صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة “كتابات نقدية”، التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، عام 2011، من تأليف الأستاذ الدكتور محمد عباس والأستاذة الدكتورة نادية إمام سلطان، ويتألف من 382 صفحة.
يبدأ الكتاب بمقدمة توضح المكانة المرموقة للأدب الروسي بين الآداب العالمية، وحركة تطوره على مصر العصور منذ أن كان شفهيًّا حتى ظهور الكتابة، وظهور كثير من المؤلفات الأدبية التي تعكس الحياة السياسية والاجتماعية للشعب الروسي، وازدهار النواحي السياسية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والفنية في عصر القيصر الروسي بطرس الأول، المعروف ببطرس العظيم.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب: يتضمن الباب الأول التعريف بأمير الشعراء الروسي ألكسندر بوشكين، وعالمنا المعاصر، وقصيدته “محاكاة القرآن الكريم”، كما يلقي الضوء على كل من الكاتب نيكولاي جوجل، وأنطون تشيخوف، ويكشف علاقة الأدب الروسي “بالإنسان البسيط”.
يتضمن الباب الثاني الحديث عن أهمية الأثر الأدبي لكتاب “ألف ليلة وليلة” وتأثيره في بعض الأدباء الروس، وكذلك أثر الثقافة الإسلامية في الأدب السوفيتي، وإطلالة سريعة على بعض مؤلفات الأديب أنطون تشيخوف ويوسف إدريس، ومحاولة جديدة بدراسة مكانة الأديب المصري نجيب محفوظ في مرآة النقد الروسي.
أما الباب الثالث والأخير فيتضمن حديثًا عن الشرق العربي في عيون الرحالة الروس، وتاريخ الاستعراب في روسيا، وتعريفًا بإجناتي كراتشكوفسكي، شيخ المستشرقين الروس، والشيخ محمد عياد طنطاوي، الذي أصبح رئيسًا لقسم اللغة العربية في جامعة بطرسبورغ، وتعيين أول سفير مفوض في مصر، وأخيرًا مقارنة بين محمد على باشا -مؤسس مصر الحديثة- والقيصر بطرس الأول -مؤسس روسيا الحديثة.
يعد بوشكين ظاهرة أدبية عملاقة تستحق الوقوف عندها، وسوف نقوم بجولة قصيرة في سيرته، مع الحديث عن بعض مؤلفاته الأدبية لمتابعة الصدى القوي والأخاذ لأعماله في عالمنا المعاصر.
يرتبط التأثير الفعال لأعماله الأدبية بحقيقة المضامين الموضوعية لها، إذ تحمل بين أطوائها أفكارًا إنسانية، وأحداثًا تاريخية، وقضايا اجتماعية، ومعتقدات فلسفية، ومبادئ دينية سامية، وتتصل بمنظومة القيم، بما فيها من مقاييس جمالية وإبداعية وروحانية وأخلاقية وعاطفية، فهي نتاج لتوازن الوجدان والفكر معًا. لا يقتصر تأثير الظاهرة الأدبية العملاقة مثل بوشكين على نطاق حدود عصرها؛ بل تتعدى عصورًا أخرى.
يحتل بوشكين مكانة مرموقة في الأدب العالمي كالتي يتمتع بها جوريم في الأدب اليوناني، ودانتي في الأدب الإيطالي، وسيرفانتس في الأدب الإسباني، وكل من شكسبير وبايرون في الأدب الإنجليزي، وغوته في الأدب الألماني. استطاع بوشكين أن يتغلغل داخل النفس البشرية باحثًا عما يجيش فيها، فالإنسان وقضاياه هو مصدر إلهام مؤلفاته، وقد عبر عنه في صور عدة ومتنوعة، فأبطاله أناس واقعيون يمثلون الغني والفقير الذي يعاني ويفرح ويتألم ويسعد، ينهزم وينتصر، يحب ويكره.
ترك بوشكين انطباعات طيبة لدى كبار الأدباء والشعراء والنقاد والأصدقاء، فاعتبره غوغول -أبو النثر الروسي الواقعي- أديبًا مبدعًا، فيقول: “لم يتمتع أحد من أدباء روسيا بشهرة يحسد عليها كما حصل عليها بوشكين، وسرعان ما ذاع صيته، إذ غاص في قلب روسيا وفي ربوعها، واسترسل في التفكير بعمق باحثًا عن حياة مواطنيه وأخلاقهم؛ لأنه يريد أن يصبح –بحق- شاعرًا ذا نزعة قومية؛ ولهذا، ولأسباب أخرى، فهو يعد ظاهرة خارقة، ظاهرة فريدة للإنسان الروسي المتطور، لا يمكن أن يظهر مثلها إلا بعد مئتي عام، فتكمن في روحه الطبيعة الروسية، والروح الروسية، واللغة الروسية، والشخصية الروسية التي انعكست بجل نقائها وجمالها الطاهر مثلما ينعكس المنظر الطبيعي على سطح شفاف لزجاج عدسة بصرية.
يؤكد مؤرخ الأدب الروسي الشهير بيلينسكي “أن أشعار بوشكين ما هي إلا تعبير صادق للواقع الروسي، سواء صورت الطبيعة الروسية أو الشخصية الروسية، فمن هذا المنطلق هناك رأي عام يؤكد أنه شاعر قومي شعبي”.
يعبر جانتشاروف عن أستاذية هذا الشاعر العظيم فيقول: “إن بوشكين معلمنا جميعًا، وقد تعلمت الكثير من أشعاره”. ويشيد دستايفسكي به بوصفه فنانًا سريع التأثر، واضحة انطباعاته، واسع الأفق: “بوشكين هو الشاعر الوحيد من بين شعراء العالم الذي يمتلك قدرة تجسيد أي قومية أجنبية على أكمل وجه، ولا يوجد شاعر سواه أهل لهذه الاستجابة العالمية. فالقضية لا تكمن في العمق الرائع لتصوير النفس البشرية؛ وإنما تنحصر في أنه يتقمص روح هذه الشخصية كما لو كان أحد مواطني هذه القومية الأجنبية”.
ويقول الروائي الروسي الشهير ليف نيكولافيتش تلستوي عن هذه المعجزة: “هو معلمنا، وعلى كل أديب ألا يكف عن دراسة هذه الكنوز”. وقد رثاه الشاعر ليرمانتاف فكتب قصيدته “موت شاعر”، التي عبّر فيها عن المنزلة الرفيعة التي يتمتع بها بوشكين بوصفه فنانًا موهوبًا في قلوب الشعب الروسي، وأكد أن موته كان نتيجة لملاحقة السلطات له في كل مكان، ونشر الشائعات المغرضة ضده، فقد استطاع أعداؤه أن ينالوا منه ويحققوا مأربهم، فيقول:
لم تتحمل روح الشاعر الثائرة
عار الإساءات الحقيرة
فثار في وجه طبقة الوجهاء
وحيدًا، طوال حياته… وقتل
شكلت مرحلة الطفولة المبكرة الجزء الأكبر من حياته، وتكشفت خبايا نفسه فيما بعد. ولد بوشكين في أسرة أرستقراطية الأصل، تجري في عروقها الدماء السلافية، فجده الأكبر من ناحية والده “راتشا” صربي الأصل، حضر إلى روسيا عن طريق ترانيلفانيا إلى إمارة كييف في عهد الأمير فسيفالود الثاني، وكان فارسًا من ذوي الأملاك شجاعًا، خاض معارك كثيرة، واشترك في إحدى المعارك الحربية التي قادها ألكسندر نيفسكي ضد الغزاة السويديين عام 1240. أما من ناحية الأم فجدته “ناديجدا أسيبافنا” حفيدة إبراهيم هانيبال، الذي جاء من مدينة لاجون التي تقع في الشمال الشرقي للحبشة، ويعتقد أن والد إبراهيم هانيبال كان يعتنق الإسلام؛ وذلك لاعتناق سكان هذه المنطقة الدين الإسلامي. أرسله والده إلى أحد الأمراء الأتراك، ولكنه تعرض للخطف، واستولى عليه بعض الغرباء رهينة، وأسروه، وتدخل القدر في أن أنقذه السفير الروسي في تركيا، الذي اكتشف فيه رجاحة العقل، وحسن السلوك، والتصرف السديد، وحبه الدءوب للعمل والإخلاص، فأرسله هديةً إلى القيصر بطرس الأول الذي عمّده وأحسن معاملته، وأرسله إلى فرنسا لتعلم العلوم العسكرية، حتى وصل إلى رتبة جنرال، وسرعان ما أصبح من مساعدي بطرس الأول في إدارة شؤون الدولة. وقد عبّر عن هذه الصورة التي استقرت في وجدانه منذ الصغر في روايته “عبد بطرس الأول” فيما بعد.
لقد أضفى هذا النسب الإفريقي أيضًا تأثيره على لون بشرته السمراء، فهو أقرب إلى “العربي”، وذو شعر مجعد. لم يتنصل أو يخجل بوشكين من تلك الحقيقة، ولم تقف حائلًا أمامه، بل فتحت آفاقًا رحبة لإبداعه، فدفعته لمعرفة كنوز الثقافات الإنسانية الأخرى، شرقية كانت أو غربية، فرسخت في عقله ووجدانه، وتأثر مع إضافة ذاتيته الخاصة التي خلقت منه شاعرًا مبدعًا لفن راقٍ ذي طراز خاص تنفرد به مؤلفاته عمن سبقوه.
نشأ بوشكين في أسرة تعشق العلم والثقافة والأدب، فهي تملك مكتبة ضخمة تضم كثيرًا من أمهات الكتب الروسية والأجنبية لرواد الفلسفة والفكر والأدب في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر، وبالإضافة إلى ذلك، كان يشرف على تربيته مربيون فرنسيون كعادة الطبقة الأرستقراطية في هذه الفترة، فكان يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، حتى إنه كتب الشعر باللغة الفرنسية وهو في الثامنة من عمره يصف فيه مدرسيه الفرنسيين، لكن هذا لا يعني أنه أهمل اللغة الأم (الروسية)، التي أحسن تعلمها وأتقنها، وتحدث بها أفضل من العلامة لومانوسف نفسه، فاللغة تعني له وجودًا وكيانًا وتراثًا أصيلًا وإحساسًا في الوجدان، فهي في المقام الأول تحدد هويته، ولا يمكن الاستغناء عنها.
تلقى بوشكين الصبي دروسًا في مختلف ضروب العلم والمعرفة والفن والدين والمواعظ والموسيقى والرسم، فما كاد يبلغ العاشرة من عمره حتى قرأ ترجمة “الإلياذة” و”الأوديسا”، وكثيرًا ما كان يقضي أفضل أوقاته في قراءة الكتب، فالقراءة هي أفضل وسيلة للتعلم، والكتاب مصدر النور والمعرفة، فعاش بين كتبه لا يمل صحبتها أبدًا، فهي رفيقة في كل الأوقات، وكل الأماكن.
كان لوالده دور كبير وفعّال في تنمية ولع الابن بالقراءة، فكان يلقي على مسامعه -بدقة وبمهارة- فقرات من أعمال موليير، فيعجب بها الابن ويحفظها عن ظهر قلب بفضل ما حباه الله من ذاكرة قوية غير عادية، وكانت جدته تنظم الشعر، وكثيرًا ما تقرأ له فقرات من ترجمة الأثر الأدبي المعروف “ألف ليلة وليلة”.
تؤكد شقيقته أولجا أن مربيته كانت تغني له الأغاني الروسية الشعبية، وكذلك تروي له الحكايات الروسية الشعبية المأخوذة من الفولكلور الشعبي، وكثيرًا كانت تردد الحكم والأقوال والأمثال الشعبية؛ لذا كان بوشكين يعتبر مربيته الإنسان والصديق القريب إلى نفسه، ولحبه الشديد لها كتب الأبيات التالية في قصيدته “حلم” عام 1816، يتذكر فيها مربيته الفاضلة إرينا رادينوفنا، التي اعتبرها مثل أمه، فيقول:
آه، كيف لا أذكر شيئًا عن أمي
عن سحر ليالي الغامضة
حينما كانت في غطاء رأسها وسربالها المحتشم
وهي تنحني خاشعة في صلاتها
تباركني بعلامات الصليب على صدري
وتبدأ بصوت خافت تحكي لي
عن الأشباح وبطولات بوفا
اعتاد شعراء العصر أن يوجهوا رسائل إلى علية القوم، وإلى حسناوات المجتمع الراقي، ولكن في بادرة جديدة من نوعها، وفي خطوة جريئة، يكتب رسالة يوجهها إلى مربيته الفاضلة الفلاحة العجوز البسيطة إرينا رادينوفنا عام 1826.
تعلم بوشكين مع أصدقائه من النبلاء في مدرسة الليسيه ست سنوات، وكانت المدرسة تابعة للقصر الإمبراطوري مباشرة، ولأهميتها كهيئة تعليمية، عقدت عليها الآمال في تأهيل الدارسين للعمل في أعلى المناصب الحكومية، وكانت المدرسة تضم ثلاثين تلميذًا يتعرفون على مختلف ألوان العلوم السياسية والاقتصادية والفلسفية والرياضيات واللغات والآداب، وقد أشرف على تعليمهم صفوة مختارة من المعلمين. وقد افتُتن بوشكين بشخصية كونيتسين؛ معلم مادة علم الأخلاق، الذي ترك أثرًا كبيرًا في حياة الشاعر، فقد كان المعلم محبًا للحرية، ومناهضًا للاستبداد، ومحتقرًا لنظام الرق.
شارك بوشكين في الأنشطة المدرسية، وكتب القصائد في المدح والرثاء والرسائل، وكتب في تلك الفترة ما يقرب من مئة وعشرين قصيدة لم يتطرق إليها السابقون من الشعراء؛ وإنما وجد طريقًا خاصًا به واضح الأفكار. واستمع إليه كبار شعراء ذلك العصر، مثل جوكوفسكي، وكارامزين، وأشادوا جميعًا بقصائده، وتنبؤوا بميلاد شاعر عبقري جديد موهوب. كان الشاعر يستخدم لغة سلسلة وسهلة، واستعان بكلمات بسيطة تعبر عن الصدق الوجداني، وعمق الفكرة، ومزج بين ذاتية الوجدان ودقة الفكر.
واستعمل أيضًا الألفاظ الدالة على ذلك، فهذا “اتحاد رائع، كالروح، لا ينفصم أبدًا”. هكذا عبر بوشكين عن انطباعاته الذاتية ذات المعاني الإنسانية العميقة التي بدت كأنها مرتبطة بأفكار عصره، ولكنها ما زالت تؤثر في وجدان القارئ المعاصر، ونشعر بارتباط متبادل ومتكامل بين النص والقارئ، وتبدو أفكار هذا النص مرتبطة بفترة زمنية محددة في حياة الشاعر الخاصة، تأثر بها قارئ عصره، ولكننا نؤكد أن مضمونها الإنساني ما زال يلقي بظلاله ويؤثر في وجدان القارئ المعاصر؛ فهي تلبي وتشبع احتياجاته في عصرنا هذا.
تخرج الشاعر الشاب في مدرسة الليسيه، وبدأ مرحلة جديدة من حياته، حيث عمل في دواوين وزارة الخارجية، وانضم إلى جمعية أدبية، وشارك في أعمال واجتماعات جمعية أدبية أخرى، وكان يناقش كل القضايا السياسية والأدبية والاجتماعية التي تهم الرأي العام حينذاك في كثير من الحلقات والصالونات الأدبية.
في هذه الآونة تأسست أيضًا الجمعيات السرية من شباب النبلاء لمواجهة السلطة والدعوة إلى الثورة لإعادة تنظيم الحياة في روسيا، ولكن بوشكين كان له أسلوب خاص لمناهضة الظلم، فهو بوصفه فنانًا مبدعًا، منحه الله موهبة فذة، كان يؤمن بأن صدق كلمة الأديب لها تأثير قوي ومؤثر وساحر في أفئدة البشر وألبابهم، فالقلم في يده كالرمح في يد المحارب، حيث يؤمن شاعرنا أن الأدب- فن اللغة- يجب أن يكشف عن حقيقة الحياة، ولا بد أن يكون شديد الصلة ووثيق العلاقة بإبداع الفولكلور الشعبي الذي هو صورة صادقة للنفس البشرية، وتمثيل لما يحس به عامة الناس من آلام وآمال، ويكتب بلغة سهلة تستطيع العامة والخاصة أن تفهمه، وأن يكون معبرًا عن القضايا السياسية والاجتماعية والعاطفية لأي عصر، وقبل كل شيء يجب أن يكون إنسانيًّا.
ذاع صيت الشاعر، وسطع نجمه، واتسمت هذه الفترة بغزارة إنتاجه الشعري، فتداوله في الخفاء والعلن العامة والخاصة المولعون بأعماله التي كانت تكتب بخط اليد، ويعاد نسخها بإعجاب شديد، وبفرح منقطع النظير، ليس فقط في العاصمة وكبريات مدن روسيا الأخرى، وإنما أيضًا في المناطق البعيدة النائية بين مجتمع النبلاء الأرستقراطي، وطبقات المجتمع المختلفة من المثقفين وأبناء الفلاحين ذوي التعليم المحدود، وبين صفوف الجنود، فأصبحت تُردد على كل شفة ولسان.
سرعان ما انتشرت أشعار بوشكين وتمتعت بشعبية فائقة الوصف، وأصبح شاعرًا مشهورًا في ربوع روسيا كلها، يدعو صراحة إلى الحرية والقضاء على الظلم والاستبداد، فالتف الشبان حول أشعاره، وازدادوا اقترابًا منها وإيمانًا بها، وحفظوها عن ظهر قلب، فبدت مؤثرة ليس فقط في محبيه المتحمسين والمولعين بها، بل كانت في الوقت نفسه -من وجهة نظر الحكومة- تمثل خطرًا على المجتمع بأسره، واعتبرت السلطة أن أعماله تثير حمية أبناء وطنه إلى الثورة، فحاولوا النيل منه باستخدام وسائل شتى أدت في النهاية إلى أن أمر القيصر ألكسندر الأول بإقصائه وإبعاده إلى سيبيريا، ولكن بتدخل أصدقائه كارمزين وجوكوفسكي وتشادييف ومدير مدرسة الليسيه، ووساطتهم، نُفي إلى الجنوب عام 1820، حيث أقام فترة في القرم، ثم القوقاز، ثم ازدادت علاقته مع السلطة سوءًا، إذ تعرض للوشاية مرة أخرى لدى القيصر، الذي أصدر قرارًا آخر عام 1824 بنفيه إلى قرية نائية صغيرة تدعى ميخايلوفسكي، لكن هذا لم يثنه عن عزيمته في الدفاع عن الحرية.
يتغنى بوشكين في قصائده بالطبيعة ومفاتنها وسحرها، ويلاحظ أن قصائده عامرة بصور الطبيعة الروسية التي رسمها بمهارة فائقة، وهو يصور لوحات جميلة للطبيعة الروسية تضاهي ما يرسمه الفنان بريشته، وما يشكله النحات بأنامله، وما يعرفه الموسيقار بألحانه.
من أهم الأحداث التاريخية التي عاصرت بوشكين الحرب الوطنية عام 1812، وفيها صمد الشعب الروسي وقاوم وانتصر على نابليون في حملته على روسيا، وأيضًا انتفاضة الديسمبريين عام 1825، التي باءت بالفشل، وكان لها عظيم الأثر في حياة الشاعر. وعكست مؤلفات بوشكين التاريخية كثيرًا من قضايا عصره الأخلاقية والسياسية، وحياة النبلاء والفلاحين والمثقفين، والتناقض الرهيب في المجتمع الروسي، كما تعرض للعلاقة بين القيصر والشعب، نتيجة دراسة تاريخ وطنه التي ساعدت على كتابة إبداعاته التاريخية، مثل “عبد بطرس الأول”، و”دوبروفسكي”، و”الفارس النحاسي”، و”ابنة الآمر”.
استلهم بوشكين التراث القديم، ومزجه بقضايا عصره، ودمجه في خياله وإبداعه، وبذلك وظف تراث الماضي في خدمة الحاضر والمستقبل.
مر أكثر من مئتي عام على مولد ألكسندر سيرجيفيتش بوشكين أمير شعراء روسيا؛ فقد ولد الشاعر عام 1799، وسرعان ما أفل نجمه مبكرًا عام 1837، ولكن ما زال يعيش بيننا، ويتردد اسمه على أسماعنا، ونذكره على ألسنتنا؛ وذلك لما قدمه للبشرية من روائع فنية خالدة، شعرًا ونثرًا، تعكس إنسانيته، وحبه الشديد للإنسان، ودفاعه المستميت عن الحرية وعدم الاستبداد؛ ولذلك نال شهرة فائقة في الأوساط الأدبية العالمية، وحاز في الوقت نفسه إعجاب النقاد، سواء أكانوا من الشرق أم الغرب، إذ ترجمت معظم مؤلفاته إلى كل لغات العالم.
يبدو أن بوشكين مولع بالمحاكاة، ولم تكن “محاكاة القرآن” الوحيدة بين مؤلفاته؛ بل نجد عنده “محاكاة دانتي”، و”محاكاة العربي”، و”محاكاة حافظ”، و”محاكاة أناكريون”، فلم يجد بوشكين حرجًا في المحاكاة والتقليد، إذ ارتأى أن “الموهبة لا إرادية، ومحاكاتها لا تعد سرقة مخجلة، أو دليلا على القصور العقلي؛ بل تعني أملًا في القوى الذاتية، وفي ارتياد عوالم جديدة نسلكها في أثر العبقري”، وأن هذا لن يقلل من شأنه كشاعر موهوب.
ومن الملاحظ أن الشاعر جاء بمفردات الأضداد للدلالة على التوكيد، وقد نقل بدقة وبوعي بعض مفردات اللغة العربية التي تتميز بها بيئة العالم العربي في ذلك الوقت، “كالصحراء”، و”الرمال”، و”النخيل”، و”البئر”، خلافًا لما تتميز به البيئة الروسية في مؤلفاته الروسية، مثل “عند نهر الدنيبر”، و”ثلج الصباح”، و”شجرة الصنوبر”، و”الغابة الكثيفة”.
قدمت قصيدة بوشكين “محاكاة القرآن” عرضًا مقتضبًا لبعض ما جاء به. وما جذب بوشكين إلى القرآن الكريم هو الاقتداء به، وبما جاء به من أسوة حسنة، ونماذج رائدة، ودروس مستفادة، فكما هو معروف، فالصراع بين الحق والباطل تدور رحاه في كل عصر؛ ولذا وجد الشاعر في دعوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- “ما يعزي به نفسه”، إذ كان بوشكين يعاني نفيًا وإبعادًا في سبيل التصدي لطغيان القيصر وجبروته. وربما تأمل بوشكين من خلال اطلاعه على ترجمة معاني القرآن الكريم، ومنهج دعوة محمد -عليه الصلاة والسلام؛ “فقد اتخذ منه الأسوة والعبرة في الصبر والمثابرة، ومواصلة دعوته السامية، وعدم الرجوع عنها مهما تجشم من صعاب، وذلك بالإصرار على الصراع ضد الباطل”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.