
بعد مرور عام كامل على سقوط نظام الأسد، وتفكك سطوة البعث، لم يعد من الممكن الاكتفاء بلغة الاحتفال، أو الاكتفاء بترديد الشعارات التي رافقت لحظة الانهيار؛ بل بات لزامًا على السوريين -بكل أطيافهم السياسية والاجتماعية والثقافية- أن يتوقفوا وقفة مراجعة عقلانية وهادئة أمام هذه المرحلة المفصلية من تاريخ البلاد؛ فالسقوط -مهما كانت عدالته التاريخية- لا يمثل في ذاته نهاية المسار؛ بل هو بداية طريق طويل ومعقد نحو إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة من الحرية والمواطنة والعدالة.
ومن هنا، تصبح الحاجة ملحّة إلى إجراء تقييم وطني شامل يبتعد عن روح الانتقام، أو تبرير الفشل، ويتحرر من الضغوط الإقليمية والدولية التي تحاول توجيه المسار السوري وفق مصالحها الخاصة، تقييم يضع مصلحة سوريا العليا فوق أي اعتبار حزبي، أو طائفي، أو فئوي، ويعتمد على قراءة دقيقة لما تحقق من إنجازات، مهما كانت محدودة، وما تعثر من خطوات، مهما كانت موجعة.
لقد أتاح سقوط النظام فرصة تاريخية نادرة لمساءلة الذات قبل مساءلة الآخرين، ولتفكيك البنى الفكرية والسلوكية التي غذّت الاستبداد عقودًا طويلة، سواء أكانت تلك البنى متجسدة في مؤسسات رسمية، أم في أنماط تفكير اجتماعية اعتادت الخضوع، أو التبرير، أو الصمت؛ فتصحيح المسار لا يبدأ بإصدار القرارات؛ بل يبدأ بإعادة بناء الوعي الجمعي على أسس المواطنة، والمسؤولية، والمحاسبة.
إن وضع أسس دولة سورية جديدة لا يمكن أن يتم بمنطق الغلبة، أو من خلال إعادة إنتاج أدوات القهر ذاتها بأسماء مختلفة؛ بل من خلال بلورة عقد اجتماعي حرّ يعبّر عن الإرادة الشعبية الجامعة، ويؤسس لعلاقة متوازنة بين الحاكم والمحكوم، قوامها الشرعية المستمدة من الشعب، لا من السلاح، أو العصبية، أو الخارج، دولة يكون فيها القانون سيّدًا فوق الجميع، لا أداة بيد الأقوى، وتُصان فيها كرامة الإنسان لا بوصفها شعارًا أخلاقيًّا مجردًا؛ بل بوصفها قاعدة دستورية وممارسة يومية في التعليم، والإدارة، والقضاء، والأمن.
واليوم أُتيحت للحكومة المؤقتة فرصة سياسية نادرة في سياق إقليمي ودولي استثنائي، تميّز بانفتاح عربي واسع، ودعم إقليمي غير مسبوق، وهو ما كان يمكن أن يشكّل رافعة حقيقية لمسار انتقالي متوازن يعيد الاعتبار للإرادة السورية المستقلة، فقد وفّر هذا المناخ الإيجابي إمكانية تاريخية لإطلاق مشروع وطني جامع يستند إلى رؤية واضحة لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها على أسس جديدة من الشفافية، والمساءلة، والمشاركة الشعبية.
غير أنّ هذا الدعم -على أهميته وحساسيته في هذه المرحلة- لم يتحول حتى اللحظة إلى برنامج سياسي متكامل يعالج جذور الأزمة السورية، بل بقي في حدود إدارة الواقع القائم، ومحاولة التكيّف معه. وبدلًا من الانتقال إلى تفكيك البنى العميقة التي كرّست الاستبداد والانقسام عقودًا، طغى الأداء المرحلي وردود الفعل الآنية على حساب التخطيط الإستراتيجي البعيد المدى.
في هذا السياق، يبرز اتفاق العاشر من مارس (آذار) بوصفه محطة مفصلية لا يجوز التعامل معها بوصفها ترتيبًا مؤقتًا لخفض التوتر، أو صيغة تفاهم قابلة للتفكك مع أول اختبار جدي؛ فالاتفاق، إن أُريد له أن يتحول إلى ركيزة لمسار وطني مستدام، يجب أن يُفهم ويُدار ضمن مقاربة “السلة الواحدة”، حيث تتكامل الأبعاد السياسية والإدارية والعسكرية في منظومة مترابطة، لا كمسارات متوازية، أو ملفات تُفتح وتُغلق وفق توازنات لحظية، أو حسابات ضيقة.
إن الفصل بين هذه المسارات، أو التعامل الانتقائي معها، يحمل في طياته خطر تفريغ الاتفاق من مضمونه، وتحويله إلى مجرد هدنة مُرحّلة بدلًا من أن يكون مدخلًا لإعادة تنظيم المشهد الوطني على أسس جديدة، فالإجراءات العسكرية -على سبيل المثال- لا يمكن أن تنجح دون غطاء سياسي جامع، كما أن الترتيبات الإدارية تفقد فعاليتها ما لم تُحمَ بسقف وطني واضح المعالم يحدد الغاية النهائية من العملية برمتها.
ومن أبرز المآخذ الجوهرية على الاتفاق -إن أُريد له أن يتحول إلى قاعدة حل حقيقي- ضيق مروحة تمثيله الاجتماعي والوطني، فلا يمكن لأي تسوية أن تكتسب شرعية مستدامة ما لم تنفتح على العمق السوري بكل تنوعاته، وفي مقدمتها المكونان الدرزي والعلوي، إلى جانب سائر المكونات الدينية والقومية والمناطقية، بعيدًا عن منطق الإقصاء، أو التصنيف، أو الشيطنة الجماعية.
إن استمرار مقاربة الغلبة، سواء بصيغتها السياسية أو العسكرية، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الصراع بأدوات جديدة، ويؤسس لدورات لاحقة من الانقسام وعدم الاستقرار. وحدها التسوية التي تقوم على التمثيل الواسع، والشراكة المتكافئة، والاعتراف المتبادل، قادرة على تحويل اتفاق العاشر من مارس (آذار) من ورقة تفاهم ظرفية إلى قاعدة تأسيسية لدولة سورية جامعة تتسع لجميع أبنائها.
ولا تقل أهمية عن ذلك الحاجة إلى مظلة عربية فاعلة، برعاية عربية شاملة، وضمانة سعودية، لدعم مسار تسوية سورية متكاملة، تُعيد بناء العقد الاجتماعي على غرار “طائف سوري”. هذا النموذج يمثل فرصة تاريخية لتصحيح الاختلالات الطويلة بين المركز والأطراف، ووضع أسس لا مركزية متوازنة تمنح المجتمعات المحلية صلاحيات حقيقية، وتضمن في الوقت نفسه وحدة البلاد وسيادتها، وتحدّ من أي محاولات لاستعادة أنماط الاستبداد السابقة بأشكال جديدة.
“الطائف السوري” ليس مجرد اتفاق مؤقت لتخفيف التوتر؛ وإنما إطار شامل لإرساء الشراكة الوطنية الحقيقية بين جميع المكونات السورية، ومنها المكونات الدينية، والطائفية، والمناطقية، ويضمن تمثيلًا عادلًا لكل الأطراف في صناعة القرار. كما أنه يوفّر مرجعية واضحة لهيكلة مؤسسات الدولة المستقبلية، ويؤسس لقواعد العدالة والمواطنة المتساوية، ويخلق مناخًا سياسيًّا يتيح مواجهة التحديات الداخلية والخارجية دون إقصاء أو تفرد بالسلطة.
باختصار، لو حدث “الطائف السوري”، برعايته العربية وضمانته السعودية، فسيشكّل منصة إستراتيجية لتأمين استقرار دائم، وتحويل اللحظة الراهنة إلى نقطة انطلاق لمسار وطني حقيقي، يمكن أن يعيد بناء الدولة والمجتمع على أسس متينة ومستدامة.
ختاما: إن الحل السوري الواقعي لا يمكن أن يكون انتصارًا لطرف على آخر، ولا صفقة أمنية مؤقتة تُعالج النتائج الظاهرة دون معالجة جذور الأزمة؛ بل هو مسار تراكمي يقوم على الاعتراف المتبادل بين جميع المكونات، وتفكيك أسباب الخوف والتوجس التي تراكمت خلال عقود من الصراعات، وبناء دولة مواطنة تقوم على العدالة، والمساواة، وسيادة القانون، لا على منطق المحاور، أو النفوذ، أو الإقصاء.
وما لم تُدرك السلطة الانتقالية هذه الحقيقة الجوهرية، وتبادر إلى تصحيح المسار عن طريق اعتماد رؤية وطنية جامعة، فإن الفرصة التي أُتيحت لها اليوم قد لا تتكرر غدًا ، وقد تدفع سوريا مرة أخرى ثمن إهدار هذه اللحظة التاريخية النادرة، التي يمكن أن تشكّل بوابة الخلاص من إرث الاستبداد والانقسام، وتؤسس لمسار سياسي مستدام يضمن لكل السوريين مكانًا حقيقيًّا في صنع القرار والمستقبل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير