مختارات أوراسية

لماذا يمثل ربط إسرائيل باليهود ارتباكًا خطيرًا في المفاهيم؟


  • 27 أغسطس 2024

شارك الموضوع

أصبح الحديث عن “عودة معاداة السامية” منتشرًا على الصفحات الأولى للصحف في الدول الغربية الآن. رئيس الوزراء الإسرائيلي يصف الاتهامات الموجهة إلى إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، والدعوة إلى وقف إطلاق النار، بأنها معادية للسامية. وفي الوقت نفسه، تثير الأعمال العسكرية الإسرائيلية هجمات معادية للسامية بحق على المعابد والمدارس اليهودية، وحتى على أفراد من اليهود؛ لذلك، من المهم أن نفهم معنى معاداة السامية، وكيف تختلف عن معاداة الصهيونية.

مع أن اضطهاد اليهود وقتلهم في أوروبا استمر أكثر من ألف عام، فإن مصطلح “معاداة السامية” لم يظهر إلى الوجود إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي يعني “كراهية اليهود ليس بوصفهم أتباعًا لليهودية؛ بل بوصفهم عرقًا” في ظل وقت كان يؤدي فيه التصنيف العنصري دورًا مهمًا في تبرير الاستعمار. لقد كان من المشروع، وحتى العلمي في أوروبا آنذاك، تأكيد “الدونية العنصرية” لليهود والأفارقة والآسيويين وكثير من الشعوب الأخرى. بررت هذه العنصرية القتل الجماعي لملايين الأشخاص في الكونغو البلجيكية في مطلع القرن العشرين، بالإضافة إلى عمليتي إبادة جماعية ارتكبتهما ألمانيا: في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا اليوم) في عامي 1904 و1908، ومرة ​​أخرى، وبعد ما يزيد قليلًا على ثلاثين عامًا، تجاه ملايين اليهود والسلاف والغجر، وغيرهم من “البشر دون البشر” حسب التوصيف النازي؛ ومن ثم فإن معاداة السامية هي شكل من أشكال العنصرية.

على عكس اللغة الروسية، في كثير من اللغات الأوروبية، لا يوجد فارق كبير بين الأشخاص من أصل يهودي وأتباع الديانة اليهودية. لعدة قرون، اعتُرِفَ باليهود عمومًا بوصفهم طائفة، مما سمح لهم أحيانًا بالهرب من الاضطهاد عن طريق التحول إلى المسيحية، ولكن عندما عُرِّفوا بوصفهم عرقًا، اختفى هذا الخيار، مما أدى إلى إبادة اليهود في أوروبا في الفترة من عام 1941 إلى عام 1945.

على جانب آخر، معاداة الصهيونية هي معارضة لحركة سياسية ظهرت في أوروبا نهاية القرن التاسع عشر. طرح مؤسس الصهيونية، تيودور هرتزل (1860- 1904)، في إطار بحثه عن حل جماعي “للمسألة اليهودية”، فكرة إنشاء دولة لليهود في كتابه “دولة اليهود”. نشأت الصهيونية في ذروة صعود الأفكار القومية العرقية داخل أوروبا، وتأكيد حق الشعوب في تقرير مصيرها (ألمانيا، وإيطاليا، وصربيا، وما إلى ذلك). ووفقًا لهذه الأيديولوجية، لن يتمكن اليهود أبدًا من أن يصبحوا جزءًا من الشعب الذي يعيشون بينهم (كالفرنسيين، والبريطانيين، وغيرهم)؛ لذلك، فإن المخرج الوحيد لهم كان وجود دولة خاصة بهم.

الحركة الصهيونية، مع أنها لم تضم سوى جزء صغير من يهود أوروبا والولايات المتحدة، عملت نيابة عن جميع اليهود. ولتطوير فلسطين، نظمت عددًا من المؤسسات، منها- على سبيل المثال- الصندوق الاستعماري اليهودي (1899)، والجمعية اليهودية لاستعمار فلسطين (1924). وفي ظل الانتداب البريطاني، أنشأ الصهاينة اقتصادهم وهياكلهم الاجتماعية المنفصلة، ​​ودفعوا السكان المحليين إلى الهامش، بل حاولوا التخلص منهم تمامًا. ومن خلال قيامهم بذلك، تسببوا- وما زالوا- في نشوء المقاومة الفلسطينية كرد فعل على محاولة طردهم من أراضيهم، التي كانت ستنشأ بالطريقة نفسها تمامًا لو استعمر الفرنسيون أو الصينيون الفلسطينيين وأساءوا معاملتهم؛ ولذلك فإن مقاومة إسرائيل وأيديولوجيتها- الصهيونية- هي مقاومة سياسية بطبيعتها.

عارض الصهاينة علنًا اليهودية التقليدية (الحاخامية) التي تتطور في جميع أنحاء العالم منذ ألفي عام. مع أن الصلوات اليهودية تشير- على نحو متكرر- إلى العودة إلى الأرض المقدسة، فإن التقاليد اليهودية قمعت ورفضت أي محاولات لجعل هذه العودة جماعية؛ ولذلك خلقت الصهيونية انشقاقات دينية وسياسية بين اليهود؛ ولذا فمن الطبيعي مشاهدة يهود متدينين يرتدون قبعات سوداء يسيرون في مظاهرات دفاعًا عن الفلسطينيين جنبًا إلى جنب مع نشطاء يساريين من المنظمة الأمريكية، مثل “الصوت اليهودي من أجل السلام”، أو “تحالف الكنديين اليهود”، التي تناضل من أجل السلام والمساواة في إسرائيل/ فلسطين. ويكفي أن نتذكر كيف هتف اليهود في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي “الحرية للفلسطينيين!”، عند سفح تمثال الحرية في نيويورك.

إذن، الصهيونية، مثلها مثل أي حركة قومية أخرى، تؤدي إلى انقسامات في المجموعة التي تعمل لصالحها. إن معارضة اليهود للصهيونية أمر طبيعي، مثل رفض بعض الأسكتلنديين أو الكاتالونيين فكرة الاستقلال السياسي عن بريطانيا وإسبانيا؛ لذلك، رحب كثير من اليهود بإنشاء دولة إسرائيل عام 1948، في حين أدانها آخرون.

بناءً على ما سبق، فإن مقولة “عندما نقول إسرائيل، فإننا نعني اليهود”، أي ربط اليهودية بالصهيونية، واليهود بإسرائيل، وسياساتها تجاه الفلسطينيين، تصور خاطئ، وكثيرًا ما يثير معاداة السامية. كما أن إسرائيل تسهم بنشاط في ذلك؛ لأن هذه المقولات تخدم سرديتها التي تدعي من خلالها- رسميًّا- أنها “دولة الشعب اليهودي”، مع أن نصف يهود العالم لا يعيشون فيها، كما أن مزيدًا من الشباب اليهود لا يريدون البقاء فيها. كذلك، تستخدم القوى المؤيدة لإسرائيل في بلدان مختلفة الخلط بين هذه المفاهيم أيضًا لتشويه سمعة الانتقادات الموجهة لإسرائيل، واعتبارها معاداة للسامية.

إن التعبير عن التضامن مع إسرائيل كدولة لليهود على وجه التحديد، يؤدي إلى تفاقم هذا الخلط في المفاهيم، ويثير- عن غير قصد- رد فعل معاديًا للسامية، ولهذا السبب لا ينبغي- في الواقع- جمع كل يهود العالم مع الصهاينة في سلة واحدة، خاصة أن الأغلبية الساحقة من الصهاينة اليوم هم من المسيحيين. رئيس الوزراء الإسرائيلي يعرف ذلك أفضل من أي شخص آخر. في الثمانينيات مثل نتنياهو إسرائيل في الأمم المتحدة، وهو الذي أنشأ جماعات ضغط قوية موالية لإسرائيل، يحتشد تحت مظلتها اليوم ملايين المسيحيين في جميع أنحاء العالم. ووفقًا لتقديرات مختلفة، فإن عدد الصهاينة المسيحيين في العالم يفوق عدد اليهود بشكل عام بعشرات المرات، وقد نشأت الصهيونية المسيحية قبل هرتزل بعدة قرون. وأخيرًا، فإن الاعتقاد بأن دولة إسرائيل الحديثة هي “هبة من الله لليهود” تتقاسمه نسبة أكبر بكثير من الصهاينة المسيحيين مقارنة باليهود.

إن النظر إلى كل يهودي على أنه صهيوني أو إسرائيلي هو أمر خطأ، وعندما تقوم إسرائيل بأي عمل عسكري عدواني ضد الفلسطينيين، فإن هذا الخلط في المفاهيم يصبح خطيرًا أيضًا.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع