أبحاث ودراسات

بين الخضوع والردع

مسارات المواجهة الإيرانية لممر ترمب في جنوب القوقاز


  • 16 أغسطس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: eurasianet

بعد أقل من شهرين على إعلان طهران إفشال مشروع ممر زانجيزور، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نجاحه في التوصل إلى إطار تفاهم بين أرمينيا وأذربيجان في التاسع من أغسطس (آب) الجاري، لا ينهي التوتر القائم بين البلدين حول الممر فحسب؛ بل يضمن للولايات المتحدة الأمريكية نصيبًا من المكاسب الإستراتيجية لهذا التفاهم من خلال مقترح أمريكي تحت اسم “طريق ترمب للسلام والازدهار الدولي” لربط نخجيفان ببر أذربيجان، ثم لتركيا عبر جنوب أرمينيا، بمشاركة تشغيلية أمريكية طويلة الأمد. وفي ضوء هذا، يُمثل الممر المقترح نقطة تحول في خريطة النفوذ بالقوقاز بما يزيد تأثير واشنطن وباكو، ودعمًا محتملًا لأنقرة، ويضع طهران أمام فقدان جزئي لموقعها بوصفها قناة عبور، وإطار نفوذ شمالي، ما يفرض أسئلة جوهرية، لعل أبرزها: لماذا ترفض إيران هذا الممر؟ وما دلالات اللغة العدائية التي استخدمتها الجمهورية الإسلامية لرفض هذا المقترح؟ والأهم: هل تنجح طهران من خلال ما تمتلكه من آليات سياسية وأدوات تنفيذية في الرد على هذا التهديد المتعدد الأبعاد؟

دلالات رد الفعل الإيراني على المشروع الأمريكي

جاء رد طهران على إعلان الممر سريعًا وحاد اللهجة، فبعد ساعات من إعلان واشنطن توقيع إطار السلام، وخطط الممر المقترح،  وصف مستشار المرشد الإيراني الأعلى للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي الممر بأنه لن يصبح ممرًا لترمب؛ بل مقبرة لمرتزقته، وأن إيران ستمنع إنشاء الممر الأمريكي في القوقاز، سواء بالتعاون مع روسيا أو بدونها، معلنًا أن طهران ستمنع أي تغير جيوستراتيجي على حدودها؛ لأن الوجود الأمريكي في جنوب القوقاز يشكل تهديدًا مباشرًا للمصالح الإيرانية، لكن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان سارع إلى نفي هذا التقييم في اليوم التالي، وأكد -خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان- أن خطة السلام تأخذ أيضًا آراء إيران في الحسبان، مشيرًا إلى أن المسار المخطط له لن يقطع وصول إيران إلى أرمينيا، في حين أصدرت بعض قيادات الحرس الثوري تصريحات حادة تحذر من تداعيات أمنية، وتضع احتمالات الرد في خانة الخيارات المتاحة، فأعلن علي باقري كني، عضو المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، أن الجمهورية الإسلامية لن تتجاهل بسهولة قضية زانجيزور. وعلى الصعيد غير الرسمي، وجّهت الصحف الإيرانية، مثل صحيفة كيهان -تحت إشراف المرشد الأعلى علي خامنئي-  انتقادات لاذعة إلى الممر الأمريكي المقترح، ووصف مقالها الافتتاحي الاتفاق على بناء ممر زانجيزور بأنه خيانة عظمى، ولا ينبغي أن يمر دون رد من الجمهورية الإسلامية. في مقابل هذا تبنت إيران لاحقًا نبرة أكثر تحفظًا في بعض القنوات الرسمية، حيث شددت وزارة الخارجية الإيرانية على أن أي طريق عبور يجب أن يحترم سيادة الدول.

تُظهر ردود فعل طهران تجاه المقترح الأمريكي لإنشاء ممر ترمب للسلام والازدهار الدولي بين أرمينيا وأذربيجان مزيجًا من القلق الإستراتيجي والرفض السياسي، حيث ترى إيران أن الممر إذا أُنجز بصيغته المقترحة بمشاركة أمريكية، وإدارتها جزءًا من تشغيله لمدة 99 عامًا، يهدد نفوذها الإقليمي، وقدرتها على الاحتفاظ بدورها كقطب عبور محوري إلى القوقاز وأوروبا، هذا القلق يدفع طهران إلى تقييم خيارات دبلوماسية واقتصادية وأمنية لاحتواء أو منع تنفيذ الممر بحسب الموارد الممكنة لها، فالخطاب الإيراني على الصعيد الرسمي وغير الرسمي جمع بين الإنذار الرادع والصارم من جهات مقربة من المرشد والمؤسسات الأمنية، وتأكيدات دبلوماسية رسمية لضرورة احترام السيادة وعدم تحويل المسارات إلى قواعد نفوذ أجنبية، مع فتح قنوات تفاوض مع يريفان لتعديل الصيغة؛ بهدف إرسال إشارة ردع إلى الولايات المتحدة وحلفائها مع إبقاء قنوات الخروج الدبلوماسي مفتوحة تجنبًا لتصعيد لا تريده طهران في الوقت الراهن.

غير أن تهديدات إيران القوية لفظيًّا لا تعني تصعيدًا عسكريًّا فوريًّا؛ فطهران تدرك كلفة مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها؛ لذلك تلك النبرة الحادة غالبًا ما تستخدم كوسيلة ردع، في حين أن الخطاب الدبلوماسي الرسمي أكثر موثوقية كقناة عمل بهدف فتح قنوات على غرار زيارات مسؤولين ومحادثات مع يريفان. يكشف هذا التناقض عن نهج مزدوج للجمهورية الإسلامية؛ حيث تظهر طهران مقاومة قوية من خلال رفع درجة اللهجة والاستعداد لردع الخارج، لكنها تترك مساحة للحل من خلال الأجهزة الدبلوماسية، ما يعكس رغبة طهران في رفع التكلفة السياسية والتنفيذية للممر أمام الغرب وأذربيجان، وتهدئة الرأي العام الإيراني، لكنها لا تبدو راغبة بالدخول في صدام عسكري واسع في ظل البيئة المحلية والإقليمية الشديدة التعقيد.

تداعيات الممر الأمريكي على الأمن القومي الإيراني

تمتلك طهران علاقات وثيقة مع دول جنوب القوقاز؛ فتاريخيًّا كانت طهران فاعلًا مهمًّا في الشرق القوقازي من خلال علاقات تجارية واتصالات طائفية وإثنية، فضلًا عن اتفاقات أمنية مرحلية مع باكو ويريفان، كما استفادت إيران من دورها كطريق عبور، سواء لنقل البضائع أو لخطوط أنابيب وشبكات طاقة إقليمية؛ ما منحها أوراق تأثير في جيرانها، لكن دخول الولايات المتحدة إلى تلك الساحة من خلال تشغيل وعقود طويلة لجزء حيوي من بنية العبور الجغرافية، يُعد تحولًا في معادلة النفوذ التقليدية في المنطقة، وهو ما سيلقى بتبعات مباشرة على الأمن القومي الإيراني في عدة أبعاد، تتضح فيما يلي:

  • التداعيات الجيوسياسية: تقويض مكانة إيران كممر بري رئيس بين الشرق والغرب، فلطالما مثّل الموقع الجغرافي لإيران أحد أعمدة قوتها الجيوسياسية، حيث تشكل أراضيها جزءًا من شبكات النقل والطاقة التي تربط شرق آسيا بأوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط، غير أن الممر الأمريكي المقترح بين أرمينيا وأذربيجان -إذا فُعِّل- من شأنه أن يخلق مسارًا بديلًا يتجاوز الأراضي الإيرانية كليًّا، مما يقلل أهميتها في ممرات العبور الإقليمية، ويضعف قدرتها على استخدام موقعها كورقة تفاوضية في علاقاتها مع الجوار ومع القوى الكبرى، فإيران كانت تراهن على مبادرات مثل ممر الشمال- الجنوب بالتعاون مع روسيا والهند، لكن نجاح الممر الأمريكي سيعني توجيه الاستثمارات وحركة البضائع عبر مسارات بديلة؛ وهو ما يهمش دورها الإستراتيجي في النقل البري.
  • الأضرار الاقتصادية: خسارة عوائد العبور والفرص الاستثمارية التي تمثل مصدرًا مهمًّا لإيران، خاصة في ظل العقوبات التي تحدّ قدرتها على جذب الاستثمارات المباشرة، حيث إن الممر الأمريكي سيحول جزءًا كبيرًا من التجارة الإقليمية، لا سيما بين آسيا الوسطى وأوروبا، نحو ممر بعيد عن الأراضي الإيرانية، وهو ما قد يعني خسارة مئات الملايين من الدولارات سنويًّا من رسوم العبور والضرائب المرتبطة بالخدمات اللوجستية، بالإضافة إلى تراجع جدوى الاستثمارات الإيرانية في البنية التحتية للنقل في  سكك حديدية، وطرق سريعة، وموانٍ برية، كما قد يفضي الممر إلى إضعاف مراكز الخدمات اللوجستية الإيرانية التي كانت تتطلع إلى أداء دور محوري في سلاسل التوريد الإقليمية.
  • الاختراقات الأمنية: تمثل جنوب القوقاز منطقة تماس أمنية حساسة للنظام الإيراني، خاصة في إقليم أذربيجان الإيرانية الذي يضم أقلية أذرية كبيرة، خاصة أن الممر الأمريكي قد يتيح يعزز الوجود العسكري أو الأمني الغربي في القوقاز بحجة تأمين خطوط النقل، وهو ما تراه طهران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي؛ ومن ثم تقليص العمق الإستراتيجي شمال غرب إيران، كما أن فتح ممر دائم بين أذربيجان وناخيتشيفان عبر أراضي أرمينيا بدعم أمريكي يقلل قدرة إيران على استخدام حدودها مع أرمينيا كمنفذ مراقبة وتحكم في التواصل بين باكو وأنقرة، ويضعف نفوذها في ملف ناغورنو كاراباخ.
  • الإخفاقات الطاقوية: إيران تسعى منذ سنوات إلى تعزيز صادراتها من الطاقة إلى تركيا وأوروبا، مستفيدة من موقعها الجغرافي، غير أن الممر الأمريكي سيتقاطع مع مشروعات طاقة تركية أذرية، مثل خط أنابيب الغاز العابر للأناضول TANAP، ويعزز إمكانية ربط موارد آسيا الوسطى مباشرة بأوروبا دون المرور عبر الأراضي الإيرانية، هذا التطور يقلص فرص إيران في الحصول على عقود تصدير، أو أداء دور ممر طاقوي، ويضعف قدرتها على استخدام الطاقة كورقة ضغط سياسية واقتصادية.
  • تآكل النفوذ الإقليمي: تعتمد إيران على أرمينيا في ملفات إقليمية بوصفها شريكًا سياسيًّا واقتصاديًّا لا يخضع للنفوذ الغربي أو التركي؛ لذا فإن نجاح الممر الأمريكي سيعني تعزيز اعتماد أرمينيا على الغرب وتركيا في مجال النقل والاقتصاد، وتقليص الحاجة الأرمينية للتعاون مع إيران، فضلًا عن إضعاف قدرة طهران على استخدام خطوط التجارة مع يريفان كقناة للالتفاف على العقوبات.
  • تفكيك صورة إيران بوصفها بوابة الشرق: من منظور إستراتيجي بعيد المدى، كل مشروع ممر يتجاوز إيران يعيد تشكيل خريطة الحركة التجارية في أوراسيا بطريقة تضعف فكرة أن إيران جسر بين الشرق والغرب، وإذا أصبح الممر الأمريكي ممكنًا وفعالًا، سيتحول تدريجيًّا إلى بنية تحتية دائمة تعيد توجيه الاستثمارات الإقليمية، وهو ما يجعل استعادة الدور الإيراني مستقبلًا أكثر صعوبة، حتى إذا رُفعت العقوبات الغربية على النظام.

خيارات الجمهورية الإسلامية لمواجهة المقترح الأمريكي

بناءً على عناصر القوة النسبية لطهران، تتوافر أمامها مجموعة أدوات قد تبدو محدودة يمكن أن تضغط بها على دول جنوب القوقاز والولايات المتحدة لتعطيل هذا الممر وتقليل الخسائر المحتملة، أو على أقل تقدير توظيف الممر في المفاوضات الجارية بشأن برنامجها النووي، وتتضح أبرز تلك الآليات فيما يلي:

  • الأدوات الدبلوماسية: من خلال مطالبات رسمية عبر القنوات الثنائية والإقليمية لمراجعة الاتفاق، أو إعادة التفاوض على الصيغ التي تضمن حقوق إيران، أو تضمها في آليات الرقابة، أو ما يُسمى “ضمانات عدم المساس بالمصالح الإقليمية”، حيث عبرت طهران عن رفضها لهذا الممر -بوضوح- عن طريق القنوات الرسمية وغير الرسمية، ومن المرجح أن تخوض اتصالات مع روسيا وتركيا لضمان مواءمة مواقفهما، أو التوصل إلى صيغة وسطية تقلص الانخراط الأمريكي في دوائر الأمن القومي المباشر لطهران، كما قد تلجأ الجمهورية الإسلامية إلى المنصات الدولية عبر استغلال المنتديات الإقليمية والدولية للضغط السياسي، وإثارة مسائل الشرعية الإقليمية والسيادة لاحتواء الدعم الدولي للممر.
  • الأدوات الاقتصادية: قد تستهدف إيران سلاسل التوريد، أو تفرض عقبات لوجستية على بدائل الممر، أو تسعى إلى التقليل من جاذبية المسار من خلال توفير بدائل تشجيعية وحوافز للدول الحليفة لطهران، أو قد تلجأ إلى الضغط على عقود الطاقة من خلال نفوذها على خطوط إمداد قائمة لفرض شروط، أو إعادة التفاوض بشأنها.
  • الأدوات الأمنية: من المرجح تعزيز إيران وجودها العسكري احترازيًّا لمواجهة التهديدات الأمنية التي قد تتعرض لها الجمهورية الإسلامية من خلال تكثيف المناورات العسكرية، مع ضمان وجود عسكري رمزي قرب الحدود لإرسال رسالة رادعة للخارج، فضلًا عن توظيف الفصائل المسلحة الموالية للنظام الإيراني في حالة تصاعد التوتر لعرقلة البنية التحتية للمشروع، أو زيادة تكاليف التشغيل. يأتي هذا تماشيًا مع التصريحات الحادة من القيادات العسكرية التي تشير إلى استبعاد خيار الصبر السلبي، وأن طهران مستعدة لمنع المشروع.
  • الأدوات السيبرانية: قد تعتمد طهران على عمليات اختراق أو تشويش على نظم التشغيل والبنية التحتية؛ من خلال توجيه مجموعات سيبرانية لخلق مشكلات تشغيلية مؤقتة في الممر الجديد، بالاستناد إلى جمع معلومات استخبارية مكثفة، ومراقبة الحركات اللوجستية والصفقات لضرب نقاط الضعف التشغيلية للممر.

محصلة القول أن موقف إيران الرافض والحذر من ممر ترمب هو موقف مُتوقع سياسيًّا وإستراتيجيًّا، فطهران تواجه مشكلة مركبة تتمثل في فقدان جزء من موقعها كقناة عبور ونفوذ محلي، خاصةً إذا حُول المشهد لصالح بنية عابرة تديرها قوى غربية، إذ يغير الممر المقترح قواعد اللعبة في جنوب القوقاز لصالح مشهد أكثر تنافسية وتأثيرًا أمريكيًّا، ويضع طهران في موقف دفاعي، لكن الخيارات العملية لطهران محدودة؛ فالمواجهة العسكرية مرتفعة التكلفة، وقد تسفر عن رد غربي وإقليمي، وعزل اقتصادي إضافي لا تستطيع الجمهورية الإسلامية تحمل تبعاته، في حين أن المنافع من احتواء المشروع قد تكون أفضل على صعيد النفوذ والرمزية؛ لذلك فالسيناريو الأكثر واقعية لإيران هو السير بمزيج من الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية، مع إبقاء أدوات الرد العسكرية خيارًا ثانويًّا للاستخدام كتهديد رادع، ما لم تشعر بتغير ملموس في التوازن الذي يهدد وجودها الأمني مباشرة، خاصة أن هذا النهج يتسق مع العقيدة الأمنية الإيرانية، ومقتضيات الموقف الراهن.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع