نواصل في هذا المقال عرضنا للكتاب المهم الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2020، من تأليف الدكتورة مكارم الغمري، أستاذة الأدب الروسي المقارن في كلية الألسن بجامعة عين شمس، بعنوان “الأدب الروسي.. شاهد عصر”. وسنعرض في هذا المقال لكل من بوريس باسترناك ويسينين.
جاء “الميلاد الثاني” لبسترناك في وطنه، بعد أن تقرر إعادة الاعتبار إلى مؤلفاته المحظور نشرها، خاصة روايته الشهيرة “الدكتور جيفاغو” التي حصل بها على جائزة نوبل للآداب عام 1958، وذلك عندما احتفلت الأوساط الأدبية العالمية بذكرى مرور مئة عام على ميلاد الشاعر الروسي الكبير بوريس باسترناك (1890- 1960).
تفوق باسترناك، إلى جانب كتابة الرواية، في كتابة الشعر، الذي يعد من أكبر إنجازات الشعر الروسي، والعالمي في القرن العشرين. درس الفلسفة في جامعة موسكو ثم في ألمانيا، وصدر ديوانه الأول عام 1914. وينتمي باسترناك إلى جيل من الشعراء الذين عايشوا الثورة الروسية الأولى عام 1905 أطفالًا، ثم الحرب العالمية حين اشتد عودهم.
أعلن باسترناك نفسه مبدعًا في “وصف الطبيعة”، كما تعكس لوحات الطبيعة في أشعاره جانبًا من “الأنا” الداخلية لمبدعها. إن المنظر الطبيعي عند باسترناك هو تعبير مجازي عن موقف الشاعر “المتشكك” من الأحداث.
تعكس القصة الشعرية “1905”، وأيضًا “الملازم شميدت”، سعي باسترناك إلى الكتابة الملحمية. وقد ارتبطت القصة الشعرية “الملازم شميدت” بأحداث الثورة الروسية عام 1905، وقد غلب سعيه إلى التدوين التاريخي الذي يقترب بشدة من الحقائق التاريخية التي تطبع في المؤلف بالدرامية الشديدة النابعة من درامية الأحداث. كذلك تراءت شخصية الشاعر باسترناك في رواية “سبيكتورسكي”.
كما أثرى باسترناك حركة الترجمة الأدبية إلى الروسية، وقد ساعده على ذلك إتقانه كثيرًا من اللغات الأوروبية الغربية، وإجادته اللغة الجورجية. غرق باسترناك في ترجمة مؤلفات غوته وساكس وشكسبير وشيللر، وغيرهم من مشاهير أدباء الغرب.
يعد الشاعر أحد رواد حركة التجديد في الشعر الروسي في القرن العشرين. وكان مجال التحديث يكمن في الصور الشعرية، ولغة الشعر، وشكل القصيدة، فقد تميزت لغة الشعر عند باسترناك بالمزج بين “السامي” و”الداني”، واستخدام تعبيرات وتراكيب دارجة وعادية. يعبر المعنى عند باسترناك عن عالمين: عالم الروح وعالم الواقع، ويعكس رؤاه ومشاعره تجاه الواقع والأحداث.
تعمقت الهوة بين باسترناك والثورة بعد اجتماع اتحاد الكتاب عام 1931، وبعد أن وُجِّه إلى اسم باسترناك نقد عارم، ألقى به فيما بعد إلى بؤرة الوحدة والاغتراب. اتخذت كلمات باسترناك لنفسها طريقًا آخر، فأدارت ظهرها للأحداث. ورغم وثوق باسترناك في الهدف “الأخلاقي” للثورة، فإنه كانت تستوقفه “قسوة” متطلباتها، والحزم في “أوامرها”، وطريق “العنف التاريخي” الذي سلكته، وموقفها من الفن.
تأتي رواية باسترناك “الدكتور جيفاغو” تعبيرًا جليًا عن موقفه الناقد “لقسوة” الثورة، وتجسيدًا واضحًا لمأساته الروحية. ولم يُسمح بنشر الرواية في الاتحاد السوفيتي، في حين نشرها الغرب، ووظفها بمهارة في حربه الدعائية ضد الاتحاد السوفيتي. وقد عبر ياسترناك صراحة عن الأزمة الداخلية التي اعتصرته وقت كتابة رواية “الدكتور جيفاغو”، ولم يستطع أن يكتب بطريقة أخرى. رفض باسترناك أن يمضي مع جوقة “المنشدين” للثورة، واستطاع أن يلتف بجدار العزلة، لا يفهمه أحد، بعد أن فشل في حل المعادلة الصعبة التي طرحها الشاعر الكبير يسينين أمام الشعراء: “كيف يمكن ألا تهين نفسك، ولا تفقدها، وتكون في الوقت نفسه مفهومًا”. ومع ذلك، انتزعت موهبة باسترناك الشعرية حق الاعتراف والتقدير، فقد أكد غوركي أن باسترناك يُعد “موهبة شديدة التفرد”.
وقد حاول باسترناك أن يتواءم مع النظام، فاتجه إلى كتابة القصائد الملحمية التي تتناول بعض الأحداث التاريخية، واحتدمت الأزمة بينه وبين السلطة عام 1934 الذي شهد مزيدًا من ممارسات العنف والاعتقالات.
استغرق وقت كتابتها عشر سنوات. وهي رواية تحكي عن معاناة جيله، وعن الأحداث التاريخية الجسام التي شهدها. ويحمل بطل الرواية كثيرًا من الملامح الشخصية لبسترناك، حيث بدا د. جيفاغو متحمسًا للخطوات الأولى للثورة، ولكنه يفقد تدريجيًّا هذه الحماسة. حاول باسترناك نشر الرواية في عصر خروشوف، في الفترة التي أعقبت القبضة الحديدية الستالينية، فترة “ذوبان الجليد”، ولكنه تلقى عام 1956 رفضًا قاطعًا لنشر الرواية، وظهرت الرواية عام 1957 باللغة الإيطالية، تلتها الطبعة الروسية في هولندا. وانهالت على باسترناك ثورة من الغضب والتنديد، وصنفت الرواية بأنها “طعنة في ظهر الوطن”.
مُنح باسترناك عام 1958 جائزة نوبل في الآداب، وأثارت الجائزة ثورة عارمة في الاتحاد السوفيتي. ومن جهة أخرى، نظمت في الغرب حملات لمناصرة باسترناك شارك فيها أدباء كبار، وشخصيات عامة.
وفي الوطن وُجهت إليه تهمة الخيانة بسبب تأليفه ونشره مؤلفات مناهضة للدولة السوفيتية، لكنه سقط صريعًا للمرض، وانتهت حملة المطاردة من السلطة بموته.
بعد وفاة باسترناك، وتراجع النظام الشيوعي، وفي أواخر سنوات عمر الاتحاد السوفيتي، أُعيد الاعتبار إلى اسمه عام 1989 في معرض أُقيم في متحف الفنون التشكيلية، وفي إطار الفعاليات أحضر سفير السويد إلى المعرض شهادة جائزة نوبل التي لم يتسلمها باسترناك في حياته، أما الميدالية فقد تسلمها نجله في إطار حفل منح جوائز نوبل عام 1989، وقد تزامن ذلك مع الاحتفال بمئوية باسترناك. وأشير في أثناء الحفل، إلى أن رفض باسترناك الجائزة آنذاك كان اضطراريًّا. وعاد باسترناك مكرمًا إلى وطنه، بعد إلغاء قرار الاتحاد القديم الذي صدر عام 1958، الخاص بطرد باسترناك من عضوية اتحاد الكتاب، والاحتفال بمئويته، وتحويل مقر إقامته إلى متحف قومي عام.
أعطت الأصالة التي ميزت إنتاج سيرجي يسينين حق البقاء والصمود أمام عواصف الزمن وتقلباته، فقد عانى إنتاج الشاعر الإهمال والحظر في سنوات الستار الحديدي في الاتحاد السوفيتي في الفترة (1933- 1955)؛ فهو لم يكن من الأدباء الذين يندرج إنتاجهم في إطار مذهب الواقعية الاشتراكية الذي فُرض على الحياة الثقافية في روسيا.
أُحيط الشاعر في طفولته بعبق القرية الروسية المتميز، ومذاقه الخاص، حيث الطبيعة الغنية، والكنائس التي تصدح أجراسها في ربوع القرية، والفلاح الذي يكدح في الأرض ويترنم بأغنية الكد والشقاء، وكان جده الذي تربى في كنفه فلاحًا ميسور الحال؛ مما ساعد على إدراكه منذ طفولته المبكرة طبيعة العمل الشاق في الأرض.
تربى يسينين مثل أقرانه على الأسطورة الشعبية، وكانت جدته هي مصدره الرئيس الذي عرف من خلاله التراث الشعبي، بالإضافة إلى تأثير الحكايات التي حكتها له مربيته الفلاحة البسيطة. تلقى تعليمه في المدارس الكنائسية في قريته التي كانت مهمتها تربية الأطفال في روح من تعاليم الديانة المسيحية. كما روي أن جدة الشاعر كانت تستضيف الرهبان ورجال الدين لإحياء الصلوات، وترتيل الأناشيد الدينية في منزل الأسرة حيث تربى يسينين في رعاية جدته. وهكذا ترعرع في إطار التربية الدينية المحافظة، وفي جو الحياة الفطرية للقرية التي أطلق لنفسه العنان بين أحضان طبيعتها.
كان وصف الطبيعة، طبيعة القرية بالذات، هو الموضوع الرئيس والغالب في أشعار يسينين. كما أن الصورة الشعرية في إنتاج يسينين المبكر تخلو من المبالغة في الوصف، وتتسم بالبساطة والإخلاص في التعبير. ويتقاطع وصف الطبيعة في أشعاره مع موضوع الوطن. كما يعني يسينين في أشعاره المبكرة بالرمز الديني، كما يوظف عناصر الفولكلور في تصوير الواقع الروحي والمعيشي للفلاح.
تجنبت أشعار يسينين المبكرة التلميح إلى المشكلات الاجتماعية، كما تجاهلت أحداثًا تاريخية مهمة معاصرة، مثل اضطرابات الفلاحين في القرى الروسية في مطلع القرن العشرين، ويغلب عليها بشكل عام، مزاج متذبذب بين الإحساس بالسعادة والبهجة، وشعور آخر مناقض بالتعاسة والفشل.
انتقل يسينين عام 1912 للعيش في موسكو بعد انتهاء المرحلة المدرسية في القرية، وتبدأ في المدينة رحلة العذاب النفسي لابن القرية، وتتوتر علاقته بأسرته، وتتكشف له المدينة كعالم “بلا روح”، ويظهر له أهل المدينة “كالذئاب”، ويسيطر على الشاعر إحساس بعدم الرضا، والتناقض الروحي مع البيئة المحيطة، وينعكس هذا الشعور بوضوح في أشعاره، إذ يتقهقر بها المنظر الطبيعي الزاهي الذي كان يتصدر أشعاره المبكرة. ومع ذلك، حافظ يسينين على روح ابن القرية، كما ظل بعيدًا عن اضطرابات العمال التي كانت تموج بها المدينة الكبيرة، والتي كان قريبًا منها بحكم عمله في أحد المصانع. وبدأ يتأثر تدريجيًّا بالمناخ العام النشيط في موسكو، واكتسبت أشعاره موضوعات جديدة. ويدين في إحدى قصائده حكم القيصر إيفان الثالث، ويتطرق في قصيدة أخرى إلى موضوع الحرب، ويندد بها ويرفضها. واكتست أشعاره بمسحة من الألم على حال القرية، والأحوال السيئة التي تردت إليها قريته، ولفتت مسحة الحزن أنظار من سمعوها، وكان من بينهم إمبراطورة روسيا نفسها.
استُدعي الشاعر إلى الخدمة العسكرية عام 1915، بعد أن طرقت الحرب العالمية الأولى أبواب روسيا، وتمر الحرب دون أدنى صدى يذكر في أشعاره. داعبت الثورة السوفيتية عام 1917 مخيلته بشعارات الحرية والوعود بالجنة الاشتراكية، وتجاوبت هذه الوعود مع أحلام أفضل لقريته.
لكن يسينين وقع فريسة للتيارات التجديدية التي ظهرت بعد الثورة السوفيتية، ولم يتقبل الشاعر ممارسات العنف من جانب الثورة لتدعيم سلطتها، حيث إنه لم يكن من أنصار الوصول إلى التغيير الاجتماعي من خلال الثورات.
من هنا بدأ الانفصال الروحي التدريجي بين شاعرنا والثورة، وانضم إلى الجماعات الأدبية التي ترفع شعار “الفن للفن”، والتي تطالب بضرورة فصل الفن عن مشكلات الحياة، وتدعو إلى ما سمّته تحرير “الوعي والروح”، وغرقت أشعاره بالرمز الديني والغرابة، واجتنبت قصائده تصوير ظروف الثورة. وانغلق الشاعر على عالمه الخاص، المفعم بمشاعر الرفض للثورة وأهدافها ومساعيها.
يشعر الشاعر بالقلق الشديد على مصير قريته بعد الثورة، فكان زحف الحياة الصناعية إلى القرية يعني بداية النهاية لعالمه الخاص، والزوال التدريجي لتلك المسحة الشاعرية التي تُزين كل حياة روسيا: للقرية حامية الأعراف والتقاليد، والمحافظة على ذلك “العالم السحري القديم”. وكان يستشعر أن كل ما يحدث حوله يخنق الصوت الحي “للروح الإنسانية”.
يسقط يسينين فريسة لمشاعر العزلة والغربة مع النفس، ومع الواقع، وينتابه شعور بعبثية وجوده في ظروف الحياة الجديدة في بلاده. ويسير يسينين بنفسه إلى نهايته المأساوية، حين يخنق نفسه في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1925 وهو في قمة شبابه، ولكن أشعاره ظلت باقية صامدة أمام تقلبات الزمن، وباتت رمزًا للحب والارتباط بالأرض. وغفرت الثورة السوفيتية ليسينين خصامه معها، وأدركت حبه الشفاف لروسيا “سُدس العالم” كما كان يحلو له أن يتفاخر في قصائده برحابة أرضها، وصارت أشعاره أغنية تتناقلها الأجيال، وماثلة في الذاكرة الثقافية، بوصفها رمزًا للكلمة الصادقة النقية، المعبرة عن الوجدان الشعبي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.