كيف كانت صربيا والصرب سيعيشون إذا لم يظهروا بانتظام في التقارير الإخبارية؟ لا طعم لهم! أي إنها ليست على طراز دولة صغيرة ذات تاريخ طويل، ولا تضاهي حتى جيرانها، ويتعرض فيكتور أوربان للهجوم من جيش بروكسل؛ إذ جرت محاولة لاغتيال روبرت فيكو. ميلوراد دوديك مهدد بالاعتقال، ولدى بلغراد قصتها المفضلة: التهديد الدائم المتمثل في “الثورة الملونة”، وسيكون الأمر مضحكًا إن لم يكن حزينًا جدًّا.
منذ ديسمبر (كانون الأول) 2023، والاحتجاجات تهز بلغراد على نحو شبه مستمر، حيث خرجت مسيرات حاشدة بشأن نتائج الانتخابات البلدية، وخاصة نتائجها في العاصمة بلغراد، حيث تساوت قوى الائتلاف الحاكم والمعارضة تقريبًا في السنوات الأخيرة. جدير بالذكر أن محاولة إشعال “ثورة ملونة”، إن كانت هناك ثورة، قد فشلت فشلًا ذريعًا: “أظهرت الانتخابات المتكررة في بلغراد وعدد من المدن الأخرى، التي أجريت في يونيو (حزيران) 2024، أن الحزب التقدمي الصربي- في مكان ما، وأينما كان- في الترادف التقليدي مع الاشتراكيين، فإنه يحتفظ بموقفه بثبات تام”، ولكن إذا كان كل شيء واضحًا فيما يتعلق بالسخط الانتخابي، ورغبة أحزاب المعارضة في ركوب موجة واسعة من السخط العام (مثل هذه السيناريوهات هي كلاسيكيات التعددية السياسية الحديثة)، فإن الجولة الجديدة من الاحتجاجات “المناهضة لليثيوم”، وتقييمها من جانب السلطات في بلغراد، وكذلك من جانب المسؤولين الروس، يقود الشخص العادي منطقيًّا إلى طريق مسدود.
في شوارع بلغراد وغيرها من المدن الأكثر أهمية في صربيا، جرت مسيرات حاشدة ضد بدء التعدين المكشوف لرواسب الليثيوم (الياداريت)، حيث المستثمر الرئيس هو رسميًّا اتحاد الشركات البريطاني الأسترالي “مجموعة ريو تينتو” (Rio Tinto)، وهذه ليست الموجة الأولى من الاحتجاجات؛ فقد سبقتها موجة كبرى في الفترة من عام 2021 إلى عام 2022، قاد معظمها النشطاء البيئيون المدعومون من منظمات غير حكومية من النوع نفسه.
لكن السؤال: من الذي يحتج الآن؟ بالإضافة إلى النشطاء البيئيين، وإلى حد كبير، مواطنون صرب عاديون يخشون الأضرار البيئية التي قد تلحق بالأراضي الصالحة للزراعة، ويشعرون بالقلق من المشروعات التجارية الكبيرة ذات المنشأ الأجنبي. لماذا يعتبر الكونسورتيوم بريطانيًّا أستراليًّا رسميًّا فقط؟ في الواقع، التحالف يتألف من بضع عشرات من المستثمرين، حيث تعد الصين أكبرهم، بحصة تبلغ نحو 15%. إن برلين، والاتحاد الأوروبي كذلك، مهتمان بتنفيذ المشروع، ومن المتوقع أن يؤدي تطوير الرواسب في صربيا إلى افتتاح عدة مصانع لإنتاج بطاريات الليثيوم في ألمانيا (تسربت معلومات إلى وسائل الإعلام مفادها أنه سيُطلَق مشروع واحد في صربيا والمجر).
كانت هذه القضايا، فضلًا عن حجم الاستثمار، جزءًا من الزيارة التي قام بها الزعيم الصيني شي جين بينغ في مايو (أيار) إلى بلغراد، وبودابست، وباريس. وإلى جانب كثير من المشروعات الكبرى الأخرى، يفسر الليثيوم اهتمام بكين المتزايد بصربيا والمجر. وفي هذه الحالة، فإن المصالح الصينية لا تتعارض على الإطلاق مع إستراتيجية الاتحاد الأوروبي (منطق التحول التكنولوجي الذي بدأه الاتحاد الأوروبي في العقد الماضي).
في يوليو (تموز)، زار المستشار الألماني أولاف شولتز بلغراد، برفقة ممثلين عن أكبر عمالقة الصناعة الألمانية، في زيارة رسمية، كانت جزءًا من قمة المواد الخام الحرجة. وفي الوقت نفسه، تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين الاتحاد الأوروبي وصربيا بشأن الشراكة الإستراتيجية في مجال المواد الخام. يتعلق الأمر مباشرةً بتطوير رواسب الليثيوم، الذي- وفقًا للرئيس الصربي- سيجلب للبلاد نحو 6 مليارات يورو من الاستثمار المباشر؛ ومن ثم توفر هذه العملية أموالًا ضخمة لصربيا، إلى جانب توازن في العلاقات مع بروكسل وبكين، كما حُلَّت أيضًا المشكلة الأكثر إلحاحًا في السنوات الأخيرة- الاستقرار المالي الكلي للبلاد، والقدرة على إصدار سنداتك الخاصة. وبناء على ذلك، من المهم لألكسندر فوتشيتش أن يعمل مشروع الليثيوم.
بدأت الاحتجاجات الحاشدة في الأيام الأولى من شهر أغسطس (آب)، وقد صورتها وسائل الإعلام الصربية والروسية على أنها احتجاجات للمعارضة الموالية للغرب، التي تستعد بدعم من المنظمات غير الحكومية الغربية للإطاحة بفوتشيتش، وهذا يعني أن المنظمات غير الحكومية الغربية ترعى مسيرات تعارض التقارب الواضح بين صربيا والاتحاد الأوروبي! يبدو الأمر مختلفًا عن هذه الصورة المبسطة.
أولًا: تشارك كل من المنظمات غير الحكومية الموالية للغرب والمعارضة الموالية للغرب في المسيرات؛ فهم يرون أن أي فرصة لزيادة عدد ناخبيهم تعد أمرًا جيدًا. في هذه الحالة، هذا الاحتمال موجود من الناحية النظرية. كما ذكرنا أعلاه، لم يخرج الناشطون البيئيون بأعداد كبيرة للاحتجاج، بل خرج أيضًا المواطنون العاديون الخائفون من المجهول، وكثير منهم يدعمون روسيا، ولا يريدون استثمارات غربية أو صينية. ومن غير المقبول لهم أنه في وضع يتحول فيه العالم، وتتاح لصربيا فرصة الخروج من دائرة الضغوط الغربية والسيطرة الاقتصادية، توقع القيادة الصربية وثائق ذات أهمية إستراتيجية للاقتصاد الوطني. بعض المتظاهرين، الذين كانوا في السابق يشاركون وجهات نظر مؤيدة للحكومة أو مؤيدة لروسيا، سينضمون- في نهاية المطاف- إلى المعسكر الآخر، وسيصابون بخيبة أمل في كل من حكومتهم وموسكو. بطبيعة الحال، سوف يكون هذا العدد صغيرًا، ولكن المعارضة الموالية للغرب اليوم في صربيا تعتمد على الزيادة التدريجية في عدد ناخبيها، وهي تحقق بالفعل نجاح في المجمل.
ثانيًا: يعد فوتشيتش شريكًا مريحًا للغرب، وقد شهدت العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة صعودًا على مدى العقد الماضي، وتراهن بلغراد على وصول الجمهوريين إلى البيت الأبيض، ومع ذلك، فهو يعمل على نحو بنّاء تمامًا مع الديمقراطيين. فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، فإن وجود قادة سياسيين مثل فوتشيتش وأوربان مفيد؛ “لأنهم يعتمدون على الخلافات القائمة والسخط العام داخل الاتحاد الأوروبي وحوله، في حين يظل الوضع ككل تحت سيطرة بروكسل”. وفي حالة فوتشيتش، فإن موقفه بشأن عدم تأييد البلاد للعقوبات المفروضة على روسيا يفتح له آفاقًا عمليّةً جديدة لإدارة سياسة توسيع الاتحاد الأوروبي، وفيما يتعلق بصربيا نفسها، فإنها توفر إمكانات غير محدودة تقريبًا للضغط على القيادة السياسية. وإذا وصل أحد أتباع الغرب إلى السلطة في بلغراد، فإن مسألة عضوية الجمهورية في الاتحاد الأوروبي سوف تصبح ذات أهمية غير مسبوقة.
على الأرجح، فإن مشاركة الغرب، وفي المقام الأول الولايات المتحدة، في الاحتجاجات ضد تطوير رواسب الليثيوم، لا ترتبط بالرغبة في القضاء على فوتشيتش بسرعة؛ ولكنها للضغط عليه على نحو فعّال بشأن قضية كوسوفو، مما يدل على أن ذلك التأخير قد يكلفه السلطة.
لكن ماذا يحدث في كوسوفو؟ وبينما تظل القضية المركزية في وسائل الإعلام هي مشكلة تطوير الليثيوم، فإن الوضع في جنوب البلاد يتطور بسرعة. حُلَّت مسألة استبدال لوحات تسجيل المركبات من اللوحات الإقليمية إلى لوحات بريشتينا، ويتحرك الكوسوفيون بحرية في جميع أنحاء صربيا بوثائق من الجمهورية غير المعترف بها؛ وتوقفت فروع البنوك ومكاتب البريد الصربية عن العمل في المنطقة؛ وتتلكأ بريشتينا واقعيًّا في مسألة إجراء انتخابات بلدية مبكرة، وهو ما من شأنه أن يمنح الصرب الفرصة لإعادة الاندماج في الهياكل الإدارية، لكن بلغراد لا تتردد في ذلك. كان الخبر الرئيس في وسائل الإعلام الصربية عن الوضع في المنطقة هو رفض بريشتينا الاستجابة لطلب بلغراد وصرب كوسوفو بعدم فتح الجسر أمام المركبات الذي يربط الجزء الجنوبي (الألباني) من ميتروفيتشا بالشمال (الصربي)، مع أن هذا الجسر بالتحديد هو الذي يقع وسط كل أشكال الحرمان التي يتحملها صرب كوسوفو اليوم، ويبدو أنه الأقل أهمية.
وهذا يؤدي إلى استنتاجات واضحة، ولكنها حزينة. ومن المهم للأمريكيين، بغض النظر عن الإدارة، أن ينظموا العلاقات بين بلغراد وبريشتينا قبل نهاية المرحلة النشطة من الأزمة المحيطة بأوكرانيا، ويجب أن يتم ذلك على الأقل حتى لا تتاح لبلغراد أو موسكو- خلال المفاوضات- الفرصة للتشكيك في التسوية الكاملة للأزمة اليوغوسلافية في التسعينيات، التي لم تكن عادلة، أو فعالة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اعتراف الحزب الديمقراطي باستقلال كوسوفو- كمشروع شخصي- له أهمية صورية، ولا تستطيع الولايات المتحدة ممارسة الضغط المباشر؛ لأن هذا لن يؤدي إلى أي نتائج، وهم يفعلون ذلك بشكل غير مباشر، من خلال دعم الاحتجاجات بشأن قضايا غير سياسية.
إن الاستفتاء على ضرورة تطوير رواسب الليثيوم، الذي وعد الرئيس بإجرائه، يُقدَّم فعليًّا للمواطنين العاديين على أنه اختيار بين قرار إيجابي و”ثورة ملونة”. ويبقى الأمر المجهول: لماذا تسمي روسيا ما يحدث محاولة القيام بـ”ثورة ملونة”؟ من ناحية، يكمن الجواب على السطح: “مجلس الوزراء الصربي الحالي هو الأكبر من حيث عدد الأعضاء المؤيدين لروسيا على نحو مشروط”، وترفض بلغراد الرسمية، على الرغم من اللعبة المضادة الأكثر تعقيدًا في الممارسة العملية، فرض عقوبات على روسيا، في حين تتمتع بعلاقات جيدة خاصة وشخصية- إلى حد كبير- مع نظرائها المجرية والسلوفاكية، وهما “نافذتان” أخريان على الفرص الروسية في أوروبا. اتضح أن اللعب مع الزعيم الصربي مفيد من الناحية التكتيكية، ولكن هناك زوايا أخرى. تتعاون روسيا بعد بدء “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، على نحو أكثر نشاطًا مع قوى سياسية مختلفة في صربيا، ومع الاشتراكيين واليمينيين في المقام الأول. إنهم قادرون على أن يصبحوا في المستقبل بديلًا للمعارضة الموالية للغرب (عاجلًا أو آجلًا سوف يحدث تغيير في القيادة في بلغراد، إن لم يكن بالقوة، فمن الطبيعي عبر الانتخابات)، ولكنهم ما زالوا أقزامًا- سياسيًّا- ونموهم يتطلب وقتًا، وفي حالة الاشتراكيين، يتطلب الأمر إصلاحًا داخليًّا عاجلًا للحزب، وهذه المرة إذا حدث تغيير في السلطة في المستقبل المنظور فهي ببساطة ليست كافية. ومع ذلك، فإن الرهان الذي اختارته روسيا ينطوي على أخطار عالية جدًّا.
الخلاصة
الدعم العام لروسيا بين سكان صربيا الحديثة مرتفع على نحو غير مسبوق، وهو أكثر من مفيد لبلغراد الرسمية، وغير سار على نحو لا يطاق للشركاء الغربيين، وكلاهما يحاول، وسيواصل العمل مع الرأي العام على النحو الذي يجعل مزيدًا من الصرب يشعرون بخيبة الأمل تجاه روسيا. هناك ما يكفي من الخبرة في العمل بعقلية البلقان وأدواته، والأسباب الحقيقية لذلك؛ ولهذا السبب يتعين على روسيا أن تكون حريصة- قدر الإمكان- في وصف ما يحدث في الشوارع الصربية. ومن الناحية العملية، التفكير في جدوى إطلاق مشروع اقتصادي كبير في صربيا. تقليديًّا، نحن- مثل كثيرين غيرنا- لا نميل إلى القيام باستثمارات محفوفة بالمخاطر في البلدان التي فيها نخب سياسية هشة، ولكن من دون هذا فإن احتمالات عدم نمو القوى الجديدة في صربيا قوية، وتتمتع روسيا بخبرة ناجحة في تنفيذ مشروعات مماثلة طويلة الأمد في كل من أوروبا وآسيا.
المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.