تاريخمقالات المركز

قازان 2026 .. عاصمة ثقافية للعالم الإسلامي ورمز تلاقي الحضارات


  • 27 أبريل 2025

شارك الموضوع

منذ إعلان وزراء الثقافة في منظمة التعاون الإسلامي في جدّة (فبراير/ شباط 2025) منحَ قازان لقب “العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي” لعام 2026، بدا واضحًا أنّ المدينة الواقعة على ضفاف الفولغا لا تكتفي بالاحتفاء بماضيها؛ بل تستعدّ لكتابة فصلٍ جديدٍ في علاقة روسيا بالمجتمع الإسلامي الدولي. القرار لم يكن وليد المصادفة، بل كان تتويجًا لمسار تاريخي يمتدّ إلى أكثر من ألف عام، ويتقاطع فيه إرث بلغار الفولغا، وحقبة خانية قازان، والتجربة القيصريّة والحقبة السوفيتية، وصولًا إلى تتارستان المعاصرة التي تقدِّم نفسها مختبَرًا للتنوّع وإبداع نموذجٍ للحداثة المتصالحة مع هويّتها الدينيّة.

إرثٌ عمرُه ألفُ عام

يرتبط تاريخ قازان عضويًّا ببزوغ الإسلام على نهر الفولغا في القرن العاشر، فقبيلة البلغار التي اعتنقت الدين الحنيف عام 922 حوّلت المنطقة إلى مركزٍ للتجارة بين روسيا الكييفيّة، والخلافة العباسيّة، وإماراتِ آسيا الوسطى. ومع قيام خانية قازان في القرن الخامس عشر، أصبحت المدينة عاصمةً لسلطةٍ تتريّةٍ تنافست مع القيصريّة الروسية سياسيًّا وثقافيًّا، فاستقطبت علماءَ الفقه واللغة، وازدهرت فيها صناعة الكتب باللغتين العربية والتتارية. سقوط الخانية سنة 1552 بيد إيفان الرهيب لم ينهِ دور قازان؛ فبعد قرنين أعادت الإصلاحات القيصرية فتحَ الباب أمام التعليم الإسلامي، لتنشأ شبكةُ كتاتيب ومعاهد صاغت جيل المصلحين التتار في القرن التاسع عشر.

رمزيةُ الكرملين ومسجد “قول شريف”

يتجلّى التلاقي المعماري بين الأرثوذكسية والإسلام في كرملين قازان المُدرَج على قائمة التراث العالمي لليونسكو. بين جدرانه التي تشهد لتاريخٍ صاخب، ارتفع عام 2005 مسجدُ “قول شريف” بحلّته الجديدة، مجاورًا لأبراج الأجراس الأرثوذكسية. اختيار هذا المسجد تحديدًا موقعًا للافتتاح الرمزي للألفية كشف رغبة التتار في ترميم ذاكرتهم، وترسيخها ضمن هوية روسية تعددية. اليوم يتحول “قول شريف” إلى واجهةٍ تروّج للإسلام الروسي المعتدل، وترحّب بحجّاجٍ داخليين، وخبراء ترميم دوليين، وخبراء حوار ديني.

الاقتصاد الإبداعي والصناعات الحلال

تدرك قيادة تتارستان أنّ المكانة الرمزية لا تكفي؛ لذا يتزامن التحضير لعام 2026 مع خطّة تنويع اقتصادي تتّكئ على سوق عالمية للمنتجات والخدمات الحلال تقدَّر بتريليونات الدولارات. في مايو (أيار) 2025 سيستضيف «KazanForum» أوّل مؤتمرٍ لوزراء الثقافة في تاريخ روسيا على هامش منتدى “روسيا- العالم الإسلامي”، وستحتلّ الصناعات الإبداعية، والذكاء الاصطناعي باللغة التتاريّة، وتمويل المشروعات الصغيرة بالصيرفة الإسلامية صدارة النقاشات. تقديرات الحكومة المحليّة تشير إلى استقبال 25 ألف مشارك من 87 دولة، وإبرام اتفاقات استثمارٍ خليجية في قطاعات التكنولوجيا الحيوية والأغذية الحلال.

خطةُ 2026 رزنامةٌ تتجاوز الاحتفال

وثيقة العمل الأوليّة التي صاغتها وزارة الثقافة في تتارستان -بالتشاور مع “إيسيسكو”- تضمّ أكثر من 300 فعالية تمتدّ على مدار العام:

معارض الخط التتاري والعربي في متحف إسماعيلوف للفنون، ترافقها ورشُ نسخٍ يدوي للمصاحف.

مهرجان الإنشاد الصوفي الدولي: بمشاركة فرقٍ من المغرب وتركيا والباكستان، يُقام في الفضاء المفتوح خلف جدران الكرملين.

أسابيع السينما الإسلامية: تُخصَّص لإبداعات شابة من أندونيسيا وإيران ومصر والسودان، على أن تُترجَم الأعمال تلقائيًّا إلى التتارية والروسية.

مسارات الحج الداخلي: قوارب نهرية تنقل الزوّار إلى جزيرة سفيّاجسك، مع ترميم الزوايا والمدارس القديمة لتوظيفها بيوتَ ضيافةٍ ثقافية.

منتدى دولي للذكاء الاصطناعي وتعليم العربية: يُطوّر تطبيقاتٍ للصوتيات العربية للأقليات المسلمة في شمال روسيا وسيبيريا.

بعدٌ إستراتيجي يتجاوز الحدود الروسية

تحويل قازان إلى محور ثقافي إسلامي لا يخدم ترويج صورة معتدلة لروسيا في الشرق الأوسط فحسب؛ بل يعزّز موقع موسكو تفاوضيًّا في ملفاتٍ جيوسياسية، حيث تؤدي الثقافة دورًا مكمّلًا للدبلوماسية الصلبة. يتيح المشروع للعالم الإسلامي التعويل على شريكٍ يملك رصيدًا حضاريًّا إسلاميًّا داخل دولةٍ كبرى ذات نفوذٍ في مجلس الأمن، ويعاني في المقابل عزلةً غربية تدفعه إلى توطيد تحالفات “جنوبية”.

  1. استعادة الذاكرة: يقدّم عام 2026 فرصةً لإظهار الوجه التاريخي للإسلام الروسي، وإعادة دمجه في المخيال الجمعي الإسلامي المعاصر.
  2. قوة ناعمة روسية: تُستثمر الثقافة لتعويض تقييد النفوذ العسكري والاقتصادي، وتفتح مسارات تفاوضٍ غير تقليدية مع دولٍ إسلامية تقودها اليوم موازينُ قوى جديدة.
  3. تنويع الاقتصاد: الصناعات الحلال، والسياحة الروحية، والاقتصاد الإبداعي، قد تُحوِّل تتارستان إلى نموذجٍ يُحتذى به للأقاليم الروسية الباحثة عن بدائل للتصدير التقليدي للطاقة.
  4. حوار حضاري عالمي: تطرح قازان نفسها مختبرًا لتلاقي الأرثوذكسية والإسلام؛ ما يبعث برسالة مفادها أن التعددية الدينيّة ليست مصدر انقسام؛ بل أساس تماسك وطني.

بهذا المعنى، لا يقتصر لقب “العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي” على احتفالاتٍ مراسمية؛ بل يشكّل تعبيرًا عن رؤية روسية جديدة ترى في التراث الإسلامي الداخلي جسرًا إلى شراكات اقتصادية وروحية مع مليارَي مسلم، وترى في قازان مختبرًا حيًّا لإثبات أن التنوع القائم على الاعتراف المتبادل يمكن أن يتحوّل إلى قوة تنموية فريدة في قلب أوراسيا.

أفق جديد.. البنية التحتية المعرفية والرقمية

لا تكتفي تتارستان بإطلاق مهرجاناتٍ ثقافية؛ فهي تستثمر في جامعتها التقنية “إنوبوليس” التي تقود ائتلافًا كمّيًّا طموحًا لتوطين التقنيات فائقة الأداء، وتمدّ جسور شراكة مع مشروع الحكومة الفيدرالية “كوادر للاقتصاد الرقمي”. ستُخصَّص مختبراتٌ مفتوحة خلال 2026 لبحوث الذكاء الاصطناعي باللغة التتارية، ولصناعة ألعابٍ تعليمية عن الحضارة الإسلامية؛ ما يرسّخ صورة قازان كـ”وادي سيليكون” إسلامي على ضفاف الفولغا.

دبلوماسية الشعب.. دور الشتات التتاري

يقدَّر عدد التتار خارج روسيا بنحو مليونَي نسمة ينتشرون بين تركيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. مشروع “جواز الثقافة” الذي تُطوّره وزارة الخارجية التتارية سيزود أفراد الشتات ببطاقة إلكترونية تتيح لهم دخول المتاحف مجانًا، والمشاركة في دورات لغة عبر الإنترنت؛ ما يحوّلهم إلى سفراء لقازان، ونافذةٍ دائمة للعالم الإسلامي على المشهد الثقافي الروسي.

قازان الخضراء.. الهوية البيئية عنصرًا ثقافيًّا

ضمن رؤية “عاصمةٍ بلا انبعاثات”، يعتمد مجلس المدينة إطارًا مائيًّا أخضر يربط حدائق الكرملين بالبحيرات المُستعادة، ويُحضِّر لإطلاق “جائزة الوقف الأخضر” لتشجيع المؤسسات الإسلامية على تمويل مساحات عامة صديقة للمناخ. هكذا تمتزج مفاهيم الوقف التاريخي بعلوم التخطيط الحديثة لتقديم نموذج استدامة يحمل بُعدًا روحيًّا.

الاستنتاجات

إنّ منح قازان لقب “العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي” لعام 2026 ليس مجرّد تكريمٍ رمزيّ؛ بل هو دليلٌ على تحوّل إستراتيجيّ تتقاطع فيه ثلاثة أبعاد جوهرية؛ أوّلها: استعادة الذاكرة؛ فروسيا تعيد إبراز إرثها الإسلامي الممتدّ منذ بلغار الفولغا وخانية قازان لتحتله مكانةً مركزية في سرديّتها الوطنية، وتقدّمه للعالم الإسلامي بوصفه جزءًا أصيلًا من هويّتها المتعدّدة. ثانيها: القوة الناعمة والتنمية؛ فالمدينة توظّف هذا اللقب لإطلاق اقتصاد إبداعي قائم على الصناعات الحلال والذكاء الاصطناعي والتعليم الرقمي؛ ما يفتح أسواقًا بديلة، ويخلق مسارًا تنمويًّا جديدًا وسط القيود الجيوسياسية. ثالثها: الدبلوماسية الثقافية العابرة للحدود؛ إذ تتحوّل قازان إلى منصّة حوارٍ بين الأرثوذكسية والإسلام، وبين الشمال والجنوب، مسلّحةً بشبكة الشتات التتاري، ومبادرات الاستدامة الخضراء، فتقدّم نموذجًا حضاريًّا يُثبت أن التنوع ليس عبئًا؛ بل رافعة قوةٍ وتنمية. بذلك يُراد لعام 2026 أن يكون نقطة انطلاق لعقد جديد من الشراكات الروحية والاقتصادية بين روسيا والعالم الإسلامي، تُترجَم فيه المآذن والقباب إلى مختبرات ابتكار، ومسارات تعاون طويل الأمد.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع