كانت السجون تمثل عبر التاريخ أداةً فعّالة للأنظمة الاستبدادية في قمع معارضيها وإسكات الأصوات الحرة. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار معسكرات الغولاغ السوفيتية وسجن صيدنايا السوري مثالين صارخين على استخدام السجون وسيلةً قمعية تستهدف تحطيم الكرامة الإنسانية. تميّزت معسكرات الغولاغ في الحقبة السوفيتية بأنها منظومة قسرية تشمل معسكرات عمل تهدف إلى استغلال السجناء اقتصاديًّا، حيث عانى الملايين ظروفًا غير إنسانية أدت إلى الموت البطيء بسبب الجوع، والبرد القارس، والعمل الشاق. بالمقابل، جسّد سجن صيدنايا في سوريا رمزًا للوحشية المفرطة خلال العقود الأخيرة، حيث عُرف بأنه “المسلخ البشري”؛ نتيجة للتقارير التي توثّق التعذيب الوحشي، والإعدامات الجماعية التي طالت الآلاف من المعتقلين السياسيين. تتشابه الروايات القادمة من كلا الموقعين في تصوير القسوة الممنهجة التي استهدفت إلغاء الإنسانية من خلال التعذيب النفسي والجسدي. في الغولاغ، روى ألكسندر سولجنيتسين، في كتابه “أرخبيل الغولاغ”، تفاصيل دقيقة عن أساليب القمع، في حين شهدت تقارير منظمة العفو الدولية على فظائع صيدنايا، التي شملت إعدامات سرية، وتعذيبًا جعل السجن رمزًا للرعب في العصر الحديث. إن دراسة مقارنة بين الغولاغ وصيدنايا تفتح آفاقًا لفهم آليات القمع، وأوجه الشبه بين الأنظمة الاستبدادية، كما تعزز الحاجة إلى توثيق هذه الجرائم كجزء من ذاكرة تاريخية جماعية تضمن عدم تكرار هذه الفظائع.
عند النظر إلى معسكرات الغولاغ السوفيتية وسجن صيدنايا السوري، يتضح وجود تشابهات كبيرة في أساليب القمع وطرائق الإدارة التي تُمارس بحق المعتقلين؛ أولًا: كلا الموقعين يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على استغلال الخوف كوسيلة للسيطرة. في الغولاغ، كان الخوف من الترحيل إلى مناطق نائية، وظروف العمل الشاقة، يضمنان الطاعة، وفي صيدنايا كان التعذيب والإعدام يستخدمان كأدوات لزرع الرعب بين السجناء وأسرهم. ثانيًا: يمثل الإخفاء القسري عاملًا مشتركًا آخر، حيث إن السجناء في الغولاغ وصيدنايا غالبًا ما يُحتجزون بدون محاكمات عادلة، ويُحرمون من أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم. تمثل قصة السيدة السورية التي وُجدت بعد عقود من اختفائها في صيدنايا مثالًا حيًّا على هذه الظاهرة.
إضافة إلى ذلك، كان كلا النظامين يعتمد على الإعدام الجماعي وسيلةً عقابية؛ ففي الغولاغ، تشير التقديرات إلى أن ملايين الأشخاص لقوا حتفهم نتيجة الإعدامات أو الظروف القاسية، وفي صيدنايا، وثّقت منظمة العفو الدولية تنفيذ آلاف الإعدامات خلال فترة قصيرة، وهذه الأفعال تُظهر أوجه التشابه في استخدام القمع أداةً لإسكات الأصوات المعارضة، والقضاء على أي تهديد محتمل للنظام.
على الرغم من التشابهات الصارخة، فإن هناك اختلافات جوهرية بين الغولاغ وصيدنايا ترتبط بالسياق التاريخي والسياسي لكل منهما. في الغولاغ، كان الهدف الأساسي اقتصاديًّا؛ حيث كان السجناء يُستخدَمون كقوة عمل رخيصة في مشروعات الدولة، مثل التعدين وبناء البنية التحتية. أما في صيدنايا، فإن الهدف كان سياسيًّا بالدرجة الأولى، حيث استُهدِفَ المعتقلون السياسيون والنشطاء لإسكات المعارضة، وضمان استمرار نظام بشار الأسد.
كما يختلف السياق الثقافي والاجتماعي في الحالتين؛ فمعسكرات الغولاغ كانت جزءًا من منظومة شيوعية تسعى إلى بناء دولة قائمة على الاقتصاد المخطط، في حين كان سجن صيدنايا أداة قمع لنظام سلطوي يواجه ثورة شعبية، وهذا التفاوت يعكس اختلاف الأولويات السياسية والاقتصادية لكل من النظامين.
الشهادات الإنسانية من كلا الموقعين تقدم نظرة عميقة إلى المعاناة التي عاشها السجناء. في معسكرات الغولاغ، وصف سولجنيتسين وشالاموف التجارب اليومية للسجناء، ومنها الجوع الشديد، والعمل القسري، والبرد القاتل. في إحدى رواياته، يقول شالاموف: “لم يكن الغولاغ مكانًا للموت فقط، بل كان مكانًا لمحو الإنسانية”. في صيدنايا، تعكس شهادات الناجين مستويات مروعة من العنف الجسدي والنفسي. أحد الناجين يروي أنه كان يشاهد الإعدامات الجماعية يوميًّا، وأن التعذيب كان يبدأ فور وصول المعتقل إلى السجن.
أدى الأدب دورًا محوريًّا في فضح جرائم الغولاغ، حيث قدّم ألكسندر سولجنيتسين شهادات دقيقة عن معاناة السجناء من خلال أعماله الأدبية التي أثارت وعيًا عالميًّا بفظائع النظام السوفيتي. كما أسهمت أعمال فارلام شالاموف في إبراز الجانب الإنساني لهذه الكارثة التاريخية. في المقابل، يحتاج سجن صيدنايا إلى جهود أكبر في مجال التوثيق الأدبي، حيث ما زالت معظم الشهادات تعتمد على تقارير المنظمات الحقوقية وشهادات الناجين. إن توثيق هذه الجرائم من خلال الأدب يعزز الذاكرة التاريخية، ويدعم جهود تحقيق العدالة للضحايا.
في كتابه “أرخبيل الغولاغ”، قدم ألكسندر سولجنيتسين شهادات مروعة عن التجارب اليومية للسجناء. من بين هذه القصص قصة سجين يدعى إيفان، قضى أعوامًا في معسكرات سيبيريا يعمل في مناجم الفحم بدرجات حرارة تصل إلى 50 درجة تحت الصفر. حُرم إيفان من الطعام الكافي، وعانى سوء التغذية؛ مما جعله غير قادر على العمل بالوتيرة المطلوبة، وهو ما عرّضه للضرب المستمر من حراس السجن. في نهاية المطاف، مات إيفان من الإنهاك، ولم يكن لجثته سوى حفرة جماعية بلا اسم.
ويروي الكاتب السوفيتي فارلام شالاموف، في “حكايات كوليما”، تفاصيل عن سجين حاول الهروب عبر الغابات الجليدية، لكن قُبِضَ عليه بعد أيام من التيه في الثلوج، وأُعيد إلى المعسكر حيث خضع لجلسة تعذيب شديدة انتهت بموته أمام زملائه السجناء، ليكون عبرة لكل من يفكر في التمرد. كانت هذه الحوادث اليومية جزءًا من إستراتيجية النظام السوفيتي لكسر إرادة الإنسان، وإلغاء هويته.
من القصص الأكثر إيلامًا هي تلك المتعلقة بالأطفال الذين وُلدوا داخل هذه السجون. في الغولاغ، كانت النساء الحوامل يُجبرن على العمل حتى اللحظة الأخيرة من ولادتهن، وغالبًا ما كان الأطفال يموتون نتيجة الظروف القاسية. في صيدنايا، تشير بعض الشهادات إلى أن النساء تعرضن لتعذيب جسدي شديد في أثناء الحمل؛ مما أدى إلى وفاة كثير من الأجنة.
في صيدنايا، يبدو المشهد مختلفًا في السياق، لكنه مشابه في القسوة. واحدة من القصص التي تداولتها وسائل الإعلام هي حكاية امرأة سورية تبلغ من العمر 85 عامًا، وُجدت في السجن بعد اختفائها أكثر من 40 عامًا. كانت تعمل صيدلانية قبل اعتقالها في الثمانينيات بسبب خلاف مع ضابط أمن. عند تحريرها، ظهرت بحالة إنسانية صعبة، وكانت غير قادرة على التعرف إلى عائلتها بسبب الصدمة والانقطاع الطويل. قصتها تلخص عقودًا من القهر والانتهاكات في سجن صيدنايا.
من بين القصص الأخرى، شهادة أحد الناجين، الذي روى كيف أُجبر على مشاهدة زملائه السجناء يُعدمون شنقًا. كان الحراس يستخدمون هذه المشاهد لترهيب المعتقلين الباقين، ومنع أي محاولة للمقاومة. يروي الناجي أن أصوات صراخ السجناء كانت تُسمع بوضوح في الزنازين؛ مما جعل النوم مستحيلًا، وزاد من حجم المعاناة النفسية.
هذه القصص ليست مجرد توثيق للفظائع؛ بل هي شهادة على قدرة الأنظمة الاستبدادية على نزع الإنسانية من المعتقلين، وتحويلهم إلى أدوات للترهيب. من الغولاغ إلى صيدنايا، تتكرر أنماط القمع والتعذيب؛ مما يسلط الضوء على الاستمرارية التاريخية لهذه الأساليب الوحشية. رغم كل ذلك، فإن شهادات الناجين تمثل أملًا في كشف الحقيقة، وضمان عدم نسيان هذه الجرائم.
التأثير العاطفي والإنساني لهذه القصص يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد سرد المعاناة؛ فهو يكشف عن الجوانب الأكثر إيلامًا وعمقًا في التجربة الإنسانية تحت وطأة القمع. تتجلى في روايات الناجين مشاعر الألم، والخوف، واليأس، لكنها تحمل أيضًا بصيصًا من الأمل والإصرار على البقاء رغم كل الظروف. تشكّل هذه الشهادات تذكيرًا قويًّا بأن الظلم والاستبداد قد يتمكنان من قهر الجسد، لكنهما لا يستطيعان كسر الروح الإنسانية تمامًا.
من خلال نقل هذه القصص، يتحقق هدف مزدوج؛ أولًا: كشف الأساليب الوحشية التي استخدمتها الأنظمة الاستبدادية لتحطيم كرامة الإنسان، وثانيًا: تحفيز العالم على اتخاذ إجراءات لمنع تكرار هذه الجرائم في المستقبل. إن قوة هذه الشهادات تكمن في قدرتها على إحياء أصوات الضحايا الذين لم يعد بإمكانهم الكلام؛ ما يجعلها جزءًا من الجهد العالمي لتحقيق العدالة، وحماية حقوق الإنسان.
تذكّرنا هذه القصص بأهمية الذاكرة الجماعية؛ فتوثيق معاناة الضحايا لا يقتصر على سرد الأحداث؛ بل هو صرخة تحذير للأجيال القادمة. إن الجرائم التي وقعت في الغولاغ وصيدنايا ليست مجرد أحداث معزولة؛ بل هي تجسيد للقدرة البشرية على القسوة، وفي الوقت نفسه، تجسيد للقدرة على المقاومة. تكمن مسؤوليتنا كأفراد ومجتمعات في ضمان أن هذه المآسي لن تُنسى، وأن الجهود المستمرة لمواجهة الظلم والقمع ستبقى حية، لتظل الإنسانية دائمًا فوق أي استبداد أو ظلم.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.