تقدير موقف

مبادرة بلا تنازلات.. من كوالالمبور .. لافروف يعيد رسم قواعد اللعبة


  • 13 يوليو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: edition.cnn

انعقد اللقاء المباشر الثاني بين شيخ الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، في العاصمة الماليزية كوالالمبور، الخميس 10 يوليو (تموز) 2025، على هامش مشاركتهما في قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”.

وإذا كان لقاء الرياض الأول بينهما، الذي جري في فبراير (شباط) 2025 قد مثّل استئنافًا أوليًّا ومهمًّا للحوار الروسي الأمريكي في العهدة الجديدة لدونالد ترمب، فإنه يمكننا اعتبار لقاء كوالالمبور مرحلة اختبار نضج المبادرة، إذ تشير التصريحات التي خرجت عقب اللقاء إلى أن أفكارًا “جديدة” طرحها لافروف خلاله بشأن التسوية في أوكرانيا.

التصريحات الأمريكية حتى الآن لم تتحدث عن تفاصيل محددة لهذه الأفكار، لكنني اطلعت على ما أوردته المصادر الروسية عن مضمون اللقاء -وفقًا للرواية الروسية الرسمية بالطبع- وأبعاد المبادرة، ودلالاتها السياسية، وسياقاتها الزمنية والدولية، وهدفي بالطبع هو فهم توجهات الكرملين الإستراتيجية بخصوص آفاق التفاوض مع واشنطن على خلفية التصريحات الترمبية النارية التي صدرت خلال الأيام الأخيرة.

ويشير الانطباع الذي تشكل لديَّ عن لقاء كوالالمبور أنه لم يأت في فراغ؛ بل ارتبط من وجهة النظر الروسية بعدة اعتبارات مهمة، أولها سعي روسي جاد إلى تكريس الحوار المباشر مع إدارة ترمب؛ لأن موسكو تتذكر جيدًا أن واشنطن لم تبدِ أي رغبة في التفاوض على مستوى رفيع خلال إدارة بايدن بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ ولذلك فإن هذا اللقاء هو خطوة ثانية في تكريس مسار تفاوضي روسي أمريكي ثنائي، بعيدًا عن الوسطاء الأوروبيين.

ثانيًا: تعمل موسكو على استثمار أي فرصة لتقويض آليات العزلة الغربية من خلال حوار مباشر مع صانع القرار الأمريكي، بوصفه يقينًا هو نفسه صانع القرار الغربي، بهدف السعي إلى خفض فاعلية العقوبات الاقتصادية بأقصى درجة، خاصةً بعد دخول العقوبات عامها الرابع، ومع أخذ رغبة ترمب في تقليص الانخراط الأمريكي في الحروب الطويلة الأمد في الحسبان كذلك.

ونقطة أخرى أعتقد أن لها دلالة ورمزية للموقف الروسي، وأقصد بها التوقيت والسياق الزماني والمكاني للقاء، فاجتماع لافروف بروبيو تزامن مع لقاء لافروف ونظيره الصيني وانغ يي، الموجود في كوالالمبور كذلك، وما أراه هنا هو سعي روسي إلى توازن دبلوماسي، يمكن وصفه بعبارة “توازن شرق- غرب”، أي إن الكرملين يسعي إلى تعزيز تموضع موسكو بين القوتين العظميين: بكين وواشنطن.. ولِمَ لا!

وبالحديث عن مضمون ما وصف بالمبادرة الجديدة للتسوية في أوكرانيا، فبحسب ما صدر عن وزارة الخارجية الروسية، ووسائل الاعلام المرتبطة لها، تضمن اللقاء بين لافروف وروبيو مناقشة موسعة بشأن ملف أوكرانيا، بالإضافة إلى ملفات إيران وسوريا، لكن دون إعلان صيغة مكتوبة لهذه المبادرة؛ ولهذا ليس أمامنا إلا التصريحات الروسية والأمريكية المتزامنة عنها لكي نستنبط منها الملامح الاساسية لهذه المبادرة. وحسب فهمي لما صدر، يمكن الإشارة إلى أن لافروف أعاد تأكيد المكرر؛ أي الموقف الروسي نفسه، وإن بعبارات أكثر ليونة من حيث الشكل، لا المضمون.

فلافروف صرح -صراحة- أن روسيا لا تسعى إلى “استراحة محارب” -كما حدث في أعقاب اتفاقات مينسك عامي 2014 و2015- بل ترغب في تسوية شاملة، مستدامة ومستقرة؛ ما يمكننا أن نفهم منه أن موسكو تشترط حلا يوقف -نهائيًّا- الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، ويؤسس لنظام أمني إقليمي جديد.

روبيو -كما أشرت أعلاه- لم يكشف -حتى الآن على الأقل- عن فحوى ما اقترحه لافروف عليه، لكن مصادر مقربة من الخارجية الروسية أكدت أن المبادرة تضمنت مطلبًا جديدًا لم يطرح سابقًا، ويبدو مما قرأته أن هذه الخريطة الجديدة تشمل عناصر، يفترض أن تُنفَّذ تدريجيًّا، وهي:

-وقف إطلاق النار يتم على مراحل محددة.

-وقف فوري أو جزئي لتوريد الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا.

-إدراج مناطق جديدة تحت “نظام خفض أو وقف التصعيد”، وتحديدًا في مقاطعتي خاركوف وسومي.

-الاعتراف بالسيادة الروسية على المقاطعات الأربع التي ضمتها من أوكرانيا، ولو بحكم الواقع (de faсto).

-الاتفاق على تفاهمات أمريكية روسية بشأن تقييد تحرك الناتو شرقًا.

الموقف الروسي الحريص على عدم قطع حبال التواصل مع إدراة ترمب، على الرغم من تصريحاته المتقلبة -كما أفهمه أيضًا- يأتي من منطلق براغماتي مصلحي بحت، فهو يهدف إلى تحقيق استئناف -ولو جزئيًّا- للعلاقات الاقتصادية مع الأمريكان، فالخارجية الروسية أشارت كذلك إلى أن لافروف وربيو ناقشا سبل استئناف العلاقات الثنائية، بما يشمل رفعًا جزئيًّا أو مرحليًّا للعقوبات، لا سيما المفروضة على قطاعي الطيران والمصارف، وكذلك عودة حركة الطيران المباشر بين موسكو وواشنطن، بالإضافة إلى تسهيلات إنسانية، وتبادل سجناء.

وإذا خلصت من ذلك كله إلى الدوافع الروسية -حسبما أراها- من وراء هذه المبادرة، فيمكن القول إن المبادرة مع أنها تأتي في إطار خطاب سلمي، فإنها تعكس رؤية روسيا الثابتة التي لا تتغير، والتي تكمن في محاولة تثبيت مكاسبها الميدانية. فبعد تحقيق الجيش الروسي مكاسب جغرافية وعسكرية متراكمة في جنوب أوكرانيا وشرقها، يسعى الكرملين الآن إلى تثبيت هذه المكاسب في شكل صيغة تفاوضية، على غرار ما حدث مع شبه جزيرة القرم عام 2014.

كما تستهدف موسكو كذلك تفكيك الجبهة الغربية، من خلال تقديم مبادرة “مرنة شكليًّا”، تأمل من ورائها دفع بعض العواصم الغربية كبرلين وباريس -وموقفهما أكثر مرونة مقارنة بلندن- إلى الضغط على كييف لقبول الحد الأدنى من الشروط الروسية، وخلق انقسامات داخل الناتو.

تحاول موسكو -في رأيي- استخدام المفاوضات لإعادة الكرة إلى ملعب واشنطن وإحراجها، وإظهارها بمظهر الرافضة لأي تسوية؛ ومن ثم تحميلها مسؤولية استمرار الحرب، في ظل ارتفاع تكاليف الدعم الغربي لأوكرانيا، وهو ما تقر به الآن علنًا حكومات هذه الدول وشعوبها.

الموقف الأمريكي هو أيضًا ليس ساذجًا، وفيه من المناورة ما قد يكون أكثر “لؤمًا” من الموقف الروسي، فالتصريحات الترمبية خلال الفترة الأخيرة عن شعوره بالإحباط بسبب غياب المرونة لدى بوتين، وهو ما تشير إليه الحقائق، فبوتين لم يقدم حتى الآن أي تنازل حقيقي يُمكّن ترمب من تقديم أي اتفاق كـ”إنجاز سياسي”، جعلته يعود مجددًا إلى التلويح بإقرار مشروع القانون الذي يشمل فرض رسوم جمركية قد تصل إلى 500% على الدول التي تشتري النفط والغاز الروسيين، وكذلك عزل مالي تام للبنوك الروسية المتبقية داخل نظام سويفت الدولي.

كما أن روبيو -من باب المناورة كذلك- صرح أن واشنطن لم تتخذ بعد قرارًا بشأن تعليق الدعم العسكري لأوكرانيا، لكن ما يجري هو العمل على إقناع دول الناتو -وعلى رأسها ألمانيا- بنقل منظومات باتريوت إلى أوكرانيا؛ وبذلك تسعى واشنطن إلى تشكيل ضغوط مقابلة على موسكو.

من اللافت لي كذلك أن لقاء كوالالمبور جاء بعد أقل من 48 ساعة على صدور قرار إعفاء ميخائيل بوغدانوف من منصبه نائبًا لوزير الخارجية الروسي ومبعوثًا خاصًا للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وبلدان إفريقيا. ومع أن الاعلان الرسمي يؤكد أن القرار جاء “بناء على رغبته وتقدمه في السن” فإن غياب تعيين أي بديل له حتى لحظة كتابة هذه السطور يطرح تساؤلات عن إعادة ترتيب الأولويات الدبلوماسية الروسية، خاصةً أن المنطقة المعنية كانت -ولا تزال- تشكل ثقلًا دبلوماسيًّا مهمًّا في العقيدة الروسية.

وبالمجمل أقول إن المبادرة الروسية التي طرحت خلال لقاء لافروف روبيو في كوالالمبور ما هي في جوهرها إلا استمرار للموقف والنهج الروسي القائم على فرض تسوية سياسية تضمن الاعتراف بمكاسب موسكو الميدانية، مع محاولة تطويع الخطاب نحو “المرونة”، دون تقديم تنازلات فعلية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع