
بدت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي أجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري استثنائية، ورغم مقاطعة تيار مقتدى الصدر المؤثر، ارتفعت نسبة المشاركة إلى أكثر من 56%، ومع ذلك، لم يحصل الفصيل الذي جاء في المركز الأول (ائتلاف الإعمار والتنمية بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني) إلا على 15% من مقاعد البرلمان، فقد حصل على 46 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا لا تكفيه لتشكيل حكومة برئاسته، حيث حصلت التحالفات والقوائم الشيعية على 187 مقعدًا، والسنية على 77 مقعدًا، والكردية على 56 مقعدًا، إضافة إلى 9 مقاعد للكوتة. وفي هذا السياق أعلنت قوى الإطار التنسيقي الشيعي تشكيل لجنة تضم عددًا من الشخصيات القيادية لتحديد مواصفات رئيس الوزراء المقبل؛ ما يشير إلى أن العراق سيشهد فترة طويلة من الصراعات السياسية قبل تشكيل حكومة جديدة، على غرار التأخيرات التي أعقبت الانتخابات السابقة؛ ثمانية أشهر في عام 2010، وأحد عشر شهرًا في عامي 2021.
في ضوء هذا، مثلت الانتخابات العراقية محطة بنيوية في مسار توازنات الإقليم، ليس فقط لكون العراق ساحة سياسية مفتوحة على تنافس داخلي محتدم، بل لكونه أيضًا إحدى أهم دوائر النفوذ الإقليمي لإيران، فمع كل دورة انتخابية تتجدد الأسئلة عن قدرة طهران على الحفاظ على شبكاتها السياسية والأمنية في العراق، وعن مستقبل تراجع أو تحول طبيعة حضورها الإقليمي في ظل تغيرات البيئة الداخلية العراقية وصعود خطاب السيادة الوطنية، لتبرز الإشكالية الرئيسة في كون الانتخابات العراقية الحالية تعيد تشكيل المعادلات التي يستند إليها النفوذ الإيراني في المنطقة، إذ يمكن أن تفرز نتائج تعزز قدرة طهران على المناورة الجيوسياسية، أو تدفع نحو تقليص مساحات النفوذ الإيراني بما يفتح الباب أمام تدخلات منافسة من الولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا؛ ما يطرح سؤالًا جوهريًا عمّا إذا ما كانت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية تشكل نقطة تحول تقود إلى إعادة توزيع القوى داخل بغداد بحيث تُقيد أدوات النفوذ الإيراني، أم أن هذه النتائج -وإن حملت تغيرات سياسية عميقة- ستظل محكومة بالبنى التقليدية للعلاقات العابرة للحدود التي نسجتها إيران في العراق، كما يزداد هذا الجدل تعقيدًا مع التغيرات الإقليمية الأوسع على مدار العامين الماضيين، وتحديدًا منذ طوفان الأقصى، من تصاعد المواجهات المباشرة بين تل أبيب وطهران، مرورًا بانخراط إيران في ترتيبات أمنية شرق أوسطية جديدة، وصولًا إلى حسابات الولايات المتحدة -خاصة منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض- التي تستخدم الساحة العراقية بوصفها مؤشرًا على مدى قدرة إيران على توسيع أو تحجيم نفوذها.
تُعد الانتخابات العراقية الأخيرة حدثًا تتجاوز تداعياته الإطار المؤسسي للعملية السياسية لتطول عمق البنية الأمنية والفصائل المسلحة في البلاد، لا سيما الفصائل المدعومة من إيران التي ترتبط بمنظومة الحرس الثوري عبر شبكات متعددة المستويات، حيث يمكن قراءة تلك الانتخابات بوصفها اختبارًا لاستقرار محور المقاومة في العراق وتماسكها، ما يعني أن أي تراجع سياسي للقوى المرتبطة بالمحور الإيراني سيمتد تلقائيًا إلى قدرة الفصائل على ممارسة دورها الأمني، وعلى الاحتفاظ بمكانتها داخل معادلة الردع الإقليمي، حيث تشكل فرصة لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والفصائل، وإعادة إدماج بعضها في مؤسسات الدولة، أو تقليص نفوذها الميداني، وهو ما يضع المشروع الإيراني في مستقبل صعب.
تؤمن الجمهورية الإسلامية أن تمثيل القوى القريبة منها داخل البرلمان والحكومة لا يُعد غاية سياسية فحسب؛ وإنما عنصر بنيوي لبقاء هيكل الحشد الشعبي على صورته الحالية، فاستمرار التحالفات السياسية الداعمة للفصائل، يسمح بتمرير موازنات داعمة، وتثبيت المناصب الإدارية، وتحييد الضغوط القانونية عن الكيانات المدعومة إيرانيًا، ولذلك تُقدم الانتخابات كمعركة حماية العمق الاستراتيجي الإيراني، حيث يشكل العراق -وفق خطاب المرشد الإيراني وقيادات الحرس الثوري- خط الدفاع الأول ضد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية؛ ومن ثم فإن أحد أهم مخاوف طهران هو بروز قوى شيعية وطنية تستند إلى قاعدة شعبية رافضة لهيمنة الفصائل، بما قد ينعكس في نتائج الانتخابات لصالح الاتجاهات الداعية إلى إعادة تعريف الحشد الشعبي، واحتمال ظهور حكومة عراقية أكثر استقلالًا في قرارها الأمني، وهو ما قد يحد من قدرة الفصائل على الحركة، خاصة تلك المرتبطة مباشرة بفيلق القدس؛ لذا فإن خسارة القوى القريبة من إيران للأغلبية البرلمانية يعد تهديدًا إستراتيجيًا يطال خطوط الدعم الممتدة من العراق إلى سوريا ولبنان، ويؤدي إلى ضعف القدرة الإيرانية على إدارة ساحات الصراع المتعددة.
وتبرز في هذا السياق مسألة شرعية السلاح، حيث تتعامل الجمهورية الإسلامية مع الفصائل العراقية بوصفها تمتلك شرعية مزدوجة؛ شرعية التصدي لتنظيم داعش، وشرعية مواجهة التهديد الخارجي الغربي؛ ومن ثم ترى إيران أن نتائج الانتخابات يجب أن تُترجم إلى استمرار حماية هذه الشرعية من خلال تحالفات سياسية داعمة، غير أن طهران لا ترى في التراجع الانتخابي لحلفائها تراجعًا ميدانيًا للفصائل؛ بل يشجعها على إعادة التموضع خارج السياسة التقليدية، والعودة إلى تكتيكات الضغط العسكري المدروس كما حدث بعد انتخابات 2021، لكن هذا الطرح يناقض الواقع الذي يكشف عن أن الفصائل باتت أكثر هشاشة من قدرتها على التصعيد المفتوح بسبب الضغوط الاقتصادية على إيران، وتزايد الانقسامات الداخلية داخل الحشد الشعبي؛ ومن ثم فبتقييم التأثير الفعلي للانتخابات في مستقبل الفصائل العراقية، تظهر ثنائية واضحة بين حماية الفصائل بوصفها عنصرًا من عناصر الأمن القومي الإيراني، والتعامل مع العملية السياسية العراقية كآلية لاحتواء الضغوط وليس لتغيير البنية القائمة، وبين توظيف نتائج الانتخابات لإعادة بناء الدولة العراقية، وتقليص النفوذ الإيراني، وإعادة تعريف العلاقة بين الأحزاب والفصائل المسلحة، وبين هذين البعدين، ستظل الانتخابات العراقية نقطة انعطاف قد تؤدي إما إلى إعادة تشكيل دور الفصائل داخل العراق، أو إعادة إنتاج النموذج نفسه على نحو أكثر حذرًا واتساقًا مع التحولات الإقليمية والدولية.
تشكل الانتخابات العراقية محطة مفصلية في إعادة ضبط التوازن داخل الشبكات الإقليمية المرتبطة بالنفوذ الإيراني، من خلال المجال الجيوسياسي الممتد من الخليج إلى شرق المتوسط، حيث تأتي هذه الانتخابات في سياق إقليمي يتميز بتراجع هامش المناورة الإيرانية نتيجة الضغوط الاقتصادية والعسكرية، وتنامي تنافسية القوى الإقليمية الأخرى -خاصة تركيا والسعودية- في المجال العراقي؛ لذلك فإن أي تغير في الخريطة السياسية المنبثقة عن الانتخابات لا يبقى داخل حدود بغداد، بل يمتد مباشرة إلى خطوط الإسناد اللوجستي والأمني والاقتصادي التي لطالما اعتمدت عليها طهران كعصب رئيس لامتداد نفوذها الإقليمي.
فعلى مستوى الارتباط الإيراني السوري، تعد العراق عقدة لا يمكن تجاوزها في منظومة الدعم الإيراني لدمشق، سواء من خلال حركة المقاتلين أو الإمدادات العسكرية أو التمويل الموازي خاصة بعد سقوط بشار الأسد، وإذا أسفرت الانتخابات عن صعود قوى سياسية متحفظة تجاه النفوذ الإيراني أو داعية إلى ضبط نشاط الفصائل المسلحة، فإن ذلك قد يضع قيودًا إضافية على قدرة طهران على استخدام المجال العراقي بوصفه نقطة عبور رئيسة إلى الساحة السورية. في المقابل، قد يؤدي تعزيز نفوذ قوى قريبة من إيران إلى إعادة تفعيل خطوط الدعم التقليدية وتأمينها على نحو أفضل، لا سيما في ظل الهشاشة الأمنية في سوريا، ما يسمح لطهران باستعادة بعض زخمها في الساحة السورية.
أما على مستوى شبكة العلاقات الإيرانية اللبنانية، فإن نتائج الانتخابات العراقية تُلقي بظلالها على قدرة إيران على دعم حزب الله ماليًا ولوجستيًا، فالعراق أصبح مصدرًا لجزء من الدعم الاقتصادي غير الرسمي عبر شبكات التجارة، وقطاعات مثل تهريب الوقود والمنتجات البترولية؛ ومن ثم فإن أي حكومة عراقية تتبنى سياسة موجهة نحو ضبط المنافذ الحدودية وتقليص اقتصاد الظل قد تعرقل تلك الشبكات، بما ينعكس على الإمكانات التشغيلية لحزب الله، وعلى قدرته على مواكبة التصعيد الإقليمي في شرق المتوسط، وفي حالة بقاء قوى ذات ارتباط عضوي بالمحور الإيراني داخل السلطة، قد تعمد طهران إلى توسعة تلك القنوات الاقتصادية، خاصة مع القيود المفروضة عليها دوليًا.
وفي الخليج، تؤدي العراق دور المنطقة الرمادية التي تستثمر فيها إيران لتحقيق توازن في علاقتها المعقدة مع دول مجلس التعاون الخليجي، فالنفوذ الإيراني في العراق يوفر لطهران قدرة على إرسال رسائل سياسية وأمنية غير مباشرة إلى الرياض وأبو ظبي، من خلال ضبط إيقاع التهدئة، أو التصعيد عبر الفصائل المسلحة، لكن نتائج انتخابات 2025 قد تؤثر بعمق في هذه المعادلة، فإذا اتجهت بغداد نحو تقوية علاقتها مع الخليج، وتصاعدت الأصوات الشيعية الوطنية الرافضة لهيمنة الفصائل، فإن قدرة إيران على استخدام العراق كورقة ضغط قد تتقلص؛ ما يدفع طهران نحو البحث عن أدوات بديلة داخل الخليج، أو إعادة تقييم إستراتيجياتها الدفاعية في المنطقة.
بالإضافة إلى هذا، تمتد انعكاسات الانتخابات العراقية الأخيرة إلى ساحات أخرى مثل اليمن والبحر الأحمر، حيث يعتمد جزء من القدرة الإيرانية على المناورة في هذه المناطق ودعم جماعة الحوثي على استقرار شبكاتها في العراق، فإذا تعززت سلطة الدولة العراقية، وحدّت من نشاط الفصائل القريبة من إيران، فإن ذلك قد يحد من الطاقة التشغيلية لتلك الفصائل التي تشكل جزءًا من شبكة النفوذ العابر للحدود التي يوظفها الحرس الثوري في إدارة الأزمات الإقليمية، في حين قد تعطي نتائج انتخابية مواتية لطهران مساحة أكبر لإعادة ضبط تموضعها في البحر الأحمر، لا سيما مع توسع التنافس الدولي في ممرات الملاحة.
أنتجت الانتخابات البرلمانية العراقية مجلسًا بلا أغلبية مطلقة، مع صعود قوائم مقربة من رئيس الوزراء، وتنامي التنافس بين قوى شيعية متعددة، ونسبة مشاركة متوسطة؛ ما يحول المشهد إلى معادلة تفاوضية طويلة الأمد لتشكيل الحكومة، هذا الواقع المؤسساتي يعني أن بغداد ستبقى مسرحًا بين محاور إقليمية ودولية، وأن كلًا من طهران وواشنطن ستحاول استثمار الفراغ أو الفرص الناتجة عن تقاطع التحالفات العراقية.
وفي هذا الصدد، تقرأ واشنطن نتائج الانتخابات بوصفها فرصة لزيادة نفوذها السياسي والدبلوماسي من خلال دعم قوى مؤسساتية ووساطات تُبعد العراق عن مسارات التبعية الكاملة لطهران، وتُعزز سيادة الدولة، فطهران اختارت ردود فعل سياسية براغماتية نسبيًّا، لكنها لن تتخلى عن أدواتها، وستبحث عن تكيف إستراتيجي يحمي مصالحها الإقليمية، ما يرجح أن المنافسة بين طهران وواشنطن تتجه من نمط المواجهة العسكرية المباشرة نحو مزيج من النفوذ السياسي والاقتصادي والضغط عبر وكلاء محليين.
غير أن الفصائل العراقية المدعومة من إيران ستبقى المتغير الحاسم لقدرة طهران على التأثير خارج المساحة الدبلوماسية، وفي الوقت نفسه هي مصدر قلق إستراتيجي لواشنطن وحلفائها، حيث أظهرت الانتخابات تباينات داخل الكتلة الشيعية الموالية لإيران، وهو ما يقلل قدرة طهران على توحيد موقف يخدم أجندتها المركزية؛ ما يدفع إيران إلى اعتماد تكتيكات أكثر انتقائية من خلال دعم فصائل معينة أو التحول إلى دعم أذرع سياسية مدنية، أو إلى تعزيز الضمانات الأمنية واللوجستية لبعض الفصائل لحفظ المصالح، وهو ما قد تستغله الولايات المتحدة لمحاولة فرض ضوابط سياسية ومؤسسية على قدرات هذه الفصائل، سواء من خلال ضغوط دبلوماسية، أو عن طريق ترتيبات أمنية مع بغداد، على غرار وجود قوات أمريكية، والتعاون الاستخباري، ومراقبة تدفقات الأسلحة.
أظهرت الولايات المتحدة -في ضوء سياساتها منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في يناير 2025- ميلًا إلى تعزيز وجودها الأمني، أو على الأقل الاحتفاظ بخيارات الردع في المنطقة عند تصاعد التوتر مع إيران؛ لذا قد تستمر بآليات ردع من خلال انتشار جوي/ بحري وتحركات استخبارية ودعم تدريبي للجيش العراقي، مع سياسة ضغط لوقف تسليح الجماعات الشيعية بأسلحة إستراتيجية، وقد تواصل إيران سياسة تعزيز قدرات وكلائها كوسيلة ردع غير مباشرة، لكن الانتخابات وتجاذباتها قد تقوض قدرتها على توجيه هذه القوات على نحو موحد؛ لذلك فالمستقبل الأمني مرهون بقدرة بغداد على فرض سيطرتها على السلاح، والتزام الحكومة المقبلة بآليات بناء الدولة، وإلا فسيستمر سيناريو الاشتباك بالوكالة بين واشنطن وطهران داخل ساحة العراق.
أفضت انتخابات 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري إلى تفوق ائتلاف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بوصفه أكبر كتلة فردية في البرلمان، لكن من دون أغلبية مطلقة، ما أعاد المشهد السياسي العراقي إلى منطق التوازنات والتحالفات المعقدة عند تشكيل الحكومة. هذا الواقع يجعل بغداد أمام مرحلة تفاوضية طويلة، ويقلص قدرة أي طرف منفرد -بما في ذلك الشبكات المقربة من إيران- على فرض أجندته بسرعة أو على نحو كامل، فلم يكن نفوذ إيران في العراق تاريخيًا أحادي الشكل؛ وإنما شبكي من خلال أحزاب برلمانية، وزعامات وشخصيات طائفية، وفصائل مسلحة من الحشد الشعبي وانشقاقاته، فضلًا عن روابط اقتصادية وطاقوية وثقافية، وهذا التركيب مكّن طهران من صياغة نفوذ مرن لكنه هش أمام اهتزاز التمثيل البرلماني والحراك الاجتماعي. العودة إلى هذا التاريخ الشبكي تفسر كيف أن نتائج انتخابات الجارية لن تُقصي إيران، لكنها قد تُلزمها بإعادة ضبط أدواتها من عسكرية إلى سياسية واقتصادية.
وفي هذا السياق، كشفت المصادر الفارسية الرسمية والإعلام المقرب من الدولة موقفًا حذرًا ودبلوماسيًا، حيث عبرت طهران عن احترامها للنتائج، ودعوتها إلى التعاون مع الحكومة العراقية المقبلة، ما يعكس خيار تعامل براغماتيًّا لتأمين المصالح الأساسية، بدلًا من سياسة تصعيدية فورية، هذه البراغماتية مؤشر أن طهران تفضل إدارة نفوذها من خلال قنوات متعددة بدلًا من الرهان على كتلة واحدة برلمانية، أو فصيل مسلح واحد، لكن الملف الأمني سيبقى هو محور الذعر الإيراني، حيث تحرص طهران أن يبقى للحشد الشعبي دور مؤثر كعامل ضغط واستثمار إستراتيجي، لكن الحكومة المركزية الجديدة قد تواجه ضغوطًا دولية، خاصة من واشنطن، للسيطرة على السلاح ودمج الفصائل داخل الصيغ القانونية، ما يجعل أي محاولة لإضعاف دور الحشد قد تقابل برد فعل إيراني، في حين أن أي تقارب بين بغداد وواشنطن في ملف حصر السلاح سيحد من إمكانات بروز أدوات نفوذ موازية لطهران في العراق. وبالإضافة إلى الملف الأمني فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدين تمثل أداة نفوذ أكثر استدامة، فطهران ستحاول استثمار علاقاتها الاقتصادية، لا سيما في الطاقة والاتصالات والبنى التحتية؛ لكسب حلفاء سياسيين من النخبة الحاكمة؛ ومن ثم فحتى في حالة تراجع التأثير السياسي المباشر لبعض الجماعات المسلحة، يمكن لإيران الحفاظ على ثغرات نفوذ مهمة عبر علاقات تجارية واستثمارية.
يفرض ما سبق ثلاثة مسارات لمستقبل العلاقات الإيرانية العراقية بعد الانتخابات الأخيرة؛ المسار الأول الأكثر ترجيحًا، يدور حول سيناريو التكيف البراغماتي، تقبل فيه طهران بالحكومة الجديدة وتعيد توجيه إستراتيجيتها نحو دعم أحزاب سياسية براغماتية، وتعزيز العلاقات الاقتصادية، وتثبيت موطئ قدم مؤسساتي بدلًا من الاعتماد الكلي على الفصائل العراقية المسلحة، في حين يرتبط المسار الثاني بتواصل الضغوط الدولية، وتزايد مطالبة الشارع العراقي والسياسات المحلية بحد نفوذ الفصائل الموالية لإيران؛ ما يفقد طهران تدريجيًّا قدرة التحكم المباشر، وتبقى شريكًا اقتصاديًّا مهمًّا لكنه أقل نفوذًا سياسيًّا، وهو السيناريو المحتمل على المدى المنظور. أما المسار الأخير، وهو السيناريو المستبعد في الوقت الراهن، فيشير إلى احتمالية التصعيد العسكري/ الاقتصادي مع العراق، إذا رأت طهران أن مصالحها الحيوية مهددة من خلال إغلاق خطوط إمداد، أو استهداف أهداف بعينها، بهدف إعادة تموضعها العسكري؛ ما يعيد العراق إلى ساحة صراع إقليمي من جديد في ظل بيئة أمنية شديدة الاضطراب.
ولعل ثمة اعتبارات محلية وإقليمية ودولية تقف وراء تحقق السيناريوهات السابقة ترتبط بمخرجات مفاوضات تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب السيادية (الداخلية، الدفاع، الأمن)، وهو ما سيكون مقياسًا لقدرة طهران على حماية مصالحها من عدمه، فضلًا عن سياسات الدمج أو حصر السلاح، فأي قانون أو قرار يقيد نشاط الفصائل العراقية المسلحة سيغير ميزان القوى، كما أن التحركات الاقتصادية والعقود الثنائية بشأن توقيع مشروعات كبرى بين بغداد وطهران ستبقي قنوات نفوذ مفتوحة طويلة الأمد، غير أن الضغط الدولي -خاصة الأمريكي- سيحدد هامش المناورة للجمهورية الإسلامية في العراق خلال المستقبل المنظور.
إن البنية الناتجة عن الانتخابات البرلمانية العراقية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 ستظل عاملًا محددًا في قدرة إيران على صيانة شبكات نفوذها الإقليمية، فالعراق -بموقعه ودوره- هو نقطة العقد داخل المنظومة الإيرانية، ما يعني أن أي اختلال في التوازن السياسي داخله سيخلق ارتدادات مباشرة على شبكة النفوذ الممتدة في سوريا ولبنان والخليج واليمن؛ ومن ثم فإن قراءة انعكاسات الانتخابات تتطلب النظر إليها بوصفها اختبارًا لإعادة تشكيل إستراتيجية إيران الإقليمية في السنوات المقبلة، فنتائج الانتخابات العراقية لا تعني نهاية النفوذ الإيراني في العراق، لكن المستقبل القريب سيكشف ما إذا نجح صانعو القرار العراقيون في بناء توازن مؤسساتي يحد من الاستغلال الخارجي، أم أن الفجوات الداخلية ستُبقي العراق مجالًا لتصعيد بالوكالة بين واشنطن وطهران؛ ومن ثم يمكن القول إن العراق مقبل على مرحلة تُعاد فيها صياغة العلاقة بين بغداد وطهران على نحو أكثر تعقيدًا، لا تلغي النفوذ الإيراني، ولكن تعيد تشكيله بحيث يصبح أقل هيمنة، وأكثر اعتمادًا على أدوات الدولة الرسمية بدلًا من الشبكات الموازية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير