مستقبل العلاقات بين البلدين؛ مما يستدعي تقييمًا دقيقًا للتوجهات الجديدة التي قد تتبناها كل من موسكو وأنقرة.

ويأتي هذا التطور في وقت تشهد فيه المنطقة تغيرات إقليمية ودولية معقدة، إذ أصبح النفوذ الروسي في سوريا موضع تساؤل، في ظل محاولات الحكومة السورية الجديدة إعادة صياغة علاقاتها الخارجية، مع السعي إلى تحقيق توازن بين القوى الكبرى. في المقابل، تسعى تركيا إلى استثمار سقوط الأسد لتعزيز موقعها التفاوضي مع روسيا في ملفات عدة، منها ملف الأكراد شمال سوريا، ومستقبل التعاون الاقتصادي في مجالات الطاقة والتجارة، فضلًا عن تطورات القوقاز، وملفات أخرى تشكل نقاط تداخل في المصالح بين البلدين.

ورغم الخلافات القائمة، تتمتع العلاقات الروسية- التركية بطابع براغماتي، حيث تتقاطع مصالحهما في بعض الملفات الحيوية، لا سيما فيما يتعلق بالتعاون في قطاع الطاقة، والتنسيق بشأن التوازنات الإقليمية في البحر الأسود وجنوب القوقاز. ومع ذلك، يواجه الطرفان تحديات كبيرة، أبرزها مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا، واحتمال تصاعد التوترات بشأن القضايا الأمنية والجيو- إستراتيجية التي تشمل النفوذ التركي المتزايد في المنطقة.

كما أن التغيرات الداخلية في سوريا قد تعيد رسم خطوط النفوذ جذريًّا؛ إذ تواجه موسكو خيارات صعبة تتراوح بين الحفاظ على الحد الأدنى من وجودها العسكري، أو تقديم تنازلات للحكومة الجديدة لضمان استمرار مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. في المقابل، تسعى أنقرة إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال استثمار علاقاتها مع الفاعلين الجدد في دمشق، مع الحرص على عدم إغضاب موسكو على نحو يؤدي إلى تصعيد في الملفات الإقليمية الأخرى، مثل أوكرانيا وليبيا.

التداعيات الإستراتيجية لسقوط الأسد على روسيا وتركيا

يمثل سقوط نظام بشار الأسد تحولًا إستراتيجيًّا عميقًا في التوازنات الإقليمية، خاصة لروسيا التي استثمرت موارد عسكرية واقتصادية وسياسية كبيرة للحفاظ على وجودها في سوريا. لقد كان تدخل موسكو في سوريا عام 2015 جزءًا من إستراتيجيتها لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وتأمين مصالحها الإستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، فإن انهيار النظام السوري السابق يشكل تحديًا كبيرًا لموسكو؛ إذ يفرض عليها إعادة تقييم خياراتها للحفاظ على الحد الأدنى من النفوذ. وفقًا لمراقبين، تعتمد روسيا في المرحلة المقبلة على إستراتيجية “الانتظار والمراقبة”، حيث تسعى إلى التكيف مع الوضع الجديد، من خلال إقامة علاقات مع القوى المسيطرة حاليًا في دمشق، مع أن هذه المقاربة قد تضعف تأثيرها الإقليمي.

على الجانب الآخر، تسعى تركيا إلى استثمار هذا التغيير لتعزيز نفوذها الإقليمي، حيث باتت تتمتع بقدرة أكبر على المناورة في الملف السوري دون وجود العقبة الروسية التي كانت تقيد تحركاتها. لقد كان دعم أنقرة لفصائل المعارضة جزءًا من سياستها الأمنية الرامية إلى تحجيم النفوذ الكردي في الشمال السوري، وسقوط الأسد يمنحها فرصة أكبر لإعادة ترتيب أولوياتها في المنطقة. إضافة إلى ذلك، تستهدف تركيا تعزيز موقعها التفاوضي مع روسيا في قضايا مثل التجارة والطاقة، في ظل انتهاء عقد عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا؛ مما يزيد أهمية الدور التركي كممر رئيس للطاقة الروسية إلى أوروبا.

أوجه التعاون والتنافس بين روسيا وتركيا في سوريا

رغم التناقضات في المصالح بين موسكو وأنقرة في سوريا، فإن العلاقة بين البلدين لطالما اتسمت بالبراغماتية القائمة على إدارة التنافس بالتوازي مع التعاون في بعض الملفات الحيوية. في ظل سقوط الأسد، تواجه روسيا تحديات في الحفاظ على وجودها العسكري في قواعدها في اللاذقية وطرطوس، وتسعى موسكو إلى إيجاد تفاهمات جديدة تضمن استمرار هذه القواعد، ولو بتنازلات محدودة. في المقابل، ترى تركيا أن استمرار النفوذ الروسي يمكن أن يكون عنصرًا لتحقيق توازن أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي المتزايد في المنطقة؛ مما يدفع أنقرة إلى التفاوض مع موسكو على شروط أكثر ملاءمة لمصالحها الأمنية.

على المستوى الاقتصادي، يرتبط البلدان بعلاقات اقتصادية قوية تشمل قطاع الطاقة، حيث تواصل تركيا استيراد الغاز الروسي، إضافةً إلى مشروعات إستراتيجية، مثل محطة أكويو النووية. هذه المصالح المتشابكة تعزز فرص التعاون بين الطرفين رغم الخلافات السياسية بشأن الوضع في سوريا، لكن التباين في المصالح قد يؤدي إلى احتكاكات مستقبلية، خاصةً في ظل التنافس على النفوذ في شمال سوريا، والموقف من الأكراد الذين تستخدمهم روسيا ورقة ضغط في وجه تركيا.

تأثير سقوط الأسد في التوازنات الإقليمية والدولية

إلى جانب التحديات الثنائية بين موسكو وأنقرة، فإن سقوط الأسد يعيد رسم المشهد الجيوسياسي الإقليمي، حيث تسعى قوى إقليمية، مثل إيران وإسرائيل، إلى توسيع نفوذها في الفراغ الذي خلفه انهيار النظام السوري السابق. يشكل هذا التطور لإيران ضربة لمحورها الإقليمي، أما إسرائيل فقد ترى في الوضع الجديد فرصة للضغط على دول المنطقة، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية، وتأثيرها في المصالح الروسية بالمنطقة.

من جهة أخرى، يؤثر سقوط الأسد في علاقات تركيا مع الغرب، حيث باتت أنقرة في وضع أقوى للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية والاقتصادية، مستغلة دورها المحوري في سوريا الجديدة. كما أن التقارب التركي مع موسكو في بعض الملفات قد يظل مرهونًا بتطور العلاقات مع حلف الناتو، خاصة فيما يتعلق بالتوازنات في البحر الأسود وأوكرانيا.

السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الروسية- التركية

يمكن استشراف مستقبل العلاقات الروسية- التركية وفق ثلاثة سيناريوهات رئيسة: الأول يتمثل في تعاون إستراتيجي مشروط بين الطرفين، حيث تسعى موسكو إلى تقديم تنازلات في سوريا مقابل ضمان استمرار مشروعاتها الاقتصادية والعسكرية في تركيا. أما السيناريو الثاني فيقوم على تصعيد التنافس بين الطرفين، خاصة في حال تصاعد الضغوط الغربية على أنقرة لدفعها إلى تبني مواقف أكثر صرامة تجاه موسكو. وأخيرًا، يتمثل السيناريو الثالث في تبني سياسة “التوازن الإستراتيجي”، حيث تحاول أنقرة الاستفادة من علاقتها مع موسكو والغرب لتحقيق مكاسب متوازنة في مختلف الملفات الإقليمية.

التعاون الروسي التركي في سوريا ضرورة إستراتيجية لتحقيق الاستقرار الإقليمي

تحتاج روسيا وتركيا إلى صياغة سياسة مشتركة في سوريا؛ إذ إن غياب التفاهم بين الطرفين سيؤدي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة. تركيا، التي ستصبح اللاعب الأساسي في سوريا بعد سقوط النظام السابق، تمتلك النفوذ السياسي والعسكري على الأرض، خاصة في المناطق الشمالية التي تسيطر عليها قوات المعارضة المدعومة منها. في المقابل، تسعى روسيا إلى الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية في سوريا، خاصة تلك المتعلقة بالاتفاقيات المبرمة مع نظام بشار الأسد، التي تشمل الاستثمار في المواني على الساحل السوري، فضلًا عن استمرار وجودها العسكري.

ويفرض الوضع الجديد على الطرفين ضرورة التوصل إلى تفاهمات تحقق التوازن بين مصالحهما المتباينة، حيث تسعى تركيا إلى تحقيق أهدافها الأمنية، خاصة ما يتعلق بالحد من التهديد الكردي، وتأمين حدودها الجنوبية، إلى جانب تسهيل عودة اللاجئين السوريين. أما روسيا فهي معنية بضمان استمرار نفوذها الإقليمي من خلال الحفاظ على القواعد العسكرية، والبقاء فاعلًا رئيسًا في ملفات إعادة الإعمار، وقطاع الطاقة.

ومع تزايد الضغوط الدولية والإقليمية على دمشق، من المتوقع أن تؤدي تركيا دور الوسيط في تحقيق التوازن بين المصالح الروسية والغربية، فيما ستظل روسيا معنية بضمان استمرار موقعها بوصفها حليفًا إستراتيجيًّا رئيسًا لسوريا. ومن دون صياغة هذه السياسة المشتركة، فإن مستقبل سوريا سيظل مرهونًا بالتجاذبات الإقليمية والدولية؛ مما قد يؤدي إلى استمرار الفوضى، وتأخير مشروعات إعادة الإعمار والتنمية في البلاد.

الاستنتاجات

يشكل سقوط نظام بشار الأسد تحولًا إستراتيجيًّا كبيرًا في العلاقات الروسية- التركية، حيث فقدت موسكو أحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط؛ مما قلل قدرتها على التأثير في المشهد السوري. في المقابل، تسعى أنقرة إلى استغلال هذا التحول لتعزيز موقعها التفاوضي مع روسيا في قضايا مثل الطاقة والأمن الإقليمي، خاصة مع تزايد دورها في شمال سوريا. وعلى الرغم من تضارب المصالح بين الجانبين، فإن التعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة لا يزال يشكل عاملًا مشتركًا يجبر الطرفين على الحفاظ على قنوات التواصل. ومع ذلك، فإن مستقبل النفوذ الروسي في سوريا يواجه تحديات كبيرة في ظل الضغوط الغربية والتغيرات الإقليمية، في حين تعزز تركيا دورها بوصفها لاعبًا رئيسًا في إعادة تشكيل التوازنات في المنطقة.

المصادر

ما مستقبل العلاقات الروسية التركية بعد سقوط الحكومة السورية؟

الأهداف والمصالح التركية و الروسية في سوريا.. التباينات والتقاطعات

ما مستقبل النفوذ الروسي في سوريا والمنطقة بعد سقوط الأسد؟

 أنقرة تستثمر سقوط الأسد في تعزيز موقعها التفاوضي مع موسكو في الملفات الثنائية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع