إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

كوريا الجنوبية وسوق السلاح الأوروبية


  • 14 نوفمبر 2024

شارك الموضوع

في أعقاب “العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا” ، برزت كوريا الجنوبية بسرعة -وعلى نحو مفاجئ- كواحدة من أكبر موردي الأسلحة والذخيرة إلى الاتحاد الأوروبي. عام 2022، وقعت الدول الأوروبية عقودًا دفاعية بقيمة (8.4) مليار دولار مع كوريا الجنوبية. وبحلول عام 2023، زودت كوريا الجنوبية أوكرانيا -على نحو غير مباشر- بقذائف مدفعية أكثر من جميع  الدول الأوروبية مجتمعة. وقد أدى هذا الارتفاع إلى وضع كوريا الجنوبية في المرتبة العاشرة من حيث تصدير الأسلحة في العالم، والثالثة من حيث الحجم في آسيا، بعد الصين وإسرائيل.

إن أحد الأسباب الرئيسة التي أسهمت في نجاح كوريا الجنوبية يكمن في المكانة القوية التي تتمتع بها صناعاتها الدفاعية، لا سيما في إنتاج الأسلحة المستخدمة في الحرب البرية. وكانت التوقعات السائدة لدى الإستراتيجيين العسكريين قبل الحرب الروسية الأوكرانية هي أن الحروب المستقبلية ستكون في الغالب غير متكافئة، وتركز على المواجهات البحرية والجوية، مع تزايد أهمية الحرب السيبرانية، واعتُبرت الغزوات البرية الواسعة النطاق شيئًا من الماضي؛ لذا قُلص إنتاج الأسلحة المستخدمة في الحروب التقليدية بين الدول، مثل المدفعية والصواريخ، في كثير من البلدان.

ومع ذلك، فإن العلاقة الهشة بين كوريا الجنوبية وجارتها الشمالية فرضت عليها ضرورة الحفاظ على قدراتها في الحرب البرية، وتطويرها  لأغراض الردع والدفاع على حد سواء. ومع أن كوريا الجنوبية تعد من كبار منتجي السفن والطائرات العسكرية، فإن المدفعية والصواريخ تظل تشكل أهمية مركزية لصناعتها الدفاعية. وقد أدى هذا بدوره إلى جذب قدر كبير من الاستثمارات الحكومية والإعانات إلى هذا القطاع، وهو ما سمح بمرور الوقت للمنتجين العسكريين المحليين بتوسيع الإنتاج على نحو كبير، وتحقيق وفورات الحجم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن عقودًا من نقل التكنولوجيا من الدول الغربية، وخاصة من الولايات المتحدة، سمحت لمصنعي المعدات العسكرية في كوريا الجنوبية بتوسيع الإنتاج، وتطوير التكنولوجيا المتطورة، وأصبحت الشركات الكورية الجنوبية في وضع جيد للاستفادة من الارتفاع في الطلب العالمي على المدفعية والصواريخ والدبابات بعد فبراير (شباط) 2022.

ورغم انخفاض الطلبات بعد ذروة عام 2022، فإن كوريا الجنوبية في وضع جيد للحفاظ على الزخم. وبصرف النظر عن براعتها في صناعة الدفاع، فإنها تستطيع الاستفادة من حقيقة اعتبارها شريكًا متشابهًا في التفكير من جانب الاتحاد الأوروبي. ولا تبدو الجهود الرامية إلى فصل الاقتصاد العالمي وتقسيمه إلى معسكرين متنافسين واقعية بسبب المستوى العالي من الترابط المتبادل.

ولكن الأمور العسكرية تخضع لتدقيق أمني أشد صرامة، وكثيرًا ما لا يكون الشراء من المنافسين الجيوسياسيين خيارًا متاحًا، وهذا من شأنه أن يستبعد بعض كبار منتجي الأسلحة من الأسواق الأوروبية، ويعزز فرص كوريا. ومن المهم أن نلاحظ أنه في حين يُنظر إلى كوريا الجنوبية باعتبارها شريكًا يتوافق مع الولايات المتحدة، فإنها لا تحمل العبء الجيوسياسي نفسه الذي تحمله واشنطن أو غيرها من الدول الغربية، وهو ما يسمح لها بالتنقل في الأسواق المعقدة سياسيًّا بسهولة أكبر.

على سبيل المثال، لا تزال دول مثل سلوفاكيا، التي تحافظ على علاقات متوترة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بسبب وصفها شريكًا لروسيا والصين، تسعى إلى إبرام صفقات أسلحة مع كوريا الجنوبية. ولطالما فكرت سلوفاكيا في شراء أنظمة مضادة للطائرات الكورية الصنع،  وأبرمت شراكة إستراتيجية في سبتمبر (أيلول) 2024. بعبارة أخرى، لا يشكل تحالف كوريا مع الولايات المتحدة تحديات لتعاملاتها مع الدول الأخرى.

وللحفاظ على هذا الزخم، يتعين على الدبلوماسيين الكوريين أن يعملوا على وضع بلادهم في العواصم الأوروبية على النحو الذي يضمن استمرار تدفق طلبات الدفاع، بغض النظر عمن هو في السلطة. وسوف يتطلب هذا قدرًا من المجازفة الدبلوماسية، وهي إستراتيجية ضرورية على نحو متزايد للدول التي تأمل تجاوز التنافس بين الولايات المتحدة والصين.

وفي السياق الأوروبي، يستلزم هذا تطوير صورة لكوريا الجنوبية باعتبارها شريكًا، مع الموازنة بعناية بين رسائلها بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة. وفي بلدان مثل بولندا ودول البلطيق، حيث يشكل تعميق العلاقات عبر الأطلسي أولوية، يتعين على كوريا الجنوبية أن تسلط الضوء على تحالفها الوثيق مع واشنطن. ومن ناحية أخرى، في البلدان التي يميل فيها الرأي العام أو السياسات الحكومية نحو صنع السياسات المحايدة، مثل سلوفاكيا، ينبغي أن ينصب التركيز على التسعير التنافسي في كوريا الجنوبية، والجودة، والقدرة على تنويع خيارات المشتريات.

ومع ذلك، فإن الدول الأوروبية سوف ترحب بنقل الإنتاج الدفاعي الكوري إلى اقتصاداتها. ويشكل ترخيص بولندا لإنتاج الدبابات الكورية  سابقة لشراكات مماثلة في مختلف أنحاء القارة. ولقد فتحت الحرب في أوكرانيا نافذة من الفرص أمام كوريا الجنوبية لتوسيع صادراتها الدفاعية، وتعزيز حضورها الإستراتيجي في أوروبا. ومع أن المكافآت تبدو كبيرة، فإن الحفاظ على هذا الزخم سوف يكون صعبًا. ويعتمد نجاح هذا النهج على قدرة الدبلوماسيين في البلاد على العمل بدرجة عالية من المهارة والدبلوماسية.

وبالإضافة إلى ذلك، قد تتقوض هذه الجهود في الأمد البعيد بسبب تجدد التوترات العسكرية مع كوريا الشمالية، وهو ما قد يستلزم تحولًا في الإنتاج العسكري لتلبية الاحتياجات المحلية، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى خفض الصادرات إلى أوروبا. كما قد يؤدي انتهاء الحرب في أوكرانيا على نحو مفاجئ إلى انخفاض الطلب من أوروبا، ولكن هذا التحول في الأحداث يبدو مستبعدً جدًّا.

ومع ذلك، وبفضل موقعها القوي في تصنيع الأسلحة، وقربها الأيديولوجي من أوروبا، ومن خلال الاستفادة من مزاياها التكنولوجية، والتعامل بدبلوماسية مع المشهد السياسي، فإن كوريا الجنوبية في وضع قوي لاغتنام فرصة تعزيز علاقاتها مع الدول الأوروبية، وفي الوقت نفسه دفع اقتصادها إلى الأمام.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع