في لحظة حساسة من عمر الصراع الروسي- الأوكراني، جاء لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ستيف ويتكوف، ليعيد تسليط الضوء على احتمالات فتح مسار تفاوضي مباشر، ليس فقط بين موسكو وكييف؛ بل أيضًا بين روسيا والغرب بقيادة واشنطن.
اللقاء، الذي استمر ثلاث ساعات في الكرملين، وصفه مساعد الرئيس الروسي للسياسة الخارجية، وأحد مهندسي تطبيع العلاقات مع واشنطن، يوري أوشاكوف، بأنه مفيد وبنّاء، وأعقبته -أي اللقاء- تسريبات وإشارات سياسية بشأن مقترحات متعددة للتسوية، تعكس سعي الأطراف المؤثرة إلى ضبط مسار الحرب، وتفادي انزلاقها إلى مزيد من التصعيد الاستراتيجي.
أولًا- أبعاد هذا اللقاء الروسي- الأمريكي
إذا تحدثنا عن أبعاد هذا اللقاء، وهو الرابع في أقل من شهرين، الذي يجمع بين الرئيس الروسي ومبعوث نظيره الأمريكي، ومستوى الانخراط، فيمكننا أن نعود إلى يوري أوشاكوف مجددًا، الذي أشار إلى أن اللقاء بين بوتين وويتكوف سمح بتقارب في وجهات النظر، خاصة بشأن الملف الأوكراني، إلى جانب قضايا دولية أخرى، أفترض أن تكون إيران من بينها.
وتكمن أهمية اللقاء في كونه يُعقد بعيدًا عن القنوات الرسمية للإدارة الأمريكية الحالية؛ ما يعكس مدى انخراط المقربين من ترمب من أهل الثقة في محاولات هندسة تسوية سياسية سوف تُحتسب له بعد عودته إلى البيت الأبيض على موجة صاخبة من الوعود في هذا الشأن. وفي هذا السياق، برز حديث ترمب عن أن المفاوضات تسير جيدًا، وأن التوصل إلى اتفاق أصبح قريبًا جدًّا.
ثانيًا- ملامح خطط التسوية المقترحة ومضامينها
تُطرح حاليًا خطتان رئيستان للتسوية، سُرِّبت بعض تفاصيلهما إلى الإعلام، وكشفت عنهما وكالة “رويترز”.
الأولى صيغت أمريكيًّا تحت إشراف ويتكوف، والثانية بالتنسيق بين الأوروبيين وكييف، وأُطلق عليها اسم “خطة كيلوج”. تتقاطع الخطتان في بعض النقاط، لكنهما تختلفان في عناصر جوهرية تمس المصالح الأساسية لكل من روسيا وأوكرانيا.
نقاط التقاطع بين الخطتين، تشمل ما يلي:
1- إعادة بعض المناطق، كمنطقة كينبورن في خيرسون، إلى السيادة الأوكرانية.
2- ضمان حرية عبور نهر دنيبر.
3- وقف شامل لإطلاق النار.
4- توقيع اتفاقات بشأن الموارد الطبيعية.
5- تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا من جانب أطراف دولية (لم تُوضَّح هذه الأطراف).
أما خطة ويتكوف، ويمكن اعتبارها بمنزلة المقاربة الأمريكية (أو مقاربة ترمب)، فتنص على ما يلي:
1- اعتراف أمريكي، بحكم القانون (لأنها بحكم الواقع أمر محسوم)، بسيادة روسيا على القرم، فضلًا عن الاعتراف بحكم الواقع (وليس بحكم القانون بعد) بالسيطرة الروسية على الأجزاء التي تحت يدها من دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيا.
2- استبعاد انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
3- رفع تدريجي للعقوبات المفروضة على روسيا منذ 2014.
4- إقامة تعاون أمريكي- روسي في قطاعات الطاقة والصناعة.
خطة كيلوج، ويمكننا تصنيفها على أنها تمثل المقاربة الأوروبية- الأوكرانية، وبنودها:
1- إبقاء قضايا السيادة الإقليمية على الأراضي (القرم والمناطق الأربع) مفتوحة للمفاوضات.
2- مشاركة فعّالة للولايات المتحدة والدول الأوروبية في المفاوضات التنفيذية.
3- تقديم ضمانات أمنية شبيهة بتلك التي تنص عليها المادة الخامسة من ميثاق الناتو.
4- إعادة الأطفال الأوكرانيين (النازحين قسرًا)، وتبادل الأسرى وفق صيغة “الكل مقابل الكل”.
5- دفع تعويضات مالية إلى أوكرانيا من الأصول الروسية المجمدة في الغرب.
ثالثًا- القراءة الروسية للمقترحات من وجهة نظر موسكو
تمثل خطة ويتكوف الأساس الأقرب إلى تصورات موسكو بشأن تسوية مقبولة، فهي تكرس مكاسب روسيا الميدانية في شرق أوكرانيا وجنوبها، وتمنع توسع الناتو في الفضاء السوفيتي السابق، بعد الموجات الخمس السابقة. في المقابل، تنظر روسيا إلى خطة كيلوج على أنها منحازة كليًّا إلى كييف، وتعيد إنتاج مطالب غير واقعية، خاصة تلك المتعلقة بالضمانات الأمنية، فضلًا عن شرط دخول القوات الأجنبية تحت راية حفظ السلام.
ومع ذلك، تأتي تصريحات الكرملين، وخاصة من لافروف وأوشاكوف وبيسكوف، في سياق متحفظ، لكنه لا يخلو من إشارات إلى وجود قنوات جدية، مع تشديدهم على أن كثيرًا من التسريبات الغربية مضللة؛ مما قد يعكس رغبة روسية في الحفاظ على سرية المفاوضات الجارية حاليًا مع إدارة ترمب.
رابعًا- معوقات التقدم في مسار التسوية
رغم التقارب الأمريكي الروسي الظاهر حاليًا، ويتحدث عنه الجميع، فإن التسوية -من وجهة نظري- تصطدم بعقبتين رئيستين في الوقت الراهن:
1- الانقسام الغربي
يظهر بوضوح من خلال الفجوة بين مقاربة ترمب ومواقف الاتحاد الأوروبي وبريطانيا؛ إذ يميل الأوروبيون إلى تقديم حزمة دعم تفاوضي لأوكرانيا تهدف -من وجهة نظرهم- إلى تقوية موقعها في أي طاولة مفاوضات، بالإضافة إلى سعي الأوروبيين إلى حجز مقعد مؤثر إلى طاولة التفاوض، في ضوء أن ترمب يظهر وكأنه لا يأبه لهم، ولا يراهم أصلًا، وهذا موقف مرحب به من جانب بوتين.
2- مناورات حكومة كييف
تحاول القيادة الأوكرانية الاستفادة من التباينات الغربية لتعزيز شروطها، وتُظهر استعدادًا لاستخدام “الاعتراض الدستوري” والضغوط البرلمانية ذريعةً لرفض أي اتفاق لا يضمن استعادة الأراضي الأوكرانية بكاملها.
خامسًا- دلالات المشهد وموقع القوة
تشير التقديرات الروسية إلى أن التوازن العسكري على الأرض يميل إلى مصلحة موسكو؛ ما يمنحها ورقة تفاوضية قوية. في المقابل، يبدو أن الغرب -وتحديدًا إدارة ترمب- يبحث عن تسوية تحفظ ماء الوجه، دون التورط في التزامات أمنية غير شعبية داخليًّا. في هذا السياق، تبرز خطة ويتكوف حلًا وسطًا محتملًا، يحقق انفراجًا سياسيًّا، دون انهيار كييف، أو كسر الخطوط الحمراء الروسية.
الاستنتاج الرئيس أن التسوية تتجه إلى بلورة ما يمكن وصفه بصفقة كبرى بين واشنطن وموسكو، تُعرض لاحقًا على الأوروبيين وكييف، ما يجعل واشنطن مركز الثقل الحقيقي في أي حل محتمل.
في ضوء لقاء بوتين وويتكوف الرابع، والتقارب في المقاربتين الروسية والأمريكية، يمكن القول إن التسوية لم تعد مجرد خيار نظري؛ بل صارت احتمالًا واقعيًّا. ومع استمرار الضغط العسكري الروسي، والتقدم المستمر في الميدان -وإن ببطء- وحاجة الغرب إلى مخرج سياسي، تزداد فرص الاتفاق. غير أن الوصول إليه لا يزال مشروطًا بقدرة واشنطن على التوفيق بين شركائها الأوروبيين، وإعادة صياغة موقف كييف بما يتلاءم مع المعادلة الدولية المستجدة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.