جغرافيا

قراءة في كتاب “تاريخ الأدب الجغرافي العربي” (1/ 3)


  • 3 نوفمبر 2024

شارك الموضوع

نهدف في المقال الحالي إلى عرض موسوعة “تاريخ الأدب الجغرافي العربي”، العامرة بالمعلومات والسير لأعمال التراث العربي الجغرافي والإسلامي وأعلامه. وقد اعتمد كراتشكوفسكي في هذا العمل على مدونات الرحالة والكتّاب القدامى، ومكوناتهم الثقافية، فهم يتناولون موضوعات جغرافية يعتمدون فـي طـرحهـا على نـهـج عـلـمي، ولـكن بأسلوب أدبي، وظهر ذلك على نحو احترافي كبير في نوع من أدبيات الجغرافيا الوصفية بسلسلة مؤلفات المسالك والممالك.

ويدهشنا كيف قام كراتشكوفسكي وحده -وليس عالمًا أو باحثًا عربيًّا- بهذا العمل الضخم، وقد ألمّ بكل هذه الأدبيات والمعلومات الوافرة، ومدى إلمامه باللغة العربية حتى يتسنى له الاطلاع عليها وجمعها؟

 ومع أن ما كتبه موجود في الأدبيات العربية على نحو متفرق، لكن ربما يتساءل البعض أيضًا لماذا أخذ على عاتقه جمعه وعرضه ومناقشته في عمل ضخم وسفر من أسفار الأدب الجغرافي؟ لذلك، من المفيد، ولإزالة الدهشة، وإجابة عن تساؤلات القارئ، يجب تتبع نشأة كراتشكوفسكي وظروف حياته، وفهم الخريطة السياسية للإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت، من خلال عرض السيرة الحياتية للمؤلف.

التعريف بالمؤلف.. المولد والنشأة

من تتبع مسيرة حياة كراتشكوفسكي نجد أنه حينما تفتح وعيه كان مطلًا به على الحياة في الشق الآسيوي التابع للإمبراطورية الروسية، وعلى ثقافة الشرق من مساجد وأسواق، وتنوع الألسنة، وغير ذلك، فقد ولد في مارس عام 1883 بمدينة ڤيلنا- ويلينا Vilna – حاليًا ڤيلنيوس عاصمة جمهورية ليتوانيا على ساحل بحر البلطيق، وكان والده يوليانوڤيتش كراتشكوڤسكي مديرًا لمعهد المعلمين هناك. انتقلت عائلته من ڤيلنا قبل أن يتم عامين لتعيين والده مديرًا لمدرسة المعلمين في طشقند (بأوزبكستان حاليًا)، ثم ناظرًا عامًا للمدارس في آسيا الوسطى. قضت العائلة هناك أكثر من ثلاث سنوات، وفي تلك الفترة تأثر الطفل الصغير باللغة، حيث يذكر كراتشكوفسكي عن نفسه أن أول لغة تكلمها كانت الأوزبكية؛ لأن مربيته أوزبكية الأصل.

حينما عادت الأسرة إلى ڤيلنا مرة أخرى عام 1888، عُين والده مديرًا للمكتبة العامة، ورئيسًا للجنة البحث عن الآثار التاريخية القديمة، فكانت البيئة المحيطة بكراتشكوفسكي بيئة ثقافية وبحثية، خاصة أن والده حرص على اقتناء عدد كبير من الكتب في مكتبته المنزلية الخاصة، وكان يقضي فيها وقتًا طويلًا في البحث والتقصي عن الآثار والحضارات، فورث كراتشكوفسكى عنه حب القراءة والبحث، وقضى وقتًا طويلًا في مكتبة المنزل والكلية الويلناوية الملأى بكتب المشرقيات، خاصة لأشهر علماء المشرقيات الروس الذين تخرجوا فيها، مثلسينكوفسكي Senkovski ، الذي يعد المعلم الأول للغة العربية في كلية لينينغراد.

التحق كراتشكوفسكي عام 1901 بقسم اللغات الشرقية بجامعةلينينغراد، وخاصة فرع لغات الشرق الإسلامي، ولمدة أربع سنوات عكف على دراسة العربية، والفارسية، والتركية التترية، فضلًا عن العبرية، والحبشية القديمة، لكنه انجذب أكثر إلى اللغة العربية التي نهل منها على يد العلامة الكبير فيكتور فون روزن Victor von Rosen . لم يكتف كراتشكوفسكي بذلك؛ بل انصهر في المجتمع العربي بروسيا من خلال المقيمين والدارسين هناك لاكتساب اللهجات العربية الدارجة، وخاصة مع أنطوان خشاب، الذي تدرب على يديه على لغة المخاطبة العربية باللهجة الشامية.

حصل كراتشكوفسكى على الماجستير عام 1907، عن دراسة بعنوان “أبو الفرج الوأواء الدمشقي”، وقد ترجم ديوانه إلى اللغة الروسية ونشره. وفي عام 1908 أرسلته الوزارة إلى الشرق العربي لتعلم اللغة العربية الدارجة (اللهجات)، ومعرفة حياة الشرق بعاداته وتقاليده، وعلماء اللغة العربية وإنتاجهم العلمي، فتنقل خلال رحلته بين سوريا، ولبنان، وفلسطين، ومصر، وزار الكلية اليسوعية في بيروت، والجامعة المصرية، والجامع الأزهر، وحضر دروسًا لعلمائهم، فضلًا عن المكتبة الخديوية في القاهرة، والمكتبة الظاهرية في دمشق، والخالدية في القدس، وتعرف إلى كثير من الأدباء والكّتاب العرب، مثل جورجي زيدان، وأحمد زكي باشا، وخليل السكاكيني.

 بعد عودته عُين مديرًا لمكتبة فرع اللغات الشرقية في كلية لينينغراد، ثم مدرسًا ثانيًا للعلوم العربية. وحينما سافر إلى هولندا لدراسة بعض المخطوطات، حرص على جمع عدد كبير من كتب المشرقيات من مكتبة ليدن الشهيرة، ثم ترقى في عمله إلى معلم أول للعربية، وذاعت شهرته فانتُخب عام 1923 عضوًا مراسلًا في المجمع العربي بدمشق، وعن هذا الاختيار يقول كراتشكوفسكي إن ذلك كان أكبر شرف ناله في عمره، وفخرًا وتقديرًا لجهوده في التدريس والبحث والتأليف في مجال اللغة العربية وآدابها.

ورغم الزخم الكبير في الإنتاج العلمي لكراتشكوفسكي، ما بين كتب ومقالات ومحاضرات، فإنه حرص منذ المرحلة الجامعية على أن يركز إنتاجه العلمي في محاور ثلاثة، وهى: تاريخ الشعر العربي ونقده، وآداب اللغة العربية، وتاريخ أدب اللغة العربية، واستمر في نشاطه العلمي بالجامعة حتى وفاته عام 1951، تاركًا تراثًا كبيرًا من المؤلفات، وتقديرًا أكبر من المجتمع العلمي في روسيا.

تميز كراتشكوفسكي بدراسة الأدب العربي الحديث، وكان بالجرأة التي جعلته ينتهج هذا النهج في الوقت الذي كان علماء الاستشراق العالمي يلقون بثقلهم في دراسة ماضي شعوب الشرق، وقد اتبع منهجًا مختلفًا تمامًا عن مناهج المستشرقين الأوروبيين؛ فاعتمد -إلى حد كبير- على المصادر العربية الأصيلة؛ لذلك كان كثير الترحال والزيارات للبلاد العربية لجمع مادته العلمية، وللقاء علماء اللغة ورجال الثقافة العرب، وارتبط بعلاقات صداقة مع كثير منهم، كان أحدهم أمين الريحاني.

وقد ترجم إلى اللغة الروسية كتاب “الريحانيات”، وبعض “مقامات مجمع البحرين اليازجية”، وكتاب “المرأة الجديدة” لقاسم أمين. ونُشِرَ كثير من أعماله باللغة العربية، ومنها “ترجمة الشاعر العربي أبي دهبل الجمحي”، طبعت عام ١٩١٢، و”نظرة في وصف مخطوطات ابن طيفور والأوراق للصولي” عام ١٩١٢، و”حماسة البحتري وأول من اكتشفها في أوروبا” عام ١٩١٢، و”مخطوطة جديدة للمجلد الخامس من تاريخ ابن مسكويه” عام ١٩١٦ و”التعاويذ عند عرب الجنوب” عام ١٩١٧، و”مخطوطة جديدة لديوان ذي الرمة مع شرحه للأصمعي” عام ١٩١٨.

كما قدم “دراسة المخطوطات العربية”، الصادرة عام 1945، وتُرجمت إلى عدة لغات أجنبية أخرى، وتعد هذه الدراسة من أهم أعماله، ومنح عنها جائزة الدولة السوفيتية عام 1951. وقدم أيضًا دراسة “من تاريخ الاستعراب الروسي”، وصدرت عام 1950، قبل عام من رحيله. كما حرّر الطبعة الأولى والكاملة لكتاب “ألف ليلة وليلة” المترجم باللغة الروسية.

كذلك يرجع الفضل إلى كراتشكوفسكي في نشر كتاب “البديع” للأمير والشاعر العباسي عبد الله بن المعتز (861- 908م) بين أوساط المهتمين بدروس البلاغة العربية، فقدكشف أصل مخطوطته ونشرها، ونشر أيضًا مخطوطة كتاب “رسالة الملائكة ” للشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، وتعد هذه الرسالة الثانية للمعري بعد رسالة الغفران.

درس كراتشكوفسكي أشعار أبي العتاهية، والمتنبي، والبحتري، وصنف أعمالهم في الغزل، والهجاء، والحماسة، ونشر دراساته في تحقيق كثير من المخطوطات العربية المحفوظة في خزائن أكاديمية العلوم الروسية بسانت بطرسبورغ.

ولأهمية أعمال كراتشكوفسكي نشر بعضها تحت رعاية جامعة الدول العربية، ومنها كتابه الذي نحن بصدده. وقد كتب كراتشكوفسكي نحو 450 بحثًا ومقالًا نشرت في مؤلفاته الكاملة؛ ولذلك يعد -بحق- مؤسس مدرسة الاستعراب الروسية؛ إذ وضع منهج دراسة تأريخ وآداب العرب في مختلف الأمصار، وكان أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى الروسية من اللغة العربية مباشرة ترجمة علمية دقيقة. وما زال الدارسون يلجؤون إلى هذه الترجمة لدى التحقق من صحة ترجمة معاني بعض الآيات.

ظروف إعـداد تاريخ الأدب الجغرافي العربي

من خلال ما ذكره كراتشكوفسكي عن ظروف إعداد الكتاب، نجد أن هذا السفر الضخم ليس وليد عام كتابته، فكعادة أغلب الكتاب والأدباء الروس، استغرق تدوين هذا الكتاب سبعة عشر عامًا، منذ أواخر الثلاثينيات حتى نهاية الأربعينيات، بدءًا من عام 1938حتى عام 1945، وتوقف أحيانًا في أثناء إعداده لظروف الحرب العالمية الثانية، وحصار مدينة لينينغراد.

قبل أن يشرع كراتشكوفسكي في إعداد هذا العمل الكبير، كان مهتمًا بالأدب الجغرافي العربي، وقد ذكر -بكل تواضع العلماء وثقتهم- أنه اعتمد في أثناء إعداده له على المحاضرات التي كان يلقيها على طلابه بجامعة بطرسبورغ -ولاحقا لينينغراد- منذ عام 1910، وكذلك على المحاضرات التيحضرها عن تاريخ الفلك عند العرب قبل أن يأتي لرحلته بالشرق بسبب اهتمامه بدراسة الأدب العربي عامة، وكذلك اعتمد على المحاضرات التي استمع إليها في أثناء رحلاته إلى الشرق،فقد كان مستمعًا جيدًا للمحاضرات التي يلقيها علماء آخرون.

هذا الاهتمام دفعه إلى إنجاز كثير من المؤلفات التي تناقش أعمال الأدباء والكتّاب الشرقيين كما ذكر سابقًا، فأثرى ذلك حياته العلمية بمخزون وحصيلة معرفية ضخمة، وقضى سنوات طويلة في دراسة الأدب والشعر العربيين، وانهمك طوال السنوات العشرين الأخيرة من حياته في الأدب الجغرافي العربي، وإن كان في الأصل مهتمًا بالجغرافيا عامةً، وقد مكّنه ذلك الاهتمام من وضع الكتاب الذي نتحدث عنه، وأهّله للإقدام على إنجازه.

 تيقن كراتشكوفسكي أن العرب أسهموا بنصيب وافر، يمثل جزءًا أساسيًّا من التراث العام للبشرية، وليس للعرب فقط، بل امتد إلى جميع أنحاء العالم، فأضافوا إلى الأدب الجغرافي الوصفي أنواعًا أخرى فريدة، منها أدب العجائب والفضائل، وأدب المثالب، وإن كان الأدب هنا مغلفًا بالنظرة الذاتية للكاتب، لكنه سيبقى تراثًا ذا أهمية كبيرة في الأدب العربي عامةً، فأقدم كراتشكوفسكي على جمع وتحليل ونقاش العشرات من مؤلفات الجغرافيين، والرحالة، والحجاج، والسفارات، والتجار، وغيرهم، الذين وصلوا إلى أصقاع روسيا شمالًا حتى الصحاري الإفريقية جنوبًا، ومن الهند والصين شرقًا حتى المغرب والأندلس غربًا، أي إنهم تجاوزوا مناطق العرب والإسلام في زمن لم تكن إمكانات السفر والمعلومات فيه وافرة، لكن يحمد لهم كونهم شهود عيان أو ناقلين عن غيرهم بأمانة؛ مما جعل لنصوصهم قيمة مدهشة، فضلًا عن تميز كتابتهم بالشمولية، فلم تكن مؤلفاتهم تضم الأدب الجغرافي فقط؛ بل تضمنت كثيرًا من العلوم الأخرى.

أنتجت هذه المؤلفات كثيرًا من أنواع الأدب الجغرافي، ابتداء من الإيماءات الأولى في الشعر الجاهلي حتى أيامنا هذه، والأدب الشعبي بجانب الأدب العلمي، واجتهد كراتشكوفسكي في أن يلم بجميع أنماط الأدب الجغرافي من خلال الجغرافيا الرياضية والوصفية، والعامة والإقليمية، وحتى الأسطورية، وعجائب الرحلات.

لكن كراتشكوفسكي رحل عن الحياة قبل أن ينتهي من كتابه تمامًا، فاهتمت به الدوائر العلمية السوفيتية، وجمعت السلطات العلمية السوفيتية جميع كتاباته في مجموعة باسم “منتخبات آثار الأكاديمى كراتشكوفسكي”، وضمت ستة أجزاء ضخمة، أشرف على وضعها عدد من كبار علماء الاستشراق السوفيت، ويضم الجزء الرابع من المجموعة كتاب” تاريخ الأدب الجغرافي العربي”، وبذلك صدر أهم كتاب وضعه خلال حياته بعد موته بسنوات.

وعلى عكس المتوقع، ومع أن كراتشكوفسكي بدأ في إعداد الكتاب قبل الحرب العالمية الثانية، فإن عمله سار بنسبة أسرع في أثناء حصار لينينغراد عامي ١٩٤١ و١٩٤٢؛ فقد أنجز قبل الحرب سبعة فصول فقط ترصد تطور الأدب الجغرافي العربي من القرن السادس حتى القرن الثاني عشر الميلادي، بالإضافة إلى فصلي المقدمة، أما في أثناء الحرب، وابتداء من يوليو (تموز) ١٩٤١ إلى وقت مغادرة كراتشكوفسكي مدينة لينينغراد في آخر يوليو (تموز) ١٩٤٢، أضاف أربعة عشر فصلًا، وبهذا توقف الكتاب عند الفصل الثالث والعشرين الذي يتناول القرن السابع عشر، ثم أضاف فصلًا آخر يتناول الآثار الأدبية في ميدان الجغرافيا في القرن الثامن عشر الميلادي، مع أن كراتشكوفسكي كان يخطط لإضافة فصول أخرى تتناول الأدب الجغرافي العربي في القرن التاسع عشر والعصر الحديث.

وكما أسدى كراتشكوفسكي للأدب الجغرافي العربي خدمة كبيرة بتأليفه هذا العمل، أسدى المترجم السوداني والمثقف الموسوعي صلاح الدين عثمان هاشم (1922- 1988) للثقافة العربية كلها خدمة أكبر بترجمة هذا العمل الضخم، الذي يتخطى عدد صفحات جزأيه الألف صفحة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع