تستضيف روسيا قمة مجموعة البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، بالإضافة إلى الأعضاء الجُدد) في الثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول)، وقد نشأت المجموعة في سياق الأزمة المالية العالمية عام 2008 كتحالف إصلاحي يهدف إلى تحدي الهيمنة الغربية على المؤسسات المالية المتعددة الأطراف. ومنذ عام 2014، اكتسبت مجموعة البريكس طابعًا جيوسياسيًّا بهدف تحدي النظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه القوى الغربية، ويتجاهل أصوات الأغلبية، ولتعزيز نظام دولي أكثر شرعية.
ولقد كانت القمة الخامسة عشرة لمجموعة البريكس، التي عقدت في جوهانسبرغ في أغسطس (آب) 2023، جديرة بالاهتمام، حيث اختتمت القمة بقرار تاريخي بضم ستة أعضاء جدد -الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- وهو ما رُوِّجَ له باعتباره فرصة وتحديًا في الوقت نفسه للدول الأعضاء في مجموعة البريكس.
وتواجه مجموعة البريكس تحديات عملية، فحتى الآن لم توضح المجموعة إستراتيجيتها التوسعية -التي تحتاج إلى معالجة معايير إضافة أعضاء جدد محتملين- وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام التوسع في كل دورة انعقاد جديدة. وهذا بدوره من شأنه أن يفرض تحديًا على الحفاظ على عملية اتخاذ القرار القائمة على الإجماع، وسوف يثير مسألة الحاجة إلى مؤسسات جديدة لمجموعة البريكس، مثل الأمانة العامة. وبالإضافة إلى ذلك، لم تحدد مجموعة البريكس بعد أهدافها في التعامل مع بلدان الجنوب العالمي غير الأعضاء، التي أعربت نحو أربعين منها عن اهتمامها بالانضمام إلى المجموعة. وعلى نحو مماثل، ليس من الواضح بعد المسار الذي قد تسلكه دول مجموعة البريكس لتعزيز إصلاح المنظمة المتعددة الأطراف.
تضم مجموعة البريكس الآن خمسًا من أكبر عشر دول منتجة للنفط في العالم (المملكة العربية السعودية، وروسيا، والبرازيل، والإمارات، العربية المتحدة، وإيران) تمثل معًا نحو (30) في المئة من إنتاج النفط العالمي. بالإضافة إلى ذلك، تعد الصين والهند من كبار مستهلكي الطاقة؛ لذا سيكون لتوسع مجموعة البريكس آثار على تجارة الطاقة، حيث ستُمكن مجموعة البريكس هذه البلدان من التأثير في أسواق الطاقة من خلال تعزيز التناغم بين مصالحها، وربما إنشاء جبهة تفاوضية موحدة على الساحة العالمية. وعلى الرغم من المخاوف من أن يؤدي توسع مجموعة البريكس إلى إعاقة تماسك المجموعة، وخاصة أنه سيجعل من الصعب على الدول التوصل إلى توافق في الآراء، فإن المجموعة في وضع فريد يسمح لها بدعم التغيير إذا نجحت في الاستفادة من الفرص القائمة.
أزمة أخرى تواجه مجموعة البريكس، وهي “السعي المستمر إلى الزعامة في الجنوب العالمي”، حيث تتجلى هذه المنافسة بوضوح بين الصين والهند، لا سيما أن نيودلهي تعتقد أن توسيع مجموعة البريكس من شأنه أن يعزز نفوذ الصين في الجنوب العالمي. والواقع أن التوسع من شأنه أن يضفي طابعًا مؤسسيًّا على الجهود العالمية التي تبذلها بكين لتعزيز مشروعات الحكومة الصينية -مثل مبادرة التنمية العالمية- التي من شأنها أن تنشئ مؤسسات متعددة الأطراف بديلة. وقد تجلى هذا الصراع في قمة مجموعة العشرين برئاسة الهند -بعد أسبوعين من قمة البريكس الماضية- حيث أطلقت نيودلهي الممر الاقتصادي الهندي- الأوروبي- الشرقي، الذي يُنظر إليه على أنه برنامج مضاد لمبادرة الحزام والطريق الصينية. وقبل بدء قمة البريكس كثفت الصين والهند المناقشات بشأن نزع فتيل المواجهة العسكرية المتوترة بينهما على طول الحدود الطويلة في جبال الهيمالايا. ولكن على الرغم من الجهود الرامية إلى حل المواجهة، فمن غير المؤكد أن يتم التوصل إلى أي اتفاق.
وهذا لا يعني أن الأعضاء الآخرين في مجموعة البريكس جهات فاعلة سلبية. على سبيل المثال، تعتبر روسيا توسع مجموعة البريكس وسيلة لتعميق قوتها في الممر الاقتصادي الأوراسي، وحشد الدعم الدبلوماسي اللازم لكسر عزلتها الدولية من جراء العقوبات الأمريكية والغربية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، في حين يتعلق الأمر للبرازيل وجنوب إفريقيا بتقليل الانقسامات العميقة في الجنوب العالمي، وتعزيز فرص الاستثمار والتعاون. وسيتعين على روسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا أن يتعاملوا مع هذه المنافسة الإستراتيجية بين الصين والهند من أجل تعزيز مصالحهما بشكل أكثر تحوطًا لإدارة الأخطار التي يمكن أن تشكلها مثل هذه المنافسات الجيوسياسية على أجندة مجموعة البريكس.
كما تضم مجموعة البريكس وجهتي نظر “مختلفتين” بخصوص العمل العسكري، فيما كانت الصين وروسيا وإيران الأعضاء الأكثر نشاطًا في الشراكة العسكرية. وقد أجرت هذه الدول الثلاث مناورات بحرية عسكرية مشتركة في مارس (آذار) 2024 في خليج عمان، وهو نقطة عبور حيوية لشحنات النفط في الشرق الأوسط والطريق البحري الوحيد من المحيط الهندي وبحر العرب إلى الخليج العربي. وفي هذه المناورة البحرية، استُخدمت أكثر من عشرين سفينة حربية. كانت الهند والبرازيل ومصر والسعودية والإمارات أكثر تحوطًا وتجنبًا للانحياز في تكتلات عسكرية، حيث لم تنضم -على نحو جاد- إلى العقوبات الأمريكية والغربية الصارمة على روسيا، أو تشارك في الحرب التُجارية الأمريكية على الصين، كما انخرطت البلدان العربية، لا سيما السعودية، في اتفاق لخفض التصعيد مع إيران برعاية صينية؛ لذا من المستبعد وغير المتوقع أن توافق الدول التي تخلق “كُتلة عدم انحياز جديدة” بميثاق غير مكتوب أو مُعلن على أي كيانات أو أفعال عسكرية قد تأتي تحت مظلة البريكس.
على سبيل المثال، تعتقد الهند أن قوتها التفاوضية في ظل الصراع الروسي- الصيني ضد العالم الغربي أفضل، ويمكن لنيودلهي تأمين الحصول على التكنولوجيات الغربية الرئيسة، مثل الطائرات المقاتلة، والتكنولوجيا الخضراء، والرقائق، والغواصات، والطاقة النووية، والأدوية المتقدمة… إلخ التي تدعم نموها من خلال التلويح بموقفها المُحايد، وعدم انحيازها، وأن هُناك قدرًا كبيرًا من التنازلات والترضيات التي يجب أن تحصل عليها قبل أن تنخرط في النظام المالي، والتكنولوجي، والعسكري الغربي؛ لذا لا تُغامر الهند بالدخول في أي أحلاف بشكل كامل لا مع البريكس، ولا مع الولايات المتحدة حتى الآن.
هناك نموذج آخر؛ فقد وضع رئيس الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد بلاده كنقطة تجمع للأثرياء والبنوك التجارية الآسيوية، وأصبح السماح بتسوية المدفوعات باليوان والروبية والروبل لتجاوز الدولار طريقة مثالية لتجاوز العقوبات الغربية، وفي الوقت نفسه تقع البلاد في جوهر السياسة الأمريكية في منطقة الخليج، وتحتل نقطة مركزية في ممر الهند- الخليج- أوروبا؛ لذا يكون موقف أبو ظبي غير المنحاز إلى أي تكتل عسكري في ضوء البريكس أكثر أهمية وأقوى في التفاوض بين العالمين الغربي من ناحية وبلدان الجنوب أو جميع أطراف بريكس، وذلك بدون أي صدام.
ولعل المثال الأخير لفهم أهمية الحياد لبعض بلدان مجموعة البريكس هو موقف الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو؛ فبالرغم من قربه المزعوم للولايات المتحدة، فإنه رفض الانخراط في أي فعل عدائي ضد روسيا؛ وذلك لأن صادرات البرازيل من فول الصويا والذرة والسكر تعتمد -اعتمادًا كبيرًا- على الأسمدة الروسية؛ ومن ثم كان لبولسونارو مصلحة كبيرة في الحفاظ على العلاقات. كما أن الفائض التجاري للبرازيل مع الصين أكبر من كل صادراتها إلى الولايات المتحدة؛ لذا غلبت المصلحة البراغماتية التيار الأيديولوجي الحاكم للبرازيل آنذاك. وحتى في عهد لولا دا سيلفا، لم تعزز البرازيل علاقاتها مع دول مجموعة البريكس فحسب؛ بل مع الولايات المتحدة أيضًا. ففي عام 2011، تفاخر وزير الخارجية بأن البرازيل لديها سفارات في إفريقيا أكثر من بريطانيا، وقد منحها هذا الاستعداد لتكوين صداقات في كل من المحيط الهادئ وشمال الأطلسي مساحة أكبر للمناورة، وتفضل النخب في برازيليا إبقاء خياراتها مفتوحة، والتزاماتها خفيفة.
ومع بدء الدورة التالية لمجموعة البريكس، ستستقبل طلبات عضوية جديدة، كما ستُقيَّم أدوار الأعضاء الجدد، لكن من المتوقع أن تستغل روسيا رئاسة المجموعة لعام 2024 لتعزيز مكانتها كفاعل ناشئ في الجنوب العالمي، كما ستستمر المنافسة بين الصين والهند على الزعامة في مجموعة البريكس، وكلما أضيفت بلدان جديدة سيؤدي هذا إلى مزيد من الصراع بشأن الرؤى والمصالح، أما جنوب إفريقيا والبرازيل، فمن غير الواضح انخراطهما في مشكلات جنوب العالم بقدر هدفهما في التنمية، والتصنيع، وفرص الاستثمار، وتحقيق الاستقرار الداخلي؛ ومن ثم لا توجد أجندة خارجية كبيرة يمكن أن تُطرَح من خلال المجموعة لكلتيهما أكثر من استهداف إصلاح النظام العالمي ليصبح أكثر تمثيلًا لجميع الأصوات.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.